عندما دعونا ألبرتو مانغويل إلى تونس لإلقاء محاضرة في بيت الرواية منذ سنوات، تحدّث عن شغفه بالثقافة العربية وعن محاولته إطلاق المكتبة الوطنية الافتراضية الفلسطينية وعلاقته بمحمود درويش، ومع ذلك ظلت تلك الإشارات في كلامه للثقافة العربية في عيون البعض من علامات اللباقة والمجاملات التي يقولها الضيف عادة، لكن وبعد أن تسلم منا مجسم شخصيّة "برق اليل" بطل رواية "برق الليل" للروائي التونسي المؤسس البشير خريف، راسلني بعد أسابيع مرسلاً إلي غلاف الرواية في ترجمتها الإسبانية النادرة والتي لا يعلم حتى المختصين في البشير خريف من الجامعيين التونسيين بوجودها.
في سيرته الذاتية الحوارية "حياة متخيّلة" يتوقف ألبرتو مانغويل عند الثقافة العربية ويبدي إعجابه بها من منطلقات لادينية. وفي السيرة حديث عن الأدب وفن القراءة والديكتاتورية.
تمنيت أن أكون عربياً
كانت المحاورة السويسرية الألمانية تحاوره حول مسألة الهويّة وهو الذي يتنقل في اقامته بين دولة وأخرى من الأرجنتين إلى إيطاليا إلى سويسرا إلى هايتي إلى أمريكا إلى كندا إلى فرنسا إلى البرتغال. يجيبها مانغويل عن سؤال "من أنت؟"، بقوله: "ينظرون إليّ في كندا بصفتي كندياً من أصول أرجنتينية وأرجنتينياً في الأرجنتين. وفي معظم البلدان الأوروبية، ينظرون إلي كحامل لهوية متغيرة، وكلما أرادوا تحضير لائحة بالمثقفين الأرجنتينيين أو الكنديين اليهود فإنهم يعتبرونني يهودياً. وهي هوية أقبلها كخيار ثقافي يهودي بالطريقة نفسها التي يكون فيها المرء -بالمعنى الثقافي- يونانياً أو ألمانياً أو إيطالياً. أتمنى لو أنني أنتمي إلى الهوية العربية ".
سألته المحاورة:"ما العلاقة التي تربطك بالعالم العربي أو الإسلامي؟". أجابها: "الانبهار بتلاقح الفلسفة والشعر. لا أعتقد أن هناك أي ثقافة أخرى تحتوي على هذه العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والشعر، حيث يتحوّل الفكر إلى فكرة عبر اللفظ الشعري"
وعندما استغربت المحاورة آخر هذا التصريح وسألته:"ما العلاقة التي تربطك بالعالم العربي أو الإسلامي؟". أجابها: "الانبهار بتلاقح الفلسفة والشعر. لا أعتقد أن هناك أي ثقافة أخرى تحتوي على هذه العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والشعر، حيث يتحوّل الفكر إلى فكرة عبر اللفظ الشعري. أحب اكتشاف الأفكار الدينية، ذلك الانتقال من الفكر اليوناني إلى الإسلام. ولأنني لست مؤمناً، فأنا لست مهتما بأوجه الإسلام العقائدية ولا بالأوجه العقائدية للمسيحية واليهودية".
هذا التصريح في كتاب غير موجه للعالم العربي يعكس بصفاء علاقة صاحب فن القراءة بالثقافة العربية التي يحاول التوغل فيها عبر القراءة والبحث منذ سنوات، رابطاً إياها أيضاً بأحد كتبه المفضلة أي "دون كيخوته" لميغايل دي سرفانتيس؛ الرواية التي أجهزت على أدب الفروسية وأدخلت الرواية الأوروبية إلى الحداثة. وقد سبق له أن توقّف في كتابه "شخصيات مذهلة من عالم الأدب" عند شخصية سيدي حميد بن جلّي، الذي يرد اسمه في رواية دون كيخوته، والذي يقول دون كيخوته أنه عثر على مخطوط الكتاب باسمه وينسبه إليه.
