كثيراً ما تحمل المهن البسيطة أفكاراً كبيرة، تصميم وصناعة المجوهرات هما من هذه المهن، ففي حيز عمل لا يتجاوز بضعة سنتمترات لصناعة خاتم أو قلادة يتم وضع كثير من الحرفة والدقّة للخروج بجمال مكثّف، يعكس ذوق من ترتديه ومن صنعته.
هديل كنج هي مصممة مجوهرات فلسطينية، درست هذه الحرفة في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن تعود إلى مدينتها الصغيرة في فلسطين، حيث افتتحت مكانها الصغير كمشغل وستوديو، ومن هناك بدأت أعمالها وقطعها "الصغيرة" تنتشر وتُعرف على نطاق جغرافي أوسع.
كثيرة هي المشاريع التي تخرج من المدن الصغيرة وتحمل شكلاً من أشكال الإبداع القائم على الهوية المحلية، أي الهوية التي لم تلمسها العولمة أو تحيّدها، إلاّ أن سؤال هل تحديث التراث هو شكل من أشكال العولمة يظل مطروحاً، وبغض النظر عن الإجابة فما تقدمه كنج لا يختلف فيه اثنان بأنه ذي طابع عربي فلسطيني وجميل سواء أكان تراثاً محدثاً أم جديداً بالكامل.
مكان صغير في الناصرة
درست هديل كنج تصميم المجوهرات في الولايات المتحدة، ثم عادت إلى الناصرة وافتتحت مشغل وستوديو صغيرة لتنطلق من هناك ورشتها بتصميم الحلي العربيةبعد أن أنهت دراستها عادت هديل إلى مسقط رأسها في الجليل، للمكان الذي استقت منه بصمتها، ولاحقاً افتتحت "استديو هديل كنج" في حي سباط الشيخ في قلب سوق الناصرة والبلدة القديمة، حيث عبق الماضي والمباني العتيقة. تقول: "منذ عقدين والسوق يعاني من هجرة أهله، فكان قراري أن أفتتح الاستديو الخاص بي نابعاً بالأساس من انتمائي للمكان والسوق القديم والمدينة التي ترعرت فيها، لتظل الناصرة عامرة بأهلها".
الحرف العربي في المجوهرات
لم تكن المجوهرات والإكسسورات حبها الوحيد، بل كان للتراث الفلسطيني كذلك، ومن هنا جاءت فكرة دمج اللغة العربية وبعض الزخرفات الفلسطينية والإسلامية في تصاميمها، تردف: "الهوية في كل القطع المصممة من تحت يدي تمثل أفكاري ولوني وبيئتي".ولدى سؤالها عما تمنحه اللغة العربية للقطع التي تقوم بتصميمها؟ أجابت: "اللغة العربية هي هوية أرض فلسطين، وجماليتها تُضفي جمالاً من نوع آخر على القطعة الفنية، لذلك فحفر الأحرف العربية على القطعة يشكل لوحة خلابة تعكس هوية المكان".
كنج: "اللغة العربية هي هوية أرض فلسطين، وحفر الحرف العربي على القطعة يشكل لوحة خلابة تعكس هوية المكان"تصمم هديل القطع الفنية على الورق قبل أن تقوم بصنعها وتنفيذها في ورشتها، وبالإضافة إلى الخط العربي كما تقول تستوحي كثيراً من تصاميماتها من الطبيعة والحجر والتراث.
"حِل عني"
تتفق كنج مع الزبون/ـة على الكلمة أو الجملة التي يريد/ تريد نقشها على القطعة المرغوب شرائها أو اقتنائها، ثم على نوع الخط والمعدن، سواء من الذهب أو الفضة أو النحاس، ومن ثم ترسم فكرتها على الورق وتنقش النص عليها، قبل أن تصعد إلى الطابق العلوي في ورشتها لتنفيذ المطلوب.وعن القصص الطريفة التي تصادفها في هذه المهنة تقول إن أحد الزبائن طلب منها أن ينُقش على خاتم ثقيل جملة بالعامية الفلسطينة بمجرد أن يراها المرء يضحك من قلبه وهي "حل عني".
تقول: "تبدو عبارة غريبة، فلطالما تعودت أن تكون طلبات الزبائن على الأساور أو الخواتم المنقوشة بالنقوش العربية من وحي كلمات الحب والجمل الرقيقة". وعندما أبدت دهشتها تبين أن الرجل الذي يريد الخاتم يسمع هذه الكلمة دائماً من ابنه.
حين يُترك الخيار للزبائن فقد تختلف الكلمات التي تصمم تحت الطلب باختلاف الأمزجة والأشخاص، كما تختلف القطعة من خاتم إلى سوار إلى قلادة. ومثلما صممت كنج جملة "حل عني" على الخاتم للأب الممتعض من ابنه، صممت كثيراً من جمل الحب الرقيقة، لكنها تقول إن أحب تصميماتها إليها جملة "أنت بداية روحي ومسك الختام".
تلمع في وجه الأسرلة
أما عن كيفية تسويق المنتجات التي تقوم بتصنيعها، فتقول كنج لرصيف22: "مواقع التواصل الاجتماعي شكلت نافذة للترويج للمشروع، وبذلك تغلبنا على الحدود والعوائق التي تمنعنا كفلسطينيات مقيمات داخل الخط الأخضر من السفر إلى بعض الدول العربية". كنج: "طلب أحد الزبائن مني تصميم خاتم كُتب عليه جملة (حِل عني) بالعامية الفلسطينية، وحين سألته عن السر، أخبرني أن إبنه يظل يرددها في وجهه طوال الوقت"
وتستعد كنج خلال الأسابيع القادمة لافتتاح استديو أكبر في مدينة الناصرة، في خطوة تطويرية جديدة لمشروعها، وهي تطمح أن تصل أعمالها الفنية إلى كل البلاد العربية، وألا تشكل العوائق السياسية والجغرافية حاجزاً أمام ترويجها أو قبولها.
وحول عملها الدائم على تطوير نفسها وعدم الوقوع في فخ الاستسهال، تجيب: "أحرص على السفر بشكل دائم والتعرف على ثقافات جديدة، كما أقرأ كثيراً عن تاريخ الحلي وصناعتها ومراحل تطورها، وأهتم بمتابعة ما هو جديد من دورات في صناعة المجوهرات".
كل يوم تظهر مشاريع نسائية لمقاومة الأسرلة
هديل كنج واحدة من نماذج نسائية فلسطينية حرصت صاحباتها على الأخذ من التراث وإعادة تقديمه بقالب عصري، فالمشاريع الفلسطينية النسائية القائمة على الاستلهام من الماضي كثيرة، وكلها بحسب صاحباتها تصب لصالح تكريس الهوية إلى جانب جانبها الاقتصادي بطبيعة الحال.في الطعام والحلي والتطريز والغناء، لماذا النساء أكثر حرصاً على الحفاظ على الهوية؟
ولم يكن الأمر بالنسبة للنسوة اللواتي يفضلن ارتداء ما تغلب عليه البصمة العربية مجرد إضفاء جمالية لهن بقدر ما هو محاولة لإحياء اللغة العربية والهوية الفلسطينية التراثية أمام الأسرلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...