توفي، في العشرة الأخيرة من شهر آب/ أغسطس المنصرم، صحافي لبناني "كبير"، أنشأ صحيفة بيروتية يومية في 1974، عشية انفجار حروب لبنان اللبنانية والملبننة، ورعى صدورها طوال 42 سنة تامة، من آذار/ مارس 1974 إلى أواخر 2016. واتفق صدور الصحيفة، غداة حرب تشرين الأول/ أوكتوبر 1973، مع ظهور ذيول الحرب المصرية/ السورية- الإسرائيلية التي ردّت إلى الدولتين العربيتين المحوريتين، يومذاك، أراضي استولت عليها الدولة العبرية في حرب الأيام الستة، في حزيران/ يونيو 1967. وابتدأت سلسلة المفاوضات الطويلة والمتعرّجة التي حملت السياسات العربية على الخروج من "لاءات الخرطوم" (لا مفاوضة، لا اعتراف، ولا سلم مع "إسرائيل") إلى الاعتراف الصريح، أو إلى "نقاتل بشرف ونفاوض بشرف" الأسدية السورية، المتحفّظة والملتبسة معاً.
ومن ذيول الحرب هذه- وهي سدت باب حروب الدولة العربية، والسورية على الخصوص، مع إسرائيل وعليها، على قول عبدالحليم خدام (1932- 2020)، وزير خارجية حافظ الأسد طوال نحو العقدين ونائبه على الرئاسة إلى حين انشقاقه عن الإبن في 2011، بعد تجميد دوره في ولاية الإبن- الإعداد المحموم للصراع على "فلسطين" والفلسطينيين المنتشرين في بلدان الطوق، على ما سُمّيت تيمُّناً. وذلك في إطار مشرق عُزلت منه كبرى دوله (مصر)، وتحوّل مسرحاً مضطرباً لنزاعات داخلية حادة، جددت تلك التي خلفت "النكبة" الفلسطينية الأولى في 1948 وحملت القيادات العسكرية العامية والشابة إلى السلطة محل النظام القديم أو السابق، وجماعاته التقليدية.
ونشبت منافسة إقليمية على الصدارة بين القيادات العسكرية والحزبية المستولية، وبينها وبين الأنظمة القديمة وجماعاتها، الثرية بالنفط أو الفقيرة. واحتدت المنافسة جراء دخول أنظمة مستولية وطرفية جديدة، شأن معمر القذافي في ليبيا، وخلافة صدام حسين العراقي موجة الانقلابيين الناصريين الفاترين، المسرحَ من بابه الفلسطيني، وبابه النفطي الذي فتحه على مصراعيه فيصلُ بن عبدالعزيز السعودي وغَلَقَ عهد النفط الرخيص في أثناء حرب 1973.
ولابست الأدوار والنزاعات، المحلية الوطنية والإقليمية، مزاعمُ أيديولوجية عالمية، علَّقت أحكامها وأحلافها على الحرب الباردة وقطبيتها الثنائية. وتذرّعت بهذه القطبية إلى تأويل نزاعاتها (الطبقية)، وصوغ بعض سياساتها (المراحل والأهداف...)، والمبادرة إلى بعض إجراءاتها (التأميم، الإصلاح الزراعي...). ولابستها، من وجه ثان وغير مستقل، أقنعة فلسطينية، ملحة وصفيقة، على نحو ما لابست "فصائل" و "أجنحة" فلسطينية حقيقية، منظمة ومسلحة، النزاعات الداخلية على السلطة. فمالت فصائل وأجنحة إلى فصيل أو جناح محلي. وأنشأ فصيل أو جناح محلي نظيره أو مراسله الفلسطيني، وجنّده في صراعه، الوطني أو الإقليمي.
وعلى ما لم تفت أحداً ملاحظته، كان لبنان، مجتمعه أو جماعاته وأبنيته السياسية وهيئاته، الميدان الذي حلمت به الجماعات العربية المتنازعة والمتقاتلة مسرحاً لاقتتالها الطويل وغير الحاسم. وغذّت الجماعات اللبنانية المتفرقة والجريحة، والدم النازف منها، شهية أسماك القرش، الصغيرة والكبيرة، وحرّكت غرائزها، وأنستها ضآلة شأن المسرح وأهله، وضعفَ مناسبته لشيء غير الاستنزاف ومحاكاة الحروب الحقيقية المستبعدة.