يروي مانغويل في كتابه "شخصيات مذهلة" أن سرفانتيس انقطع عنه الإلهام في الفصل الثامن من كتابه، ولم يعد قادراً على كتابة شيء حتى عثر في سوق بطليطلة على مخطوطة مهترئة باللغة العربية في أحد أكشاك بيع الكتب" فبحث عن مترجم يقرأ له المخطوطة والذي تجم له الكتاب تحت عنوان "مغامرات دون كيخوته" و"قد كان الاسم الذي وقع به مؤلف الرواية الأصلي سيدي حميد بن جلي".
توغل مانغويل طويلاً في تفكيك ما ورد في كتاب دون كيخوته؛ هل هو فعلاً حقيقة أم لعبة سردية في ما يعرف اليوم بالميتاقص أو الروايات الواصفة؟ لكنه لا يرى أي مبرر لاستبعاد فكرة أن يكون الخبر حقيقة، فكما نقبل بأن العملية قد تكون ميتاقصاً، لماذا لا نقبل بأن تكون تخييلاً ذاتياً؟ خاصة أن سرفانتيس في كتابه يشير إلى حياته في أكثر من مرة ولعل فصل "الأسير" دليل على تداخل السيرة الذاتية لسرفانيتس المعتقل والأسير في الجزائر من قبل القراصنة وسجن دونكيخوته في الرواية.
فيقول في كتابه "شخصيات مذهلة": "يخبرنا سرفانتيس بوضوح لا لبس فيه أنه ليس أب الكتاب وإنما أباه بالتبني، أنه متلقي القصة وليس مخترعها. لكن القراء أبوا أن يصدقوا على مدى قرون. إذ تبدو فكرة تأليق سرفانتيس كتابه في السجن أكثر صدقاً لنا من وقوعه على مخطوطة كتبها شخص باسم سيدي حميد بن جلّي، مع ذلك، كلتا المقولتين ضرب من التخييل، كما أن كلتيهما صحيحتان. فعالم سرفانتيس، كعالمنا اليوم، عالم تلعب فيه الأدوار وترتدى الأقنعة".
ويحاول تأكيد هذه الفرضية بعد ذلك بأن ما ورد في دون كيخوته من تعاليم وإشارات وعادات يحيل جزءاً منه على الثقافة الإسلامية، وليس على الثقافة المسيحية، وهو ما يقوي فرضية أن يكون المخطوط فعلاً لعربي، فأخلاقيات الفروسية عند دون كيخوته تتطابق مع اخلاقيات الفارس العربي المسلم، لا الفارس المسيحي. يقول: "أفعالنا الأخلاقية لا تفضي إلى نتائج أخلاقية إلا إذا حققت ما يدركه الله فقط، ونعجز، بصفتنا أدواته، عن رؤيته، إذ إن المبادرة لتحقيق العدالة لا تقود بالضرورة إلى تحقيق العدالة، فهذا من شأن الله وحده. يقودنا هذا إلى التعاليم القرآنية وليس إلى المسيحية، إذ يقول القرآن الكريم:" إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ"، فربما شاء الله لدون كيشوت أن يؤمن بالعدالة، لكن الوعد لا يطال نتائج الأفعال التي يقوم بها دون كيشوت".
ولم تكن رواية "دون كيخوته" فقط تلك التي رسمت علاقة صاحب كتاب "تاريخ القراءة بالثقافة العربية"، بل سبقتها كتب أخرى، لعل "ألف ليلة وليلة" أهمها، ولكنها يرجح، كما العديد من الكتاب الآخرين، أثراً للثقافة العربية الإسلامية في كتابه المفضل "الكوميديا الإلهية"، وطبعاً كان يقصد أيضاً أثر القرآن وقصص الجحيم والجنة وكتاب "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري.
مفهوم الأدب وقضية الالتزام
تسحب المحاورة ألبرتو مانغويل نحو الحديث عن الأدب كل مرة في علاقته بالواقع محاولة استجلاء العلاقة الحقيقية للكاتب بنصه. فتعيد عليه السؤال "السارتري" حول قضية الالتزام؛ "ألا تؤمن بما يسمى الأدب الملتزم أي بقدرة الأدب على التأثير السياسي؟"، يجيب مانغويل بنعم، ولكن "على "الأدب الملتزم" أن يكون "أدباً" قبل أن يكون "ملتزماً". ويعطي أمثلة على ذلك بمن يكتبون في موضوع "الهولوكوست" أو عن الديكتاتوريات العسكرية في بلدان أمريكا الجنوبية. ويعلق بقوله: "لا يكفي أن تعارضي شيئاً ما لكي يتحوّل ما تكتبينه إلى أدب، هذا واحد من التناقضات الفظيعة؛ فهناك بعض الشعراء الذين عانوا الأمرين دون أن يتمكنوا من كتابة قصيدة جيدة واحدة. فكونك ضحية لا يمنحك جواز سفر للعبور إلى جبل الأولمب".
