تأخذنا عمليات الشغب والسرقة والعنف التي تترأسها عصابات ممنهجة ومارقة عن القانون، إلى الحديث عن ظاهرة قديمة متجددة تُعرف بـ"باندية" الأحياء الشعبية، حيث يحاول أفرادها تبوّؤ مكانة باندي الحومة عبر التشبه بشخصيات جدلية كان لها وقع تاريخي مثل علي شورب، الذي وصفه البعض بالأسطورة ونعته البعض الآخر بصعلوك زمانه وبالمجرم، حتى إن الدراما اختارت اقتباس حياته من أجل مسلسل تلفزيوني. فمن هو؟
شورب... الرجل المفارقة
يُعدّ شْوِرِّب، من أشهر الباندية في تونس إلى جانب عبد الله الغول ومانع التالس وشيروبة وغيرهم. هو علي بن البشير الصغير. وإن كانت كلمة باندي تُشتقّ من الكلمة الفرنسية Bandit، أي الخارج عن القانون، فقد ارتبطت كنيته شورب، بنتوء شفتيه خاصة العليا منهما. استقبلته الحياة في محافظة ماطر شمال تونس في مطلع الثلاثينيات وتحديداً يوم 18 كانون الأول/ يناير 1930، وفارقها مقتولاً يوم 9 أيار/ مايو 1972. عاش وترعرع في الحاضرة تونس في الحلفاوين، ويقال إنه أقام ثلاثين عاماً في منزل في "حي بالخير" على وجه الكراء دون أن يدفع ثمن إيجاره طوال تلك المدة.
تتبادر إلى الذهن عند سماع مصطلح "باندي"، بعض الصفات التي ترسم عادةً صورةً مثاليةً لجسم رجل خارق القوة ومفتول العضلات، طوله فارع، كلما رمق شخصاً في الطريق بعينيه الغائرتين أخافه. إلا أن شخصيتنا الجدلية كانت مغايرةً، ففي محاولة للبحث في صفات وخصال علي شورب ومميزاته بين أبناء حيه القدامى وأقاربه، يقول العم بوسعيد خلفاوي، لرصيف22: "كان شورب قصير القامة ونحيل الجسم لكن قوي البنية ولكمته حديدية يهابها الصديق قبل العدو. كان دائماً يرتدي سترةً زرقاء من قماش 'الدنقري'".
يُقال إن وفاة علي شورب كانت 'غريبةً'. وهناك روايتان لم يُعلم لليوم أيهما الأصح. لكن حياته تحولت إلى أسطورة في أوساط التونسيين في زمن ما بعد الاستقلال
يضيف محدثنا، وهو مسنّ حملت تقاسيم وجهه رحلةً من الشقاء والذكريات المريرة: "كان شورب في سن الـ16 عندما قُتل والده (وهو بائع خضروات)، على يد قوات الاحتلال. أخذت والدته شريفة على عاتقها عناء تربيته خاصةً أنه تأثر كثيراً بمقتل أبيه الأمر الذي زرع فيه حقداً وانتقاماً ضد كل من يحاول أن يمارس عليه وعلى أهله وجيرانه أي نوع من أنواع الظلم، لذلك كان كثير الولوج إلى السجن بسبب غضبه السريع وردة فعله العنيفة، فما لا يستطيع تحقيقه باللين كان يحقّقه بالعنف والقوة".
"إن الحياة خلف القضبان، إذا طالت مدتها وزادت قسوتها، قد تؤدي إلى تغيير شخصية السجناء على نحو يجعلهم أكثر تمرداً في الشارع"؛ بهذه العبارة حاول السيّد صابر، وهو إطار سامٍ متقاعد من وزارة الداخلية، تفنيد ما قيل عنه واصفاً إياه بأشهر سجين في تاريخ تونس، فقد حوكم في ما يربو على 100 قضية بين عنف وتشويش وسكر وسرقة وبلطجة وتعكير للصفو العام وقضايا أخرى.
يعدّ صابر، في حديث إلى رصيف22، أن "شورب ليس سوى صعلوك زمانه، رسمه الناس على أنه أسطورة يهابها الجميع حتى الدولة والشرطة. والحال أنه كان مخبراً لدى الوحدات الأمنية. صحيح كان له عدد كبير من 'ربطيات' السجن سواء في آخر عهد الاستعمار أو في بداية الاستقلال والستينيات، إلا أنه كان منصفاً لبني عشيرته فكل من يُسرق أو يُظلم يتجه إلى علي لإنصافه، كما أن البعض ممن عاشوا تاريخه أكدوا أنه بدأ حياته بالنضال ضد الجندرمية (قوات الدرك)، وكان مشاكساً للمستعمر الفرنسي ومتربصاً به في أزقة وشوارع باب سويقة والمدينة العتيقة".
