"تم القبض على ساحرة في..." قد يبدو لك وكأنّك تقرأ رسالة إخبارية في إحدى قرى أوروبا العصور الوسطى و لكن في الحقيقة هذه ليبيا في القرن الحادي والعشرين. فبمجرد التصفح على موقع فيسبوك يمكن العثور على مئات الصور والفيديوهات المنشورة على صفحات الجهات الأمنية و الاخبارية معلنة القبض على من يسمونهنّ بالساحرات. أدّى هوس المجتمع الليبي والسلطات الرسميّة بالممارسات المعتبرة "شعوذة" إلى سلسلة من العواقب المثيرة للقلق.
مجلس النوّاب لقانون يجرّم "السحر"
أثار سنّ مجلس النوّاب لقانون يجرّم "السحر" مخاوف بالغة، فاللغة الغامضة المستخدمة في القانون تعني أنه لا يقدم تعريف سوي لما هو السحر أصلا. عدم الوضوح في هذا القانون (بالرغم من كونه غير مفاجئ نظرًا لطبيعة "السحر" الغير ملموسة) بحدّ ذاته يطرح مجموعة كبيرة من القضايا. فإدخال المفاهيم الميتافيزيقيّة في العملية القضائيّة يخلق حالة من عدم اليقين القانوني ويطرح معضلات إثباتيّة والأهمّ من ذلك يفسح المجال للتحيّز الثقافي والديني.
لا ينبغي الاستخفاف بهذه القضايا – فالقانون ينصّ على السجن لمدّة لا تقلّ عن 10 سنوات لممارسي السحر، مع احتمال السجن المؤبد أو حتى تنفيذ عقوبة الإعدام. ويمثّل الاعتراف القانوني بـ"السحر" مشكلة بحدّ ذاته، بل إنه قد يفتح الباب أمام المجرمين الادّعاء أنهم كانوا مسحورين كوسيلة للدفاع عن الأفعال الإجرامية.
أثار سنّ مجلس النوّاب لقانون يجرّم "السحر" مخاوف بالغة، فاللغة الغامضة المستخدمة في القانون تعني أنه لا يقدم تعريف سوي لما هو السحر أصلا.
الصورة النمطيّة للمرأة المشعوذة
ومن تداعيات هذا القانون المخيفة هو تأثيره على النساء. فهناك صورة نمطيّة لـ"المرأة المشعوذة" في المجتمع الليبي، حيث تجد بعض النساء أنفسهنّ يتعرضن الاتّهامات - وغالبًا ما يكنّ أوّل من يُتهم بالسحر والشعوذة مما يؤدّي في أفضل الأحوال إلى تهميشهن اجتماعيًا وفي أسوأ الأحوال احتجازهن من طرف السلطات الأمنية. في تطبيق لهذه الصورة النمطية منعت الأجهزة الأمنية في مدينة الزاوية النساء من زيارة المقابر، مما زاد من عزل المرأة عن الفضاء العامّ الذي غالبًا ما تستبعد منه بالفعل، والأهم من ذلك حرمانهنا من حقها الإنساني في الحزن على أحبائها و زيارة قبورهم. ما حدث في مدينة الزاوية ليس بحالة شاذّة، فتخشى النساء الآن زيارة المقابر في مدن كثيرة في جميع أنحاء ليبيا خوفًا من اتهامهن بممارسة السحر. في طرابلس، تم تركيب كاميرات مراقبة في العديد من المقابر.
الصورة النمطيّة للمرأة المشعوذة ليست جديدة بل هي موجودة منذ القدم. في ورقة بحثية له يرى الباحث المغربي عبد الهادي عربي أن السحر ليس مجرد إعتقاد المرأ بإمكانية خرقه للطبيعة أو التأثير عليها بل هو يحمل أهمية اجتماعية وثقافية ونفسية أيضا. قد تفسر الديناميكيّات السائدة في مجتمع أبوي كالمجتمع الليبي سبب لجوء بعض النساء إلى ممارسة السحر لمقاومة هيمنة السلطة الذكوريّة وموازنة قدراتهن المحدودة حتى و إن كانت هذه المقاومة متخيلة. بالإضافة إلى ذلك فقد تؤدّي الصور النمطية التي تظهر النساء كحاملات لقوى غامضة إلى ما يسمى بالنبوءة ذاتيّة التحقّق: فالمرأة بسبب خوفها وتعرّضها إلى التهميش المجتمعي قد تلجأ إلى السحر للحصول على القوّة.