في تمييزه بين الكتابات يقول إنه يميز "بين النصوص التي تسمح للقارئ بمساءلتها وتلك التي تقدم لك جميع الإجابات". ويرى أن الثانية ليس فيها مجال للقراءة الإبداعية، وهنا يورد نصيحة خطيرة في الكتابة الإبداعية يمكن أن تكون نصيحة في ورشة كتابة. يقول: "أسدى لي أحد المحررين في تورنتو هذه النصيحة: تخيل وأنت تكتب أن هناك شخصاً صغيراً يقف على كتفك، ويسألك: لماذا تقول لي هذا؟! أشياء مثل: تناولت قطعة توست على الإفطار وشربت فنجانين من القهوة. ربما تهتم أمك بهده الأشياء... أن تقول كل شيء يعني أنك لا تثق بالقارئ".
ويضيف: "إما أن يحدث الشيء في الصفحة وإما في ذهن القارئ... من الأفضل أن تحدث الأشياء في ذهن القارئ بالطبع. يجب أن تكتب الأشياء بطريقة تسمح للقارئ بأن يعيش بين السطور".
القراءة أسلوب حياة
يمثل ألبرتو مانغويل منذ التسعينيات علامةً مضيئة في عالم القراءة، حتى سمي بإله القراءة، فلا يمكن الحديث عن فن القراءة دون ذكره، فهو الذي ألف "تاريخ القراءة"، "يوميات القراءة"، "ذاكرة القراءة"، و"قراءة الصور"، وهو الذي أسس لهذا النوع من الكتابة التي تقرأ العالم والأدب من وجهة نظر القراء. وكثيراً ما كان يعرف نفسه بـ"قارئ"، عوض "كاتب"، فيقول: "إجابة عن سؤالك: من أنا؟ بكلمة واحدة، فسوف أقول أنا قارئ". وهكذا يختصر مانغويل نفسه في فعل القراءة، لا بصفته فعلاً فيزيقياً، بل فعلاً إبداعياً، فليس كل من قرأ، قرأ فعلاً.
يقول في سيرته: "بصفتي كاتباً، وأنا أتردد كثيراً في إطلاق هذا التوصيف على نفسي، أشعر بتحسن كبير عندما أكتب. أشعر بالمواساة. أشعر بالسكينة. ففي العالم المليء بالجنون، تبدو الكتابة بالنسبة إليّ المكان الأكثر عقلانية".
يستشهد مانغويل بدون كيخوته الذي كان يقرأ كل شيء حتى الأوراق الممزقة المرمية في الشارع، ويضيف: "أنا لا أتوقف عن القراءة، سواء كنت في السرير أو في القطار أو في الحمام أو أثناء تناول الغداء. أحمل دوماً كتاباً في يدي إلا إذا كنت أتحدث إلى أحد. هذه هي علاقتي مع العالم. كتبت كتاباً بعنوان 'قراءة الصور'، طرحت فيه فكرة تقول إننا لا نستطيع النظر إلى الصور من دون قراءة قصة ما. إننا نخترع القصة التي نعتقد أننا نقرؤها في الصورة".
لقد تشكل مانغويل من فعل القصص باعتبار أن مربيته كانت تقوم بفعل رئيسي معه منذ طولته، وهو قراءة القصص بالإنكليزية والألمانية، وكان يتماهى مع تلك القصص التي ظل وهو كبير يعيد قراءتها ويعيد اكتشاف أبعادها ومعانيها ليعيد تحليلها. ثم كانت لتجربة القراءة لبورخيس وهو مراهق أثراً أبدياً على حياته، فلم يكن بورخيس شخصاً عادياً وهو يقرأ له ما يريد أن يقرأه أو يعيد قراءته، قبل أن أن يتوغل في العالم مكتشفاً له عبر قراءة قديمه وحديثه.
