الرواية هي عن اختفاء؛ يعود الرجل إلى بيته ليكتشف الغياب المحيّر لزوجته. تترك له رسالة طبعاً، ولكن ذلك يزيده حيرة، وعندها يكون عليه أن يبدأ مسار البحث الشاق والمتعرّج. والآن، ما الذي كان الرجل يبحث عنه على وجه التحديد؟ إن هذا سؤال ضائع، لأننا نعرف ومنذ البداية بأنه يبحث عن زوجته، ولنجرب إذن سؤالاً أفضل: ما هي الأشياء التي يعثر عليها الإنسان أثناء بحثه عن شيء آخر؟
في المعجم "بحث الأرض: حفرها وطلب شيئاً فيها"، وفي القرآن "فبعث الله غراباً يبحث في الأرض"، وكان يَرْقُبه عندها أخ قاتل، ضائع، جائعٌ للمجد والصيت الحسن. إن البحث حفر إذن، يأتي عليك زمن مثلاً وتقرّر أن تحفر في أعماق نفسك: من أين يأتي كل هذا الوجع؟ إن فيديوهات التنمية الذاتية لا تترك أحداً لشأنه، عدا أنهم طبعاً يتحدثون عن الشفاء، وتنزل الكلمة كالبلسم العذب على روحك. هل قلت روح؟ إن الكلمات فخاخ.
في الرواية المذكورة يبحث الرجل عن نفسه ولكنه يصطدم بآخر. تقول لك مقاطع الشفاء السريع إن كل شيء مرتبط بصدمات الطفولة ولا ريب، الأب العصبي والأم النرجسية والعناقات التي انتظرتها لسنوات دون جدوى. " خْبَشْ تَجْبَدْ حْنَشْ"، إنه مثل مغربي عن أنك قد تُقلب في حفرة بشجاعة فتطلع عليك أفعى، يطلع عليك ماضيك بكدماته وأورامه وآلامه، فتندم على اليوم المنكود الذي فكرت فيه بالتشافي، لأنه وكما تعلم .we don’t do that here
قالت لي صديقة من قبل بأنني مستقلة أكثر من اللازم. وقد شرحت لي ما بدا لها اكتشافاً عظيماً: إن هذه ردة فعل ناتجة عن تَرْك في الطفولة. هللويا! مرحبا يا ألعاب علم النفس الملقاة على قارعة مواقع التواصل الاجتماعي... مجاز
طفولة هذه
في بداية أحد الفصول، يورد الكاتب اقتباسا لمارسيل بروست: "حين يُترك الإنسان يجب أن نُبدي له سبباً، لا يمكن الذهاب هكذا فجأة. طفولة هذه".
إنها طبطبة على جرح البطل المتروك والآلاف من القراء المتروكين أيضاً: الشباب الذين تركتهم حبيباتهم من أجل مستقبل أفضل، الأطفال الذين نسيت أمهاتهم أن تحضنهم وفات الوقت لتذكيرها بذلك، والسادة المحترمون الذين يحسّون في زوايا أنفسهم بأن الله قد تخلى عن العالم، وما الذي يتبع تعرضك للتّرك عادة؟ إنه بالضبط إحساسك بأنك تستحقه.
إنني ألهو بالكلمات وتلهو بي. قالت لي صديقة من قبل بأنني مستقلة أكثر من اللازم، ويمكنني أن أكتفي من الدنيا بحاسوبي وتِرْمُس القهوة الأخضر. إن الآخرين يُكَونون عنك آراء لا تعرفها أنت نفسك، وقد شرحت لي ما بدا لها اكتشافاً عظيماً: إن هذه ردة فعل ناتجة عن تَرْك في الطفولة. هللويا! مرحبا يا ألعاب علم النفس الملقاة على قارعة مواقع التواصل الاجتماعي.
ما الذي يعثر عليه المرء في بئر؟
في جزء ما من رواية " الكتاب الأسود" يجري الحديث عن البئر التي ألقى فيها القتلة جثة شمس الدين التبريزي. ينظر مولانا جلال الدين إلى صفحة الماء في ليلة شتوية، ويكتشف وجه حبيبه المقتول. إن الضباب والفجيعة يصنعان الأعاجيب والخيالات، فيسأل نفسه: هل أصبحت أشبهه لهذا الحد؟ يدور هذا السؤال في رأسي، أما شيخ العشق والموسيقى فيبكي ويدخل في حالة من الهذيان والإنكار. إن البكاء أعلى درجات الفهم لوضعنا البشري أصلاً، والضحك أيضاً والبصاق على وجه ما يخيفنا، أو قطع أصابعنا حتى لا تشير إلى أحد. وإذن، فهل جربتم من قبل أن تحدّقوا في بئر؟
قدم لي أحد أقاربي وصفاً طريفاً عن بئر ذات مساء صيفي. البئر كانت جافة وكان الجميع يعلمون ذلك، ولكنهم كانوا يسمعون خرير ماء أحياناً، وتعايشوا مع الأمر بتجاهله. بسّط لي الأمر بطريقته: إن البئر يتذكر ماءه.