رمز للانحراف أو للبطولة؟
تأييداً لبعض المعطيات التي أدلى بها صابر، يرى المؤرخ والباحث في الأنثروبولوجيا وحيد لطفي المقني، أن شخصية علي شورب غامضة وحولها خلاف كبير. فقد ناصر الفقراء والمساكين وحمى الضعفاء وكره ابتزاز النسوة والأطفال لكن هناك في الوقت نفسه من يراه ذلك الصعلوك الماجن لشهرته ببيع الخمر وبدور الفتوة الذي يبتز الأثرياء والتجار. نعم لقد كان "باندياً"، لكنه لا يخشى سوى والدته التي تأتي في معمعان خصوماته وتأمره بالتوقف ودخول البيت فيطأطئ رأسه وينصاع لأوامرها كالطفل. هذه واحدة من خصاله المتفق عليها". حتى أن البعض كان يقول إنه لا يخشى أحداً غير أمه.
شورب ليس سوى صعلوك زمانه، رسمه الناس على أنه أسطورة يهابها الجميع حتى الدولة والشرطة
يعود بنا الباحث وحيد إلى زمن مضى وولّى قائلاً: "عندما صعد نجم شورب أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، لقى مقاومةً عظيمةً من مؤسسات الدولة التي حاولت إرجاعه إلى حجمه الحقيقي حتى لا يتجبّر ويتمرد أكثر. حتى أن الحكواتي عبد العزيز العروي والزعيم الحبيب بورقيبة وغيرهما تحدثوا عن خطورته على المجتمع. وكما قلت فإن التهليل لبطولاته لاقى مقاومةً آنذاك حتى لا يؤسس دولته الخاصة به بالتعاون مع أتباعه وأشباهه، ولا تقسّم البلاد إلى دويلات، وتتزعم تلك الدويلات عصابات".
ميتة غريبة وجنازة مهيبة
تختلف الحكايات التي يردّدها الشارع التونسي حول نهاية شورب، لكن الأكيد أنه قُتل "غدراً".
"يُقال إن وفاة علي شورب كانت 'غريبةً'. وهناك روايتان لم يُعلم لليوم أيهما الأصح؛ الأولى تقول إن مجرماً خطيراً يدعى العمدوني تعمّد الإيقاع بشورب في شارع 'نهج لندرة'، عبر طرحه أرضاً ليسقط حينها ويرتطم رأسه بالرصيف أو –البلانكينة- ويفارق الحياة في التاسع من أيار/ مايو 1972. ويُروى أيضاً أنه توفي غدراً في نهج مرسيليا من قبل ثلاثة أفراد تحالفوا ضده وأردوه قتيلاً وهو في حالة سكر"؛ هذا ما سرده العم بوسعيد خلفاوي، لرصيف22، معرباً عن استغرابه حيال طريقة موت شورب لأنه، وفق تعبيره، "شخصية لا تقبل الهزيمة ولا يعرف لها الخوف طريقاً. وشورب كان في تلك الفترة منهكاً لأنه لم يغمض له جفن طوال أربعة أيام متتالية". حكاية الرجل تؤكد الهالة التي أحاطت بشورب في أوساط مجايليه، وتعكس إيماناً بـ"قوته الخارقة".
الصعاليك الشرفاء كانوا أبطالاً في نظر من عاصرهم، وقد صورّهم الخيال شجعاناً يحاربون الظلم ولا يعترفون بالقوانين
مات الملقّب بـ"الصعلوك الشريف" عن عمر 42 سنةً، وأُعدّت له جنازة من أكبر الجنازات في تاريخ التونسيين حاول البعض خلالها لفّه بعلم تونس لإضفاء بُعد وطني على شخصيته، حتى أنها شُبهت بجنازة المنصف باي، وحضرها عدد مهول من الأشخاص ومشى وراء نعشه الكبار والصغار والفقراء ومشائخ الزيتونة وحتى كُتّاب الدولة، الأمر الذي اضطر وزارة الداخلية إلى إصدار مرسوم يمنع الجنازات الضخمة التي ربما تخرج في ذلك اليوم حفاظاً على الأمن العام.
يعدّ محمد الجويلي، الأستاذ في علم الاجتماع، أن هؤلاء "الصعاليك الشرفاء كانوا أبطالاً في نظر من عاصرهم، وقد صورّهم الخيال شجعاناً يحاربون الظلم ولا يعترفون بالقوانين، وتالياً فإن محاولات البعض إضفاء بُعد اجتماعي على جنازة شورب لم يكن عن حسن نية، لأنها كانت تخفي وراءها بُعداً سياسياً الغرض منه إثارة عواطف السلطة في ذلك الوقت".
يُذكر أن المؤلف والسياسي ووزير الثقافة الأسبق البشير بن سلامة، كان قد أشار في تصريحات سابقة له إلى أن الباهي الأدغم، كاتب الدولة لدى رئاسة الجمهورية في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة، حضر مراسم دفن علي شورب.
وعلّل بن سلامة، بعد تواصل رصيف22 معه، خلال إجابته عن الأبعاد والدلالات التي يحملها حضور شخصية سياسية بارزة وقريبة من زعيم البلاد في جنازة مواطن عادي عُرف ببلطجيته آنذاك، بأن "تواجد الباهي الأدغم له دلالتان هما إما أن شورب وكاتب الدولة لدى الزعيم بورقيبة كانا من الحي أو "الرّبَطْ" نفسه، أو أن علي شورب كان قد شارك في أعمال وطنية نجهلها". جواب يترك كل الأبواب مشرعةً نحو تأويل مآلات علي شورب... فهل كان "الباندي" بطلاً مجهولاً كما يراه البعض؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...