القراءة عند مانغويل تسمو بنفسها لدرجة الفعل الإيروسي الذي يمارس طوال اليوم.
منذ سنوات وبعد أن أجرى مانغويل عملية جراحية في فرنسا وأعاد في المستشفى قراءة دون كيخوته، والإلياذة، والأوديسا، ركز قراءته مع دانتي وقرأ "الكوميديا الإلهية" التي تحولت إلى أهم كتاب في حياته، وأصبح يقرأ منها نشيداً كل صباح.
يتبنى مانغويل مقولة أن الأدب وسيلة علاجية، ويقول في سيرته: "بصفتي كاتباً، وأنا أتردد كثيراً في إطلاق هذا التوصيف على نفسي، أشعر بتحسن كبير عندما أكتب. أشعر بالمواساة. أشعر بالسكينة. ففي العالم المليء بالجنون، تبدو الكتابة بالنسبة إلي المكان الأكثر عقلانية".
ويأخذ الفكرة إلى منطقة أبعد في التفلسف حينما يعتبر أن المسألة العلاجية مسألة مرتبطة بذات القارئ كيف يقرأ، فهو إن أرادها كذلك، فستكون كذلك، لأن الطبيعة مثلاً "ليست موجودة من أجل معالجتنا أو امتاعنا. إنها موجودة ببساطة، لكننا نبني المعاني من خلال العلاقات التي نعمل على تأسيسها مع الأشياء".
مانغويل والديكتاتورية والصدمات
يقول صاحب كتاب "تاريخ القراءة" حول قضية الجنسية: "إن كان موطني في الأرجنتين زواجاً مدبراً لأنني ولدت هناك، فإن علاقتي بكندا قائمة على الحب. فقد اخترتها طواعية. لا أعتقد أن علينا حمل جنسية البلد الذي نولد فيه. فليس لذلك أي معنى".
لا يمكن فهم هذا الموقف من الأرجنتين إلا بالعودة لسيرته والسيرة السياسية للأنظمة في الأرجنتين. فقد عاد مانغويل إلى بلده الأصلي مرات لمحاولة العطاء، وكل مرة كان يتركه بسبب الفساد والديكتاتورية، وقد عاد إليه مرة لتسلم عمل في إحدى الصحف، لكن الديكتاتورية العسكرية سرعان ما تغوّلت، فترك كل شيء، وغادر البلاد من جديد، وعاد إليها مرة ليمسك إدارة المكتبة الوطنية وتركها لذات السبب.
ومواصلة لموضوع الأدب بوصفه حالة علاجية، يتحدث مانغويل عن رواياته التي كانت كتابتها عملية تخلص من ألم تسببت فيه الديكتاتورية، فكتب روايته "أخبار من بلاد أجنبية" ورواية "عودة"، محاولة للتخلص من الفظاعات التي وصلته، وخاصة ما تعلق بعمليات التعذيب التي انخرط فيها حتى معلموه وأساتذته الذين كان يجلهم، فأحدث ذلك صدمة كبرى له. يقول: "استهدف العسكر مدرستي لأنها كانت مركز للحياة الثقافية والسياسية، وهي المدرسة التي تخرج منها معظم المثقفين والسياسيين. وقد تم اعتقال وتعذيب العديد من أولائك الفتيان، الذين كانوا أصدقائي، وقد قتل بعضهم بطرق شنيعة... بعد عدة سنوات، في الثمانينات، صادفت أحد أصدقائي القدامى في المدرسة. كان قد تعرض للنفي إلى البرازيل وتحدثنا عن الأيام الخوالي، والمدرسة والأساتذة وقلت له إنني أتذكر بشكل خاص أستاذ الأدب الذي كان رائعاً. فقال صديقي: يبدو أنك لا تعرف شيئاً عنه. كان الأستاذ عميلاً للعسكر في المدرسة. فهو الذي وشى بأولئك التلاميذ للسلطات العسكرية، ولم يكتف بذلك، لكنه قدم عنهم تفاصيل دقيقة لمعرفته الجيدة بهم. وفي حالة تلك الطالبة التي عذبوها ثم رموا بها في النهر من الطائرة، نصح هذا الأستاذ العسكر بعدم تعذيبها بل استدعاء جدتها وتعذيبها أمام عينيها".