تسلّط هذه الظاهرة الضوء على التفاعل بين أدوار الجنسين والتوقعات المجتمعيّة، مما يدعونا إلى إجراء تحليل نقديّ للعلاقة بين أدوار المرأة وتجلّي هذا النوع من المعتقدات في حياتها. ويظهر ذلك في الصورة النمطية للساحرة في ليبيا والتي تتميّز بالشيخوخة والقبح والفقر والعزوبية – في جوهرها هي المرأة المستضعفة من قبل المجتمع.
السحر وتفسير ما لا يمكن تفسيره
في العصور الماضية، كان السحر يقدم تفسيرا للبشرية لما لا يمكن تفسيره. ومن الغريب أنه بالرغم من العقلانيّة والتطوّر العلمي لا تزال بقايا هذه المعتقدات القديمة صامدة وفي هذه الحالة في شكل التخيّل الأبوي للساحرة الذي يهمّش المرأة ويصنّفها بشكل دوني لانحرافها عن المعيار التقليدي لما يجب عليها كمرأة أن تكون عليه.
في بنغازي وجدت الأختان ابتسام وربيعة بن عمران نفسيهما مورّطتين في هذه السلسلة من الاتّهامات الباطلة. إذ أن الأختان يديران ملجأ للحيوانات و من الجدير بالذكر أنهن نساء غير متحجبات يديران الملجأ لوحديهما (بدون أي رجل) و خصيصا للكلاب التي ينظر المجتمع إليها بأنها "نجسة" فيمكننا القول بأن الاختان في نظر المجتمع هم خارجات عن الدور النمطي للمرأة. و بالفعل أدى هذا الى اتهامات من جيرانهما بممارستهما "السحر" و"الأنشطة المشبوهة" في ملجئهما فأصدر نائب وزير الداخليّة في بنغازي أمر تعسفي باحتجازهما. احتُجزت الشقيقتان لعدّة أيام بالرغم من عدم وجود أي اتهامات رسميّة و دون السماح لهما بالتواصل مع أسرتهما أو الحصول على مساعدة قانونية. علاوة على ذلك نشر جهاز أمني مقطع فيديو درامي لمداهمة الملجأ مما أدى إلى حملة كراهية ضد الأختين عبر الإنترنت وتدمير سمعتهما.
في العصور الماضية، كان السحر يقدم تفسيرا للبشرية لما لا يمكن تفسيره. ومن الغريب أنه بالرغم من العقلانيّة والتطوّر العلمي لا تزال بقايا هذه المعتقدات القديمة صامدة
اتهامات دائمة للمهاجرات
بالنظر إلى الاتّهامات بالسحر كوسيلة لمعاقبة كل ماهو خارج عن المألوف يمكننا أيضًا رؤية كيف يتجلّى ذلك في سياقات أخرى، إذ يُنظر على سبيل المثال إلى النساء من خلفيّات مهاجرة وخاصة أولئك المنتميات إلى جنسيات مرتبطة نمطيا بالسحر بعين الشك وهن أول من يتهمن بممارسة السحر. حتى الآثار القديمة لم تسلم من هذه الظاهرة، ففي عام 2020 في الجنوب الليبي دمّر رجال الدين لوحًا طينيًّا في موقع أثري بتهمة احتوائه على طلاسم - والتي كان من الواضح أنها مكتوبة بخط التيفيناغ وهو خط ليبي عريق.
لا شكّ أن السحرة أو المشعوذين يلعبن دورًا كبيرًا في تفاقم هذه الظاهرة، و لكنهم ليسوا المشاركين الوحيدين فيها. فلا يقلّ أهمية عنهم العملاء الذين يبحثون عن خدماتهم. و يمكننا أيضا تحليل هذا من خلال عدسة جندرية. في المجتمع الليبي الذي يربط قيمة المرأة بحالتها الاجتماعيّة، يمكن أن تتعرض المرأة الغير متزوجة أو المطلّقة خاصّة مع تقدّمها في السن إلى الانتقاد والاستبعاد المجتمعي. قد تبحث بعض النساء اللاتي بقين غير متزوجات لفترات طويلة عن السحرة للتحسين من حظوظهن. يكون السحر ملجأ جذاب لهذه المرأة بوعده "بجلب الحبيب". وهكذا تصبح هؤلاء النساء ضحية لذات النظام الذي يهمشّهن، ربما في غفلة عن السياق الأبوي لمشكلتهن.
في ظل هذا المشهد السحري الأبوي، قد تقع النساء أيضًا ضحية لفكرة عين الحسود أو اللعنات. ومرة أخرى، سعيا إلى تفسير ما لا يمكن تفسيره بالقوى الخارقة للطبيعة وفي محاولة لحماية أنفسهن من العين واللعنات، قد تبحث هؤلاء النساء عن الشيوخ لترقيتهن (غالبًا مقابل المال) وحفظهم من العين أو إبعاد أي سحر قد وضع عليهم.