حدث ذلك أثناء زيارتي لواحدة من قرى الريف حيث جزء من عائلتي الممتدة، وقد حكوا لي بأنها بدأت تفرغ من سكانها على نحو حزين ومتواصل، إذ من يريد أن يحمل معولاً في أيامنا هذه؟
وماذا فعلت حين كانوا يحفرون قبرك؟كنت أشجّعهم بالتصفيق والهتاف
هذا مزاح طبعاً. يعود المهاجرون بعد سنوات وهم يرطنون كلاماً بالهولندية والإسبانية والفرنسية، ويبدون كأشخاص آخرين وسط فقر القرية المدقع. هذا يُجَنّن الباقين، وقريبي المثقف نفسه قال لي: سأذهب أنا أيضاً ذات مرة، ولن نُخلف هنا سوى هذه البئر الجافة. واستيقظ الشعر عندها في الجو فجأة: البئر الوحيدة الجافة/ البئر الجافة الوحيدة التي تنتظر.
قبلها كنا قد جربنا أن نصرخ في عمق البئر. كنت أزور القرية كغريبة تقريباً، وكان غير مهتم بأعرافها، فأراني الأماكن كلها وصرخنا بأعلى صوتنا في عمق الظلام، ثم أحسسنا بالتفاهة فضحكنا بصوت عال وسَمِعَنَا البئرُ أيضاً. قلت له إنني لا أستطيع أن لا أتذكر قصة مولانا وحبيب روحه المقتول كل مرة فحرك كتفيه باستهانة لأنه لا يحب الأشياء التي لا يمكن فهمها بواسطة العقل. خلال الأسبوعين السابقين كان قد ودع أصدقاء له. لقد غدت تجارة الهجرة السرية بالريف في أزهى فتراتها تقريباً، وهو يعتقد بأن السبب هو "هم يريدون أن يسمحوا بذلك".
يشير المغاربة إلى الأعلى بسباباتهم عند الحديث عن السلطة/ الدولة/ المخزن، الدواليب غير المفهومة والتي تخيفهم مع ذلك. هذه المرة هاجر شقيقه أيضاً، شاب صغير ومتعلم ومجتهد وأفضل منه.
من وضع هذه المفاضلة؟
إنها حقيقة.
إنني أسأل أسئلة غير مناسبة، ويبدو ذلك عملاً من تأثير البئر والغروب وشقيقاته الكبيرات والصغيرات المنشغلات بمطاردة الدجاجات، كما لو كنا في لوحة عن "جمال الحياة الريفية".
قالوا لك ذلك من قبل؟
قالته لي دائماً، أمي.
والآن لنتأمل صورة قابيل القاتل الباكي، لأنه كان يبكي بالضرورة، وصورة الغراب الذي "يبحث في الأرض". ابك يا سلفي المتخيل الحزين!
ذات مرة مثلاً رأت أنهم يجهزونها للدفن حية، وأنها قالت لوالدتها: أنت لست أمي، وأنهم كانوا يحاولون تكسير ذراعيها بجدية حتى يتسع جسدها في قبر... مجاز
هذه ليست رواية بوليسية
في الحلم، ترى شريكتي في السكن أشياء سيئة وتستيقظ بمزاج معكر. قالت لي بأنها تفكر أن تزور طبيباً نفسياً لكنها لم تفعل ذلك أبداً. أحياناً تحلم بأنها تجري حوارات مع والديها، وتكشط الكلمات الفظيعة من قلبها، وتكمن المشكلة في الإحساس الذي يعقب ذلك: كنت سأرتاح لو قلت لهم ذلك إذن، كان ذلك ليحلّ كل شيء.
أسمع خطواتها في صالون البيت وأعرف بأنها لا تنام أو أنها قد استيقظت بسبب حلم، "ليست كوابيس طبعاً"، وذلك بالرغم من كل الفزع الذي يلي ذلك. ذات مرة مثلاً رأت أنهم يجهزونها للدفن حية، وأنها قالت لوالدتها: أنت لست أمي، وأنهم كانوا يحاولون تكسير ذراعيها بجدية حتى يتسع جسدها في قبر.
هل كانت تنتظر أحلاماً أفضل؟ حاوَلَت أن تتقرب من والدتها مؤخراً واعترفت لها بمودة: في صغري كنت أحس بأنني مهملة تماماً، فقاطعتها بالحوقلة، وضحكت هي لتبرر سخافة ما قالته، والآن ما الذي يحدث للكلمات التي لم نقلها أبداً ولن نقولها؟ إنها تدفن في بئر، وبعدها طبعاً تبدأ نوبات القلق والصراخ أو الالتصاق بالسرير أو الهروب من الألم بالنوم أو الجنس أو العقاقير أو الخيالات.
إنك ضحية كاملة ولكنك لا تفهم ذلك، وإنها إذن الرواية البوليسية المثالية، حيث يمكننا أن نلتقي بالجلاد والضحية وكلاهما لا يعرفان أي شيء، أما في "الكتاب الأسود"، فإن البطل يتحول بالنهاية إلى شخص آخر، ليس فجأة ولكن شيئاً فشيئاً وعن طريق التفاصيل، إذ إنه "لا يمكنك أبداً أن تكون نفسك". إنك دائماً أقل أو أكثر مما يجب، وقد تخيف شراهتك للحياة الآخرين، وقد يكون عليك، كصديقتي، أن تخفي أحلامك السيئة في زياراتك لأسرتك، وأن تبتسم برزانة شخص كبر بلا أضرار.
وماذا فعلتِ حين كانوا يحفرون قبرك؟
كنت أشجّعهم بالتصفيق والهتاف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 8 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت