أعزّائي الغاضبين/ات دائماً من الحريات في لبنان، أكتب لكم/ن:
لو كنت أناقش أحدكم أو إحداكن عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكنت قرّرت التراجع عن خوض هذا النقاش، لأنه ببساطة غير نافع إذا انطلق من عدسة عاطفية وفردية عوضاً عن عدسة العدالة الاجتماعية.
أعلم أن معظمكم/ن ينطلق من فكرة الدفاع عن الجماعة والقيم الاجتماعية، بالتالي، فإن غضبكم/ن واضح، لكنه ليس في مكانه، فإذا كنتم/ن فعلاً مهتمين بنتائج هذا الغضب، إليكم/ن الرسالة التالية، ليس لأنني مهتمة بإقناعكم/ن (لأنني ببساطة لا أؤمن أن الإقناع يأتي بهذه البساطة)، بل لأنني مهتمة بتوثيق موجات التعدّي على الأفراد والحريات التي نخوضها اليوم في لبنان.
الإهانة ليست في مكانها
منذ فترة، قرّرت أن أكتب عن المشهد الكوميدي في لبنان، كنت أود أن أكتب عن الكوميديين/ات الذين يدعمون بعضهم/ن في كل حدث لهم/ن، وأن أسلّط الضوء على الانتفاضة الفكرية التي يعبّر عنها كوميدي مجموعة "أوكورد" بشكل ساخر وجرئ، رغم "انطفاء" الانتفاضة على الأرض. لقد استطاع عدد من هؤلاء الكوميديين تدشين نقاشات مباشرة وواقعية حول ما نعيشه اليوم، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل فريد... لكنني انشغلت ولم أكتب ذلك المقال.
بقيت الفكرة قيد التنفيذ إلى أن حصل ما يثير السخرية بشكل آخر، حيث تمّ استدعاء الكوميدي نور حجار، على أساس محتوى منشور له عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يصف فيه الوضع المأساوي وأثره علينا.
يأتي هذا بعد استدعاء شادن فقيه، كاتبة كوميدية أخرى عام 2021، إثر منشور لها يسخر من الوضع المأسوي أيضاً، والاعتداء من خلال رمي قنبلة على قناة الـ LBCI منذ أشهر، بعد الهجوم الواسع بسبب "اسكتش" ساخر للممثلَيْن حسين قاووق ومحمد الدايخ، ضمن برنامج كان يعرض على القناة.
تم استدعاء حجار ليمثل يوم الجمعة الماضي أمام المحكمة العسكرية، إثر فيديو ينتقد فيه أوضاع الجيش وعناصره بعد فقدان قيمة رواتبهم نتيجة انهيار قيمة العملة الوطنية، حيث توقف 11 ساعة للتحقيق معه
يختار البعض ألا يعلق على موضوع استدعاء حجار باعتباره ثانوياً، أو باعتبار أن نكات حجار كانت فعلاً مهينة للدين أو للقوى الأمنية، فهو يستحق "التربية" البوليسية برأيهم/ن، لكن البعض الآخر منكم/ن يختار أن يهدّد ويلقّن حجار وغيره درساً كبيراً في احترام المعتقدات. غضبكم/ن مفهوم، لكنني أود أن أعود إلى الوراء قليلاً لأتكلم عما تعرّض له حجار مقابل ما أهانكم/ن.
تم استدعاء حجار ليمثل يوم الجمعة الماضي أمام المحكمة العسكرية، إثر فيديو ينتقد فيه أوضاع الجيش وعناصره بعد فقدان قيمة رواتبهم نتيجة انهيار قيمة العملة الوطنية، حيث توقف 11 ساعة للتحقيق معه. تعرّض بعدها إلى هجمة ممنهجة على حريته بالتعبير، حيث "نَبَشَ" وجَزّأ بعض الأفراد فيديو له غير متعلق بالدين، بل يشرح فيه عن والدته وما طلبته من شيخ، لاصقين به تهمة التعدّي على الأديان وتهديد السلم الأهلي، و مهدّدين إياه بشكل مباشر ومرعب في الوقت نفسه.
المشكلة هشاشتكم/ن، أي من يشعر بالتهديد من نكتة، وفيلم، ووردة وحب وكعب اسكربينة
تم استدعاء القيمين على منصة "أوكورد" للكوميديا للتحقيق، وكأنهم منصة إرهابية يجب التصدّي لها فوراً وإيقافها عن العمل. البارحة، تم توقيف حجار مجدداً فيما كان يتجه للتوقيع على سند إقامة بما يتعلق بالإخبار الأول. تم التحقيق معه أمام المباحث الجنائية لمدة 6 ساعات تقريباً، إثر نكتة عمرها 5 أعوام، أي أن التهمة على أسسها سقطت مع مرور الزمن، لكن الإهانة كانت أقوى من العدالة، كالعادة، في لبنان.