الحبر المرن
وتولى الصحافي الراحل إصدار صحيفته في الوقت هذا، وفي البلد هذا. ورعت ليبيا القذافية تمويل الصدور. وتوافد إلى تحريرها، والكتابة فيها، رهط من الصحافيين والمحللين والكتّاب والأدباء العرب. ومعظمهم من المعارضين في بلدانهم، وأولها وعلى رأسها، مصر "الساداتية"، المنخرطة في مفاوضات غير مسبوقة مع إسرائيل، في رعاية أمريكية. وأفضت المفاوضات، بعد خمسة أعوام، إلى اتفاقيتي كمب ديفيد. ومع تقدم المفاوضة، اتسعت هجرة المعارضين، المصريين أولاً. واحتدت المنازعة، في صفوف الفلسطينيين وبين دول المشرق وفي صفوف هذه الدول، وطاقمها الحاكم، ومثقفيها (متعلميها وكتّابها).
فلجأت إلى ساحة لبنان. وحرصت "الرعاية" السورية على ما سمى الاحتلالَ العسكري والأمني، وتولي القوات "العاملة" في لبنان ضبطَ اقتتال الأصيلين والوافدين والمتفرجين، شطرٌ عريض من أهل العلم المرني الأعناق والظهور والحبر طبعاً- (حرصت) على ألاّ ينزع الاقتتال إلى أقاصيه على قول مأثور لمنظر الحرب البروسي ومعاصر الحروب النابوليونية "الكبيرة"، مراعاة لموازين قوى متغيّرة، وانقلاب جبهات، ولمراهنات معقدة ومتزامنة.
الراحل كان من غير شك صاحب كار، و"أسطا" في فنه، وصاحب هوى وهوية محمومين. ودمج، قاصداً الدمج أو مماشياً غريزة وطبعاً مؤاتيين، فنه وهواه وهويته في مصهر أو مرجل واحد
وكان على صاحب الصحيفة العتيدة أن يولِّف، على نحو توليف الأشرطة السينمائية أو التلفزيونية أو المسجلة، بين متنافرات أصحاب التمويل، والضبط، ولجم الاقتتال، ونوازع المعارضات اللاجئة والمقيمة ومراجعها "القومية" و "التقدمية" و "القطرية"، ودواعي الجمهور المفترض، وحسابات الرهانات الكثيرة، وأطوار أوضاع النزاعات والمتنازعين... ومثل هذا التوليف عمل كل يوم. وقد يصدق فيه قول ياسر عرفات في معاملته 22 "دولة" (وهو سماها اسماً أقل احتراماً) عربية، وتعليله تعرجات خطوطه.
وإلى هذا، ينبغي على الرجل السهر على الاضطلاع بتبعات صناعة أو فن تحكمه قواعد (الصحافة)، وتسوِّغ درايته فيه دوام التمويل والتأييد والتكليف، وتقديمه على أقران ومنافسين كثر. فإذا عزف الجمهور عن قراءة الصحيفة، طعن عزوفه، لدى الممول ومن يرعاهم من فصائل...، في جدوى التمويل ومقداره وحصصه. والراحل كان من غير شك صاحب كار، و"أسطا" في فنه، وصاحب هوى وهوية محمومين. ودمج، قاصداً الدمج أو مماشياً غريزة وطبعاً مؤاتيين، فنه وهواه وهويته في مصهر أو مرجل واحد.
فكتب مرة، في والده، إما حين وفاته أو في ذكرى وفاته، أن والده علمهم، هو وإخوته، الفخر بسمرة بشرتهم. وهو يحمل السمرة على العروبة، والفخر بها على الاعتداد بالانتساب إليها انتساباً لا يفرِّق بين العرق، وسماته الظاهرة والجسدية، وبين الهوية التاريخية والسياسية. وكان ربما يردد، فيما كتب يومذاك، صدى بعض شعارات حركة الإفريقيين- الأمريكيين، "الأسود جميل" (بلاك إيز بيوتيفُل)، وأوَّلها تأويلاً انتزع منها إيحاءها الذي جمع اللعب والتخايل إلى دعوة الجميع، المتحفّظ والمتشكك والنفس (الإفريقي- الأمريكي الأسود)، إلى "التذوق"، دون التفاخر والاستعلاء.
السياسة السمراء
والجملة هذه- وجليّ أنها صدرت عن دواخل وطوايا عميقة في نفس كاتبها، وأخرجت إلى العلن ما لا أحسب أنه كان مكبوتاً- أعربت عن يقين ناشر الصحيفة بمجيئه من دنيا غريبة ومختلفة عن تلك التي يُفترض فيه تقاسمها مع سواد "اللبنانيين" وعمومهم. ولا يطعن في هذا السواد، أو هذا العموم، ميل سياسي أو ثقافي عربي، أو عروبي، يدعو اللبنانيين الآخرين إلى استقباله وإدراجه، ولو على خلاف، في تراث على شاكلة سيرورة، وفي طور التكوين. أما حمل الهوية على سمة طبيعية فارقة وثابتة، عرقية، وتأويل التباين بين اللبنانيين وأحوالهم الاجتماعية والتاريخية على وجه "التناقض" أو التقابل بين مرتبتين أو طبقتين (على المعنى الهندي)، فينبئ بعقيدة سياسية لا تقبل نهجاً غير حرب (استئصال) أهلية دائمة.
وليس معنى هذا أنه دعا إلى قتل "غير السّمر" واستئصالهم، أو أنه لم يدعُ "المسيحيين" إلى الفيء إلى قلب العروبة الحار والكريم. وهو لم يفوِّت فرصة إعلان مسيحيٍّ، صغيراً أم كبيراً، ميله إلى العروبة، "السورية"- على قول الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، قبل وفاته في 2001) الصريح- أكان إيلي حبيقة أو أحد البعثيين "العراقيين" سابقاً أو صحافياً "قومياً سورياً"، إلا وأعلى من شأنه، واستكتبه الافتتاحيات على الصفحة الأولى، أو حاوره حوارات "الحد الأقصى" الطويلة، على قول أحد الصحافيين المتدربين على يديه يومها.
فعروبته، أو ناصريته، وكان بعض الهزج يدعو إلى الوحدة مع "هَـ الأسمر عبدالناصر"، قرينة على تشارك ناشر الصحيفة مع عرب صحراويين وقَبَليين آخرين عقيدتهم أو مذهبهم، ومنهم وربما أولهم "الرئيس" معمر القذافي وخيمته وإبله- لم تكن على حدة من وجدانه، بين الوريد والوريد، ومن نفسه. فسياسته هي "عين دينه"، على قول الشعار الخميني، القريب زمناً من استقلال الصحافي بملك صحيفته. ودينه، في هذا المعرض، هو قبيله وعشيره وأهله وربعه ورهطه الأقربون.
وخاض الرجل الصحافة- وهي في منزلة القلب والرأس من دائرة العلانية العمومية والمشتركة (أو "الحيز العام"، على ما يترجم بعضهم عن يورغين هابيرماز الألماني)-، والسياسة، وهو على هذا الإيمان والاعتقاد. وتتمة الإيمان الوجداني هذا توحيد العام، السياسي والصحافي، بأخص الخاص، ودمج السِّيَرَ العامة بالسيرة الخاصة، المتفرقة والمتناقضة والمتغيّرة، الخاصة وأساطيرها، أو رواياتها. وفي رواية صاحبنا، يرزح هو و "قومه"، منذ الأزل، تحت ظلم وإنكار مقيتين. ومظاهر الشراكة والمساواة في حياة "اللبنانيين"، المسلمين العرب الأقحاح والمسيحيين الآخرين، زينة ورقية مسرحية، تتستر على ضغائن لم يشك صحافينا في تبادلها بين الأفرقاء على قدر واحد من الشراسة والحدة.
فالخلاف أو الصراع- والكلمة أو اللفظة بعضٌ من مصطلح "تقدّمي"، و"قومي سوري"، و"قومي عربي"، حزبي وعصبي، ساد المقالات السياسية العربية منذ عشية الحرب الأولى- مداره على الحياة والموت. ولا حل له إلا بانصياع أحد العدوّين لعدوّه، وذوبانه، وهذه من المصطلح الخميني كذلك، فيه. وأشرس الأعداء وأبغضهم هو الأقرب نسباً والمخالف.