ثالوث التفاعلات
يمكننا تبسيط هذه الظاهرة ككل إلى معادلة تضم ثالوثًا من الجهات الفاعلة يلعب كل منها دورًا متميزًا. أولاً هناك السحرة الذين يلجؤون إلى السحر للحصول على السلطة سواء أكان ذلك في بعد ميتافيزيقي متخيل أم لتحقيق مكاسب مالية. ومن ثم لدينا "الحُماة" وهم رجال الدين والمشرّعون الذين يحاربون السحر، إما بسبب خوف حقيقي منبثق من معتقداتهم الدينية أو لمكسبة مجتمعية أو ماليّة. وأخيرا هناك العملاء – نساء حبيسات مجتمع ذكوري يشعرن بالخيبة. قد يبحث هؤلاء العملاء اعتمادًا على معتقداتهم إما عن سحرة لتمكين أنفسهم أو عن "الحماة" لحمايتهم من عين أو سحر قد يكون وضع عليهم.
هذه المعادلة المعقّدة الناتجة عن التفاعل بين النساء العاجزات والسحرة الذين يعرضون خدماتهم و رجال الدين الذين يقدّمون الحماية تشكل دورة لا نهاية لها حيث يغذّي كل جانب الآخر. كل ما استضعفت المرأة الليبية لجأ بعض النساء إلى المشعوذات و كل ما زاد العملاء زاد نفوذ المشعوذة و كل ما زاد نفوذ المشعوذة زاد لجوء الناس إلى رجال الدين لحمايتهم ، و بهذا يزداد عموما خوف المجتمع من السحر مما يأدي إلى الضغط على المشرعين و صناع القرار لمكافحة هذه الظاهرة.
و بالفعل ، على مدى السنوات الماضية شكّلت مديريّات الأمن التابعة لوزارة الداخليّة وحدات خاصّة تهدف إلى مكافحة السحر في مختلف المدن الليبية. وفي عام 2022، أعلنت الهيئة العامّة للأوقاف عن إنشاء لجنة حصين وهي لجنة مموّله من قبل الدولة معنية لمكافحة السحر في مناطق مختلفة بالتعاون أيضا مع الجهات الأمنيّة. تقوم اللجنة بحملات منتظمة حيث تفتّش المقابر وتحتجز السحرة. في إحدى حملاتها أجرت لجنة حصين حملة على ما يسمى العطارات (التي تبيع التوابل والأعشاب الطبّية والعطور) وصادرت بعض الأعشاب والبخور التقليديّة للاشتباه في استخدامها في السحر.
في رأيي ، المذنب و المستفيد الأكبر من هذه الدوامة في الواقع هو رجال الدين و صناع القرار – إذ هم من لديه السلطة على أرض الواقع و تضمن لهم مكافحة السحر مكاسب عدة منها تمجيدهم كأبطال من قبل المجتمع و منها أيضا مكسبة مالية لرجال الدين إما من المجتمع أو من الدولة التي تمول برامجهم. رجال الدين و صناع القرار هم أيضا مساهمين في اضطهاد المرأة الليبية من خلال فتاويهم الدينية و تشريعاتهم و قراراتهم التي تميز ضدها، آخرها قرار منع المرأة من السفر بدون محرم من أكبر مطار بليبيا.
و في ازدياد مستمر للحكم الديني في ليبيا أعلنت هيئة الأوقاف في يونيو 2023 عن تشكيل "حرّاس الفضيلة"، وهو برنامج يشبه بشكل مرعب شرطة الأخلاق في إيران. ويهدف المجلس في نطاق يتجاوز السلطة القانونيّة المعتمدة للأوقاف ، إلى "استقبال ضحايا الانحراف الأخلاقي والعقائدي"، و "متابعة الضحايا لضمان إعادة تأهيلهم في المجتمع" - ببساطة، هو وسيلة لمعاقبة الأشخاص الذين لا يلتزمون بنهج الأوقاف السلفي و هو أيضا إعتداء على الحريّات الفرديّة.
فيما نحاول استيعاب ظاهرة السحر المعقّدة في المجتمع الليبي، يتضّح لنا أن ظاهرة مطاردة الساحرات هذه لا يمكن تجاهلها ببساطة بقول إن "السحر ليس حقيقياً". الشبكة المعقّدة من المعتقدات الدينيّة والديناميكيّات الجندرية والضغوط الاجتماعية تشكل نسيج متشابك. يتعلّق موضوع السحر والشعوذة أيضًا بظواهر أوسع مثل صعود التطرّف الديني وازدياد النفوذ السلفي و تدهور الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة في المجتمع الليبي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين