شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"الميمز" في ليبيا... مادةٌ لا يُكتب التاريخ الاجتماعي للبلاد من دونها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والفئات المهمشة

السبت 22 يوليو 202310:45 ص

"أنتم تعلمون ونحن لا نعمل. أنتم تعلمون ولا تعلمون. ونحن نعملون ولا نعلم"؛ هكذا تكلم، في مأتمٍ قبل عامين، رئيس أركان سلاح الجو الليبي، اللواء صقر الجروشي، محاولاً شرح موقفه من سؤال العلم والعمل

أتلبّك في أثناء قراءتي لسِيَر مشاهير "الميمز" في ليبيا، وأعني تحديداً من اشتهروا منهم من "عامة الشعب"، إذ يتماهى المتابعون معهم أو يحتجزونهم حصرياً في خانة السخرية. لا يخلو الأمر من إسقاطات ذهنية، كمثل الذي يشرح عقدة أوديب لأمه.

ما أن أتمّ الجروشي خطابه، حتى صار هدفاً "ميميّاً"، ووصل الأمر إلى أنصار الجيش أيضاً. على أن المراد هنا ليس الوقوف على مآلات السلطة في زلّاتها الكثيرة، بل محاولة استكشاف ما يصنع الضحك والبهجة بيننا. و"بيننا" تنسحب على "المواطن البسيط" الذي لا يتغرّب عن حديث الشارع وناسه، بخيره وبشره.

معارضٌ من دار المسنّين

في 2009، انتشر في شرق البلاد مقطع صوتي لأحد نزلاء دار المسنّين في بلدة مسّة، نستمع فيه إلى رجل هَرِم يسبّ معمّر القذافي والحكومة ويرثي حاله. سيصبح حسين فرنّش على إثره أول "معارض" من الهامش ينتشر صوته في محافظة الجبل الأخضر، في الأقل، ولا يُقبَض عليه. وربما يرجع سبب حريته إلى الاعتقاد السائد بأن لا شخص عاقلاً يسبّ القذافي علناً، لا سيما العجائز المغلوبين.

على أي حال، واصل فرنّش بعد ذلك كلامه الطليق في مقاطع الفيديو بعامّيّة تكاد تنقرض، يكشف من خلالها نوادر شعبيةً حيناً، وتعليقاً سياسيّاً حيناً آخر. في الحالة الأخيرة، لم تخلُ طلّاته من التعليق على مسارات انتفاضة 17 شباط/ فبراير، وحربها الملازمة حتى مقتل القذافي، إذ وصف باقتضاب سينمائي مشهد إعدامه. سيموت فرنّش قبل أن يشهد على أزمة الدولة في 2014، المستمرة حتى هذه اللحظة.

فشلت الدولة في بناء مؤسسات تدوّن أحوال الشعب وتوثّقها، فملأت "الميمز" الفراغ

حرب ميليشيات كلامية

وبالحديث عن الأزمة الليبية، تتحدث جل التقارير المحلية والدولية عن الميليشيات، مهما كان نوعها وتوصيفها ومصدرها.

في هذا الشأن، يظهر عبد الرزاق البكوش، منذ 2012، كعمود من أعمدة "الميمز" في ليبيا، فهو أحد مسلّحي الانتفاضة في بداياتها الذين اشتهروا في البلاد كلها بشتائمهم ومواجهاتهم.

فَقَد البكوش سلطة السلاح بعد الانتفاضة، ففاض غضبه على الجميع في المشهد السياسي. نرى في البكوش نموذجاً عن قائد ميليشيا يصعد من الهامش، فيلاقي من يتهكمون على ماضيه الأمّي، على غرار عبد الله ناكر (وهو مادة ميميّة أيضاً)، إذ عُيِّرَ كغيره بماضيه كفنّي إلكترونيات (كما العديد من قادة الميليشيات الذي كانوا يوماً ميكانيكيين أو بنّائين... إلخ).

يختلف ناكر عن البكوش، في دخول الأول معترك السياسة والسلطة. أما محرّك البكوش الرئيس فهو فقدان السلطة والمال، وهو الذي يشنّ حرباً كلاميةً على الجميع في السلطة لعدم تلقّيه راتبه المشروع، كما يقول.

يشترك الاثنان، وغيرهما من قادة الميليشيات، في السياسة الهوجاء وغياب البصيرة، لكن في ظلال هذا كله، يشتركان أيضاً في عكسِهما للنظرة الدونية التي يتبناها بعض منتقديهم إزاء الطبقة العاملة.

حين يشتم الأطفال

بعيداً عن السياسة، ظهر الطفل عزّو المرجاوي، في مطلع الانتفاضة في فيديوهات تحاكي عفوية فرنّش في صورة البراءة. وبعكس فرنّش، اشتهر عزّو في البلاد كلها، بل ذاع صيته حتى وصل إلى صحيفة "القدس العربي" التي نشرت خبر وفاته في 2021. عانى الطفل مطوّلاً من المرض، ما جلب قناةً محليةً إليه، عبر برنامج كاميرا خفيّة، لتعرض عليه الجنسية الإسرائيلية في مقابل التكفل بعلاجه. يرفض عزّو العرض ويكبر جمهوره. وبصرف النظر عن إمكانية استغلال القناة القضيةَ الفلسطينية من طريق الطفولة، يبقى عزّو المرجاوي مشتركاً مع فرنّش والبكوش في عنصر الضحك.

لقاء مع السلطة

الضحك طال أيضاً أغلب التعليقات المادحة لفيديو باسم الترهوني في 2022، إذ علّق المتابعون على صدق الترهوني وعكسه الواقع كما يرون. وباسم، كغيره من المهمشين، يتحدث عن الأكل والشرب والدواء والعيش الكريم، فيستقبله رئيس الوزراء، عبد الحميد الدبيبة (وهو مادة ميميّة أيضاً)، في مكتبه للحديث عن الخاص والعام.

وبصرف النظر عن إمكانية استغلال قصة باسم لتسويق الحكومة/ الدبيبة لذاتها/ لذاته، يلقى الترهوني حيناً من يهنئه على النجاح اللاحق، ومن يتندّر على حاله حيناً آخر (كحالة الخليل كوميدي، مثلاً). فقد أوصلته "خفة دمه" إلى التلفزيون في برنامج ستاند أب كوميدي. وخفة الدم هذه منبثقة من تأخر الراتب (كمثل البكوش)، وكرب الترهوني جراء حالة أمه الصحية.

إسقاطات

يخبرني صديق قديم أن البشر يفضّلون شرب الماء من كوب زجاجي متّسخ على الشرب من إناء بلاستيكي جديد، فقط لأن الأخير ليس مخصصاً للشرب، بل لغسيل الملابس. ويجرّني هذا الإسقاط إلى آخر: في الدول "الغنية"، حين تتدهور صحة المرء النفسية، يعالجها آنيّاً بمغادرة المدينة وتجربة حظه في أي مكان آخر في العالم. هذه ممارسة مشروعة ومستحبّة. وإنما الحديث عن المهمّشين لا يستسيغ عقلانياً رفاهية الخيار بين شكلَين (ماهية الكوب المتسخ والإناء الجديد)، وبين حياتَين (بيئة محمولة على ذكرى أليمة وأخرى جديدة مجرّدة). فالليبيّون يكادون يُجمعون على أن هؤلاء النجوم "مهابيل" و"دراويش"، ولا يجب أخذ كلامهم بجدية أو دراسته في سياق اجتماعي يحاول التوفيق بينهم.

الفارطُ من التحقيق في بعض سِيَر الشخصيات التي حُدِّدَت، للأسف، في إطار ميمي هزلي، يشير إلى مادة أرشيفية تساهم في كتابة التاريخ الاجتماعي الليبي. صحيحٌ أن الدولة فشلت في بناء مؤسسات تدوّن وتوثّق أحوال الشعب، ويصحّ أيضاً أن التاريخ الاجتماعي الشفهي كامنٌ في المرجعيات القبلية التي نسمعها ولا نقرأها. بين هذا وذاك، نستدلّ بهذه المادة الميمية الضخمة على ما يشبه هوية الشعب، وعلى ما يشير ضمناً إلى أن من يصنع الشعوب هم الناس، وليست بالضرورة المؤسسات، وأن انقسام البلد/ الدولة لا يعني بالضرورة انقسام "الشعب". ولمفردتَي "شعب" و"مؤسسة" دلالات كثيرة لا تُفضي بالضرورة إلى صون كرامة الإنسان.

قد يصير المهمَّش دكتاتوراً (كالقذافي)، أو واحداً من دعاة العدالة، وقد يموت مهمّشاً، لكنه في أحواله كلها يصنع التاريخ

الشخصيّات الأربع آنفة الذكر، تختلف عمريّاً ومزاجيّاً ولكنها تشترك في كونها خالقةً للمحتوى عبر التعبير عن مشاغلهم وشكاواهم المختلفة.

للتذكير، لا يزال العديد من المهمشين في ليبيا، كأبطالنا الأربعة، يتناولون ثلاث وجبات في اليوم ويأكلون لحم الخروف من حينٍ إلى آخر، فأغلب الليبيّين يملكون بيوتهم ولا يدفعون فواتير باهظةً... إلخ، وهذه من الامتيازات الاشتراكية الباقية.

هذا لا ينفي الوضع الشائن لحياة المتزوجين العاطلين عن العمل، ولاجئي مدينة تاورغاء، وقصور الخدمات في القرى... إلخ. هؤلاء هم من يصنعون "التاريخ"، ذاك أن صانعيه ليسوا رموزاً وأيقونات. فالمهمَّش قد يصير دكتاتوراً (كالقذافي، مثلاً)، أو أحد دعاة العدالة الاجتماعية... إلخ، أو قد يموت مهمّشاً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image