سياسته هي "عين دينه"، على قول الشعار الخميني، القريب زمناً من استقلال الصحافي بملك صحيفته. ودينه، في هذا المعرض، هو قبيله وعشيره وأهله وربعه ورهطه الأقربون
ولا يتعلق الأمر بالرأي السياسي، أو بالموقف. وهو يتعدّاه إلى الذائقة ومجالاتها: في المأكل والمشرب والسماع (الطرب) والصحبة والأدب... أو ما يجمع في باب "الثقافة" بعد اطراح الامتياز منه. وينصهر هذا كله في كتلة شعورية وعصبية وذهنية واحدة، على ما نوّهت مقالات الوداع التي كتبها بعد وفاته في زميلهم زملاء وعاملون سابقون. وهؤلاء أقاموا أعواماً في دارٍ سادها- على ما بدا لزائر متقطع تردد إلى أصحاب له فيها، ولم يفارقه، في تردده، شعور بالغربة قريب من النفور (وهذا الزائر هو أنا، كاتب العجالة)- "قانون" القرابة، وخليط وحدة الحال الكاملة والكراهية القاتلة والمدمرة الذي يترتب على هذا القانون.
"الوطن" والخبر
في اختزال لم يبرأ من الغرض، ولا من التضليل، زعم صاحب الصحيفة أنها "جريدة الوطن العربي في لبنان". ووطنه العربي (في صيغة الفرد)، في الحقيقة الماثلة في لبنان منتصف العقد الثامن من القرن العشرين، كان ركاماً من الأحزاب والهيئات والشخصيات، على ما وسم نفسه تكتل الفصائل المحلية المنضوية تحت راية منظمة (منظمات) التحرير الفلسطينية ورعاتها والأوصياء عليها. وما خلا الإجماع على اقتطاع "منطقة حرة"، من الأراضي اللبنانية، تتولّى إدارتها بإزاء الخارج اللبناني والعربي والدولي، والاقتتال فيها، أجهزة تجرب، على مثالات تعليمية، "حرب تحرير" عالمثالثية، وتتمتع بحصانة الدولة الوطنية والمستقلة إلى حين، افتقرت الأجهزة وجماعاتها إلى أضعف القواسم المشتركة.
وأراد ناشر الصحيفة، ومموّلها ربما، أن يكون "صوت" هذا الركام من المصالح المتحاجزة والمتنافرة، وغير المجمعة إلا على الاقتطاع السالب، والحاد الضغينة على دولة البلد المضيف. وحمل الأصوات والأصداء وأصداءَ الأصداء المتنازعة، والظلال الباهتة والدمى المتباسلة، على "من لا صوت لهم"، الشعب العميق والأمة الأرض. وهم، في حسبانه، أهله وقومه وأبناء جلدته (السمراء)، المعارضون الأبديون، ونبع الأصالة والصدق. وهم "عين الحياة"، غاية فتوح فيروز شاه، الملحمة الفارسية التي روت فتوح ممالك العالم وتوحيد بلدانه تحت تاج ملك الملوك، الساعي في بلوغ الأميرة التي رآها، أو أُريها، في الحلم الأول. وهذا قرينة على جواز جمع الحرب ومواقعها وسياساتها ومآسيها، والتصوف وتجلياته وكشوفاته وأحواله وفقره، في "موقف" واحد أو مقالة واحدة.
فكان سائق الخبر الصحافي اليومي، أو صوغه، والرأي اليومي، أو التعليق، تصفيتهما، الخبر والتعليق، من كل ما يوحي بالخلاف، أو بوجود معيار يُحتكم إليه ويخالف الحوادث اليومية التي يرتكبها من يمت إلى التكتل بصلة.
وصادف في الأشهر الأولى من صدور الصحيفة، أن اعتقلت الاستخبارات السورية- فيمن اعتقلت من أنصار الفلسطينيين الهاربين من المملكة الأردنية، ومن الفلسطينيين المقاتلين الذين تطاردهم "الضابطة الفدائية" بموجب القانون 70 و"تخزنهم" في لبنان، على قول أحد قادة "فتح"، صلاح خلف- اثنين من جماعة مسلحة.
