لم أحبّ يوماً لعبة الشّطرنج. لديّ أسبابي التي لا تتصلّ بالضرورة بمتعتها أو بدرجة إتقاني لها. إنها لعبة مسليّة لعشّاقها بدون أدنى شكّ، وتتطلّب قدراً لابأس به من الذكاء وسرعة البديهة، لكنها عبثيّة وغير إنسانيّة. إنّها لعبة تتضمّن تواطؤاً رهيباً مع فكرة شديدة القباحة، وهي تقسيم البشر إلى مسحوقين وساحقين، مهمين ومنحطين، أعلى وأدنى. لعبة تُعلي شأن الفرد الأوحد على الجماعة. لهذا السبب بالضبط يحبّها الملوك والسّلاطين، فيفردون لها مكاناً في البلاط، ويتبارون في اقتناء أثمن البيادق المصنوعة من المعادن النفيسة. كيف لا، وهي لعبة تحتفي بالحجارة الأكثر عجزاً في الرقعة، لا لشيء، سوى كونهم ملوكاً.
المأساة الإنسانيّة في لعبة
في الشّطرنج، يتقدّم جنود كل طرف ليكوّنوا خطّ الدفاع الأول عن الملك، ويموتوا موتاً مجانيّاً؛ فيعبر الباقون على ظهورهم، يسحقونهم بلا رحمة، إرضاءً لهوس الفوز. لا يُسمح لهم بالتراجع، على عكس بقية الأحجار. إنّهم منذورون للموت.
في الشّطرنج، يتقدّم جنود كل طرف ليكوّنوا خطّ الدفاع الأول عن الملك، ويموتوا موتاً مجانيّاً؛ فيعبر الباقون على ظهورهم، يسحقونهم بلا رحمة، إرضاءً لهوس الفوز. لا يُسمح لهم بالتراجع، على عكس بقية الأحجار. إنّهم منذورون للموت
أما نشوة الانتصار، فيا لفظاعتها، فهي تتحقّق في تلك اللحظة التي يفوز فيها حجر واحد، هو الأكثر بلادة والأقل حركة باللعبة، وفي سبيله، يضحّي الجميع بحيواتهم.
أما الترقيّة الوحيدة التي يصيبها الجندي المسكين، إذا ما أسعفه الحظ طبعاً في الوصول إلى طرف الرقعة من جهة العدو، فهي فرصته بأن يكون بيدقاً أكثر قوة، وبهذا ينفق عمره القصير في خدمة الملك، وسلامة الملك، وتاج الملك، بدون أن يمتلك الفرصة بأن يصير ملكاً.
إن مأساة جندي الشّطرنج هي الشكل الأكثر قسوة للمعاناة الإنسانيّة، ففي كل مرة، وبعد كل بعث، يعود الجندي جنديّاً والملك ملكاً. فلا تتساوى الحقوق الإنسانيّة لكليهما إلا بعد انتهاء اللعبة وإقفال الصندوق، فيتمدّد كلاهما في ظلامٍ دامس كظلام القبور بانتظار جولة لعِبٍ عبثيّة أخرى.
أكره الامتثال لقواعد تلك اللعبة الجائرة، ولهذا السبب أقلعت منذ زمن طويل عن لعب الشّطرنج، ففي كل مرة أتذكّر فيها اللعبة، أشعر بضيق في داخلي.
إنّها لعبة يخسر الجميع فيها. الفوز فيها محض وهم. فحتى ذلك الحجر الواقف بلا شفقة على أطلال رُقعة مات كُلّ من فيها، هو خاسرٌ بالضرورة، فماذا يعني أن يموت الجنود وتُهدم القلاع وتُذبح الخيول والفيلة حتى يُعلِن الحَكَم فوز ملك على آخر؟! ولماذا لا يخترع البشر ألعاباً بشروط أكثر إنسانيّة؟
حياتنا على الرُقعة
مؤخراً، باتت البلاد تذكّرني كثيراً بتلك اللعبة. أرى نفسي واقفةً في منتصف الرقعة كجندي أعزل، وعلى يميني ضحايا وعلى يساري ضحايا آخرون. الخسارات تملأ المكان. ألم عميق يصعد إلى رأسي وأنا أُحصي عدد المربعات الفارغة، موتنا واحداً تلوَ الآخر. أراقب اصبعاً ضخمة تقترب مني وتدفعني إلى الأمام، أواجه جندياً بدون إرادة مني، أحاول التشبّث بالأرض دون جدوى، أبحث عبثاً عن هدف أو فكرة تجعل موتي، وموته، على الرقعة هيّناً، مبرّراً، فلا أجد.
إننا نتقاتل هنا، نحن البيادق، لمتعة من يحرّكنا.
حتى ألواننا على رقعة اللعب ترسّخ ذلك الإحساس بزيف اللعبة، ففي الحياة، لسنا بيضاً أو سوداً. إنّنا رماديّون، ونتلطّخ على رقعة اللعب.
معارك البيادق الصغيرة
في رحلتي الطويلة عبر حافلة النقل العامة، وقفت أراقب ركّاباً يحتجّون للسائق على الألفي ليرة التي سيضطرون لدفعها مقابل رحلة واحدة، ذهاباً أو إياباً، بعد غلاء أسعار المازوت.
عاجزٌ يُحاسب عاجزاً، ضحيّة تقرّع أخرى. بدا الموقف تراجيديّاً جداً، لكنني ضحكت. تذكّرت الشّطرنج.
سيبقى الملوك على أيّة حال، وستهترئ الدمى المتحرّكة في مسرح العرائس، وسيموت الكثيرون على الرقعة قبل أن نعلن الحنين لزمانٍ ومكانٍ لا بيادق فيه
كمِثل بيادق الشطرنج صرنا. نخوض معاركَ صغيرة خاسرة سلفاً، نتشاجر مع ظلالنا، مع خيالاتنا في المرآة، نتحارب مع طواحين الهواء، لنُفرِغ ما بداخلنا من قهر. سيبقى الملوك على أيّة حال، وستهترئ الدمى المتحرّكة في مسرح العرائس، وسيموت الكثيرون على الرقعة قبل أن نعلن الحنين لزمانٍ ومكانٍ لا بيادق فيه.
قبل أيام، في مدينتي التي لا حدود لبؤسها، شاهدت امرأة تُفاصل عجوزاً سبعينيّة، افترشت أرض السوق، من أجل باقةٍ من "البقلة". قالت محتجّة: "ألف ليرة!!".
إنّه مبلغ‑ لو تعلمون‑ زهيد، لا يشتري شيئاً في سوريا اليوم، لا شيء البتّة، لكنّه يبدو غالياً جداً عندما يخرج من شفاه مَن "لا حول لهم ولا قوة".
يالسخرية الحياة، إننا شعبٌ يدفع الضرائب لجيوب الأثرياء، وبملايين الليرات، صاغراً، لكنّه "يغصّ" بألف ليرة تذهب إلى جيب فقيرٍ آخر. لم أستطع منع نفسي من التفكير بأن ثمن بيع تلك الباقات العشر المتكوّمة إلى جانب تلك العجوز لن يكفيها للعودة إلى منزلها، فكيف سيكون بوسعها إطعام أطفالها إذن؟
لقد قتلت الحياة في هذه البلاد ما تبقى من إنسانيتنا، أما مهارتنا فباتت مقتصرة على أخذ أماكننا اللعينة في رقعة الشّطرنج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...