أبعد من فكرة فهم "الفكاهة السوداء" (التي قد أفهم أنها ليست الكوميديا المفضلة لدى الجميع)، تركن فكرة النكتة بحد ذاتها. الكوميديا لم تكن شخصية يوماً، وإذا كنتم تشاهدون عرضاً كوميدياً، فلا ينبغي أن تشعروا بالإهانة بأي شكل من الأشكال، فالكوميديا بشكل عام هي السخرية من كل شيء حولنا، دون سوء فهمه بالضرورة، وإذا كنتم سريعي الإهانة وسوء فهم النكتة، ننصحكم ببساطة بعدم مشاهدة عروض كوميدية.
العديد من الكوميديين يتناولون مواضيع حساسة للغاية، ولكنهم في الحقيقة يحاولون توضيح نقطة ما حتى لو كانت النكتة مؤلمة أو مسيئة. بالتالي، فلا شك بأنكم/ن شعرتم/ن بالإهانة، لكنني أعتقد أن من أهانكم/ن ليس حجار، بل الواقع المرير الذي يصفه في الفيديو الأول.
أعدكم/ن بأن التعدّي على حرية التعبير سوف يصل إليكم/ن في يوم من الأيام، حتى لو تابعتم المشي على قشر البيض، فإذا واصلتم السماح للدولة، وغيرها من المجموعات، بفرض رقابة على خطاب الغير، سيستمر لبنان بالتوجّه إلى كونه نظاماً قمعياً خالياً من الحماية المجتمعية
الإهانة هي أن تصبح الأوضاع المعيشية مأسوية إلى درجة اضطرار عمل بعض عناصر الجيش في وظيفة ثانية وثالثة، والإهانة هي أن يتعرّض المشهد الكوميدي في لبنان للإسكات، بينما من سرق أموال المودعين ومن ساهم أو تستر عن تفجير المرفأ، لا يزال فارّاً من العدالة، أما الفيديو الثاني، فإن الإهانة منه تأتي من مبدأ حماية الجماعة والأديان، وهنا نقاش يتخطى ما حدث مع حجار فقط.
كيف تشعر جماعة بالهشاشة أمام فرد؟
هنا النقاش الأدق، فإن تشجيع استدعاء أي كوميدي إثر نكتة تطال مجموعة أمرٌ غير متواز لناحية القوة، خاصة أن حجار لم يتوجه بسبّ أو قدح فرد معيّن.
إذا أهانت النكتة عدداً كبيراً من أفراد يؤمنون بشيء معين، أو إذا أهانت مؤسسة كبيرة مثلاً، كيف يمكن أن يشكل فرداً واحداً خطر على هذه المجموعة؟ وكيف يمكن لنقطة أو فرد واحد أن يزعزع إيمانكم/ن؟ تبقى المجموعة مجموعة، فكيف يمكن لفرد واحد أن يلحق الضرر بجماعة أو بفكرة الجماعة من الناحية التقنية حتى؟
لذلك، حتى تهم خطاب الكراهية لا يمكن تطبيقها هنا، لأن المجموعات لا يمكن أن تعتبر ضحية إلا إذا تناول حديث فرد واحد خطاب كراهية موجّه لفئة مستضعفة مثلاً. في حالات الكوميديا السابقة كلها التي ذكرتها، لم تحرّض أي فئة على فئة مستضعفة أو مهمشة، كما أنها لم تمارس القدح والذم تجاه شخص واحد وبشكل مباشر، بالتالي، وحتى من الناحية القانونية، على حرية التعبير أن تسمو على تهم التشهير في هذه الحالات. وهنا المشكلة الأساسية برأيي، فهل كلنا نرى الحرية بشكل متساو بلبنان؟
لا أكتب هذه الرسالة دفاعاً عن حجار حصراً
أشهر جملة تستخدمونها عند قمع الخطاب الحر عادة هي: "تقف حريتك عند حرية الغير". لكن ما هي حرية الغير؟ حرية الغير هي حرية فرد، وليس الجماعة أو الفكرة. حرية الغير هي ألا أتعدى على فرد واحد، بشكل مباشر ودقيق. بالتالي، فهل تظنون أن حرية الغير هي أن تشعر أي فئة أو جماعة بالإهانة، فتهدّد أو تقتل أو تؤذي فرداً بسبب فكرة؟
هل حرية الغير هي أن تشعر أي فئة بالإهانة فتضرب من لا يؤذيها، كما فعل جنود الرب بحق مجتمع الميم عين في مار مخايل الأسبوع الماضي، دون أي نوع من المحاسبة؟ هل حرية الغير هي أن تُستدعى لارا بيطار وجان قصير وحياة مرشاد وديمة صادق وغيرهم، للتحقيق وهم يعملون في الشأن الصحفي، لمجرد قيامهم بنقد الدولة أو التحقيق في قضايا متعلقة بالعدالة الاجتماعية وتطال أحزاباً سياسية معينة؟
هل حرية الغير هي أن تنبثق جماعة جديدة من مبدأ الحماية الذاتية في طرابلس، تقول إنها ستدافع عن نفسها ضد أي شخص يروّج "للمثلية الجنسية"؟
هل حرية الغير هي أن تنبثق جماعة جديدة من مبدأ الحماية الذاتية في طرابلس، تقول إنها ستدافع عن نفسها ضد أي شخص يروّج "للمثلية الجنسية"؟
هل حرية الغير هي أن تتهجّم فئتان على بعضهم البعض، ويقتلان فرداً من كل جهة في الكحالة، دون أي محاسبة لأي طرف من الحزبين؟
إن الغرض من استدعاء حجار للتحقيق له دافع واحد: تأديب حرية الفرد في التعبير لحماية ما هو "مقدّس" حسب القاعدة، وهو أمر جيد بالنسبة للكثيرين منكم، أي من يريدون "حماية" الأعراف الاجتماعية، ولكن حماية الأعراف الاجتماعية عليها أن تبدأ من مبدأ حماية الحريات، المحاسبة وحماية استقلالية القضاء. هو نفسه القضاء الذي سمح بالإفلات من العقاب لكل من نهب أموالنا وفجّر وقتل مدينة بأكملها، وهو القضاء نفسه الذي سمح بالضغط على حجار من قبل فئات شعرت بالإهانة، حتى عند سقوط التهمة بعد 5 سنوات.
فكيف تشعرون بالحماية حقيقةً؟ لأن هذه الفئة التي تحميكم/ن اليوم برأيكم/ن من "المثلية" الجنسية قد تنصب نفسها غداً حريصة على القيم في لبنان، فتسمح لنفسها بالتعدّي على فئات من غير دين، أو على من يرتدي شيئاً لا يعجبها. هي نفسها قد تكون جماعة خلقت لأهداف أكبر بكثير من الأمن الذاتي ومحاربة حرية الميول الجنسية، فهل حقق التطرّف أي نجاح في بناء وطن إلى حد اليوم في لبنان؟ أفعلاً تعتقدون أن من يعتدي على فئات تعيش بسلام دون أن تؤذي أحداً، لا يمكن أن يهدّد الآخرين إذا عزّزنا وجوده؟ وهل تصدقون من أقنعكم/ن بأن المثلية مؤامرة غربية مدبّرة تؤذي أو "تنشر" وكأنها وباء اجتماعي، فيما نعلم أن المثلية وجدت منذ الأزل عبر التاريخ؟
إن التعدي على حرية التعبير ليست مشكلة الناشطين فقط اليوم، والخطير هو موجة التعدي على الحريات التي نشهدها وعلينا مراقبتها عن كثب، والأخطر أنها لا تأتي من السلطة فحسب، بل أصبحت تعطي شرعية لفئات متفلّتة، تنصب نفسها شرطة على الشعب، وتضغط بحرية على القضاء، في ظل غياب قوانين واضحة لاستقلالية القضاء، وتفلت من أي نوع من العقاب أو المحاسبة.
بالتالي، فإن هشاشة الأفراد الذين يتوقفون على نقطة تنتقد منظومة يحبونها، أو يؤمنون بها أمرٌ حزين جداً، يجعلنا نفكر: لماذا علينا دائماً أن نشعر بالرغبة بالدفاع عن دين أو منظومة أو دولة، فيما نقبل الكثير من الإهانات الشخصية بحقنا دون أي غضب؟
التعدي على حرية التعبير ليست مشكلة الناشطين/ ات فقط اليوم، والخطير هو موجة التعدي على الحريات التي نشهدها وعلينا مراقبتها عن كثب، والأخطر أنها لا تأتي من السلطة فحسب، بل أصبحت تعطي شرعية لفئات متفلّتة، تنصب نفسها شرطة على الشعب، وتضغط بحرية على القضاء
تتفق السلطة على دعم القمع من جهات لا تتشابه بالضرورة سياسياً، فيما تجتمع أيضاً على الإفلات من المحاسبة والعقاب. فخطاب "الحماية" من الآفات الاجتماعية خطاب يجعل من الشعب المحرَّض مليئاً بالكراهية والغضب، وهو خطاب يستخدمه قادة العالم اليوم لتعزيز قوتهم بطبيعة الحال، لكنه أكثر خطورة على بلد لم تر فيه أي من الإصلاحات النور منذ عقود.
وهنا، أعود إلى هشاشتكم/ن، أي من يشعر بالتهديد من نكتة، وفيلم، ووردة وحب وكعب اسكربينة.
أعدكم/ن بأن التعدّي على حرية التعبير سوف يصل إليكم/ن في يوم من الأيام، حتى لو تابعتم المشي على قشر البيض، فإذا واصلتم السماح للدولة، وغيرها من المجموعات، بفرض رقابة على خطاب الغير، سيستمر لبنان بالتوجّه إلى كونه نظاماً قمعياً خالياً من أي نوع من الحماية المجتمعية، على الرغم من ترديد الدبلوماسيين بأن لبنان سيبقى بلد الحريات مقارنة بسائر البلاد العربية، وهو ما نتأكّد يوميّاً بأنه غير صحيح.
أعود إلى كونكم/ن تشعرون بأن لديكم الحق بتخوين كل ناقد أو مختلف، فيما تنتهكون حرياتهم/ن بأسلوب عنيف، لكن سيأتي من سيشعر بأن لديه الحق في قمع حريتكم/ن يوماً ما، وستكونون وحدكم بعدما سقط المدافعون/ات عن الحقوق، ولن يكون لديكم/ن مساحة للغضب أساساً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...