فكتبتُ تعليقاً قصيراً يذكّر بحق المعتقلين عموماً، ولو بجرم مشهود وجنائي (غير سياسي)، في محاكمة قضائية. وأرسلت التعليق مع صديق يعمل في الصحيفة إلى أحد مديري التحرير النافذين. واستشار هذا رئيس التحرير، صاحب امتياز الصحيفة، في نشره. ولما تلفنت إلى المدير سائلاً عن مصير الورقة أجاب أن "الرئيس" رمى بها في سلة المهملات والنفايات.
وغداة 13 نيسان/ أبريل 1975، وهو اليوم الذي يؤرَّخ به ابتداء "الحرب الأهلية اللبنانية" (وهي حروب مديدة، ومختلطة إقليمية ومحلية وملبننة مولَّدة ومهجنة فوق لبنانيتها الأصيلة المفترضة وفي ثناياها)- باشرت المنظمات المسلحة خطف المتنقلين بين المنطقتين، وهم كثر يومها، "على هوياتهم" المذهبية، أي بناءً على تدوينها في تذكرات الهوية أو النفوس. وكان الخطف متقطعاً، ومحلياً وظرفياً، ويبعث عليه غالباً خطف سابق ارتكبه إخوة أو أهل، أو أنصار، أو قتل يجازى بمثله.
وقرأتُ في الصحيفة العتيدة أن مسلحين، من فريق ناصري بيروتي، اقتادوا شاباً وخطيبته، كانا مارّين بزقاق البلاط في سيارتهما، إلى أحد مكاتب الفريق القريبة، واستضافوهما على قهوة، وأوصلوهما إلى أول جسر فؤاد شهاب، على عتبة منطقة سكنهما شرق بيروت، وودّعوهما بالسلامة. وصادف، مرة أخرى، أن روى صديق، عن قريب له، خبرَ خلاصه من خطفه هو وخطيبته، وكان ماراً بزقاق البلاط، ونقلهما إلى مقبرة الباشورة، حيث كان آخرون قبلهما صُفّوا إلى جدار المقبرة بمحاذاة الخندق الغميق في انتظار إعدامهم. وفجأة سكن المسلحون، وهدأت قعقعة أقسام الكلاشينات، وأمروا المخطوفين بالانصراف من غير تعليل.
وأردت إشراك الصحيفة في الخبر "الصحيح" الذي بلغني، صدفة واتفاقاً، من مصدر قريب من الحادثة وثقة. وظنّي أن الصحيفة خُدعت، ولم تبلغها الواقعة، ولن تتردد في نشر رواية أخرى، ويكون نشرها دعوة إلى المقاتلين بالتزام الصدق. وهذا، الظن، من علامات الزمن. فكتبته على النحو الذي رُوي لي، وأرسلته مع الصديق نفسه وانتظرت أياماً نشر التصحيح. وأدركت أن مصيره، ومصير أمثاله، إلى سلة المهملات والنفايات.
وفي الأثناء، استقرت الحرب في قلب بيروت على جبهات معروفة لا تتعداها إلى جبهات أخرى إلا رداً على حادثة أو خبر، أو إيذاناً بأمر. وكانت "جبهة" الشياح- عين الرمانة، الضاحيتين "الفقيرتين" والمتقابلتين، أبرز هذه الجبهات وأقربها إلى المقيمين ببيروت وأطولها. وعلى صورة استقرت نهجاً إعلامياً وسياسياً ثابتاً، خصت الصحيفة تبادل النار الرتيب والليلي، والمتعارف، وأكثره قنص محدود وبعض القصف، بباب يومي. ودأب الباب هذا على رواية اقتحامات بطولية تنزل الخسائر الفادحة في العدو الغادر، وتوسع "الثغرة" بين الحيَّين المقابلين، وتمهد لـ "دفرسوار" يحسم المعركة إن لم يحسم الحرب. وأوهم النهج المضلل القراء بأن الاشتباكات الصورية، والقاتلة رغم صوريتها، حرب فعلية. وحول الصحيفة، والإعلام الصحافي إلى جهاز تخدير في خدمة "نظام" حربي انقلابي على شاكلة الأنظمة التي يزعم "الثورة" عليها".
حين قُتل مهدي عامل، كان على الصحافي "الرئيس" أن يضطلع بمهمة مزدوجة، تكاد أن تكون روتينية، هي تأبين القتيل، وأداء واجب مديحه والعزاء به، من وجه، وتفادي تهمة جهة "مقاومة" بقتله، من وجهٍ آخر
وسبق استقرار الحرب على خط فاصل ثابت، هجوم "مشترك"، فلسطيني- لبناني، على بعض نواحي الوجه الجنوبي من جبل لبنان. وكان يفترض في هذا الهجوم، وهو انطلق من مناطق مختلطة، درزية ومسيحية، أن يطوق بيروت، وشرقها على الخصوص، ويمهّد للسيطرة "الوطنية" عليها، والاستيلاء على الحكم، وإعمال الإصلاحات "الديموقراطية" فيه: إنشاء مجلس عسكري تمثل فيه الطوائف الخمس "الكبيرة"، وسن قانون انتخابي نسبي يقر لبنان دائرة انتخابية واحدة، إلخ.
البوصلة
وغفلت الحماسة، المشتركة فعلاً هذه المرة- الفلسطينية: في قيادة ضباط انشقوا عن الجيش الأردني قبل نصف عقد وتحالفوا مع جناح "تقدمي"، واللبنانية: في قيادة الزعيم الدرزي كمال جنبلاط ومستشاريه الشيوعيين "القوميين"- عن مترتبات استقلال المنظمات العسكرية الفلسطينية، و "فتح" ياسر عرفات في صدارتها، بإدارة دولة عربية ذات سيادة، على موازين القوى المتنافسة والمتناحرة في المشرق العربي، غداة حرب تشرين الأول/ أوكتوبر 1973 وعشية كمب ديفيد.
وفهم اللبنانيون "المشتركون"، والصحيفة في صفهم ولسان حالهم وصوتهم، الإعداد السوري الأسدي للهجوم المضاد، في رعاية إقليمية سعودية ومصرية مباشرة، ردة نظامية ورجعية على برنامج ديموقراطي مرحلي. وفهمه الفلسطينيون تتمة لـ "مؤامرة" أيلول/ سبتمبر 1970، وحصاراً للثورة "العربية" التي فجروها.
وبينما كان ضباط سوريون يُشاهَدون في مواقع مراقبة وقصف حول مخيم تل الزعتر المطوّق، إلى الشرق من بيروت، جنباً إلى جنب مقاتلين كتائبيين، منذ خريف 1975 وشتاء 1976، كان قائد "فتح"، ومنظمة (منظمات) التحرير، يقلِّب النظر في الخط السياسي الذي يشقه الرئيس المصري، ويقرّبه من مفاوضة إسرائيل والاعتراف بها ومسالمتها، ويبدي بعض اللين في رأيه فيه.
وحين أطبقت القبضة الأسدية على لبنان، و"مخزونه" الفلسطيني الثمين و"مادته" المسيحية، ودبّ الخلاف المستطير بين أركان جبهة الصمود والتصدّي، قبل إعلانها وبعد موتها، استوت عروبة "الوطن العربي"، في لبنان وخارجه، على صورة "فاتنة": خير لعبدالله أن يكون القتيل وليس القاتل، على قول معاصري "الفتنة الكبرى" في صدر الإسلام.
فالقوات السورية تقاتل الفصائل الفلسطينية علناً، وتقاتل فصائل فلسطينية فصائل أخرى فلسطينية، بالأصالة عن نفسها ونيابةً عن "راعٍ" عربي، سوري أو عراقي أو (نصف) ليبي أو (ربع) جزائري أو (ربع) مصري... وتقاتل فصائل لبنانية فصائل لبنانية، ويستظهر الصفان بحليف عربي. ويترجح القتال بين إرداء مسلح يلصق ملصقاً لفصيله على جدار فصيل آخر، وبين نسف مبنى برمته تنزله أسر عشرة مقاتلين أو أكثر فينهار على من فيه. ويترجح السبب بين تجاوز حدود منطقة نفوذ وبين رد على زيارة قام بها أمين عام منظمة من المنظمات إلى ديبلوماسي وسيط. وبين السببين صدفة لقاء فريقين على نهب غنيمة واحدة، مبنى سكني مهجور، أو مبنى مكاتب، أو عيادة، إلخ. وتبادلُ التعليقات المتفجرة والقاتلة بين المنطقتين، وبين القطبين الإقليميين، جزء من يوميات بيروت طوال هذه السنين.
وفي لجّة أو لجج هذه المعمعة أو المخاضة، زعم صاحب الصحيفة أن ثمة "بوصلة" ما على "العربي" في مشارق الأرض ومغاربها، إلا الاهتداء بها، والصلاة إلى قبلتها، وكتابة الافتتاحية "على الطريق" القويم في ضوئها. وأهل هذه القبلة هم الفرقة الناجية. والأمثلة على "صلاة" أهل القبلة هذه لا تُحصى في افتتاحيات الرجل وعناوين صفحة صحيفته الأولى.
ففي يوم من ربيع 1987 قُتل مهدي عامل، الكاتب الشيوعي المعروف. ولم يتطرق شك ضعيف إلى هوية الجهة القاتلة، وإن لم يُعرف القاتل بالإسم. وكان على الصحافي "الرئيس" أن يضطلع بمهمة مزدوجة، تكاد أن تكون روتينية، هي تأبين القتيل، وأداء واجب مديحه والعزاء به، من وجه، وتفادي تهمة جهة "مقاومة" بقتله، من وجهٍ آخر. فاجترح صاحب الصحيفة "حلاً" وشى بـ "لبنانية" عميقة، قد لا تخالف نزعة "عربية" لا تقل عمقاً: لجأ إلى تضمين جمله وأسطره المليئة بنقاط الإرسال غير المعلّق، أجزاء أو كلمات من آيات قرآنية تدعو إلى القراءة والكتابة والعلم، إقرأ... أكتب... علم بالقلم...
الأضداد، السياسيون والسياسية، لا حقيقة لها، ولا لكثرتها، إذا وقعت على معسكر الصديق، معسكر "نحن". وينبغي إهمالها وإغفالها ونفي حقيقتها ما أمكن. وإذا أودى هذا بمادة الصحافة، والتاريخ من بعد، كلها، وبدّدها، بقيت "البوصلة"، وبقي "الطريق" المستقيم إلى القبلة
وعلى هذا، تولت الصحيفة نمطاً من الإعلام يقوم على حل الوقائع في زار (حلقات الزار) صوفي ووجداني، سوغه حل السياسة، وأحكامها ومسائلها، في وجدان أهلي حميم. فالأضداد، السياسيون والسياسية، لا حقيقة لها، ولا لكثرتها، إذا وقعت على معسكر الصديق، معسكر "نحن". وينبغي إهمالها وإغفالها ونفي حقيقتها ما أمكن. وإذا أودى هذا بمادة الصحافة، والتاريخ من بعد، كلها، وبدّدها، بقيت "البوصلة"، وبقي "الطريق" المستقيم إلى القبلة.
ولم يغفل الصحافي الراحل عن مآل هذا المذهب، وعن تعليقه الصحافة "في الخلاء"، على قول ابن سينا في "رجله". فدعته حرفته إلى استقبال كتّاب، بعضهم من أهواء مختلفة وشتى، في أسرته، على مضضٍ لم يتستر عليه. وبعض هؤلاء ترك الأسرة- بعد اختبار طويل أو قصير تخلله تولي الناشر نفسه الرد على آراء صحافييه- أو حُمل على تركها. وبعض من حُملوا على تركها، وهم بقوا في الجوار، لم يبادر هو إلى إقصائهم، بل تولاّه بعض زملائه وأعوانه ووكلائه.
ولعل آخر أعراض المذهب الصحافي الذي مثَّل عليه الراحل هو غلبة وجدانيته السياسية على المقالات الوداعية. فلم يتناول أحد من المودعين أربعة عقود من العمل الصحافي اليومي بالفحص أو التأريخ. ولم يسبق لأحد منهم أن تنكب هذا العمل في الأثناء قبل وفاة الرجل. وكلهم، على اختلاف مصائرهم ومواقعهم، "رسوا" أهلاً، أو من كان في يوم خلا من أهله، أخاً كبيراً، أو شبه والد، أو عم. وبعضهم لم يكتم رغبته "الأخوية" أو إيثاره أن يقول الراحل "رثاءه". وبعض من يسيرون "على طريقه"، على قولهم أو زعمهم، لم ينكروا مذهبه الصحافي، وتعليقه الصحافة "في هواء" متجدد ما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.