هذا الشر الذي ضرب مواطن الجمال في ذاكرة مانغويل هو الذي جعله لا يؤمن بالخير والشر في الأدب. فلم يستطع الأدب أن يثني هذا الأستاذ الذي يدرسه، على الانخراط في تدبير وتنفيذ هذه الفظاعات، بل ربما ألهمه بأساليب التعذيب.
وينعطف على سير الكتاب العظماء الذين كانوا أشراراً بشكل ما فيمكن أن يكون المرء شخصاً شريراً وفي الوقت نفسه أعظم شاعر في العالم"، ويعطي مثال لوتريامون الذي رأى أنه "يتمتع بخيال قاتم ووحشي"، حتى قال يوماً: "تريدون الشر؟ هذا هو الشر".
ومع ذلك ما زال مانغويل في المقابل يؤمن بأن الأدب كالطبيعة "لا يتخلق. ليكون وسيلة علاجية، أو رسالة سياسية، أو رسالة حب، أو أي شيء من هذا القبيل. إنه ينطوي على نوع من المجازفة والارتجال. فالأدب، في أبهى مظاهره، يتشكل تبعاً لقوانينه الداخلية السرية".
يؤمن مانغويل بأن الأدب كالطبيعة "لا يتخلق. ليكون وسيلة علاجية، أو رسالة سياسية، أو رسالة حب، أو أي شيء من هذا القبيل. إنه ينطوي على نوع من المجازفة والارتجال. فالأدب، في أبهى مظاهره، يتشكل تبعاً لقوانينه الداخلية السرية"
لقد استبعد مانغويل كل ما ارتبط بالأدب من خرافات بما فيها الخرافات المعاصرة حول دوره التنويري ودوره التثقيفي والنضالي، فيقول تعقيباً عن ملاحظة الناشرة بأن الأدب، يبدو، أنه لا يحمينا من أي شيء: "طبعاً لا، فالأفكار القائلة إن الأدب يحمينا، أو يعمل على تنويرنا وتثقيفنا، أو يجعل منا أشخاصاً أفضل أو أكثر عدلاً، لا تتعدى كونها بدعاً اخترعها أناس طيبون".
الصدمة التي تعرض لها مانغويل حول صورة أستاذه المفضل الذي اكتشف أنه عميل للعسكر لم تكن الصدمة الأولى، فقد تلقى صدمة سابقة في مؤسسة العائلة، متمثلةً في صورة الأب إلي زيادة على أنه كان مهملاً له ومهتماً ببناء مستقبله الدبلوماسي، وظل الطفل ألبرتو مع المربية الألمانية اكتشف أن هذا الأب أيضاً خائن وأنه متزوج بامرأة أخرى خارج البلاد بالأوروغواي، وأنجب منها ابنة وأنه كان ميالاً للكذب طوال الوقت.
اكتشف ذلك بنفه ووحده عبر التنصت عليه عبر سماعة الهاتف. كل ذلك الإهمال جعله ينفر من كل المؤسسات الكلاسيكية بما فيها العائلة والجامعة والدولة والجنسية والوطن والوظيف ويسرح خلف الكتب والقراءة في العالم، مثله مثل دون كيخوته، يتتبع الحروف والصور قارئاً مدمناً يتشمم الورق فاكاً رموزاً وألغازه، منقباً عن معانيه.
هذه سيرة كما سماها مانغويل "سيرة متخيلة"، لأن مجرد الحديث عن الذات وكتابتها يجعلها تتحول، قارب فيها الأفكار السياسية والأدبية والحكايات الشخصية. مانغويل في سيرته يروي قصة مع كل إجابة، بعضها من قصصه الذاتية وبعضها من قصص غيره، وهذا ما يجعل من هذا العمل السردي التفاعلي أحد النماذج المهمة في فهم الكتابة عن الذات وتطورها اليوم، والتي لا تسعى إلى هدف إيقاع مشاعر التصديق عند المتلقي بقدر ما تسعى إلى إثارة البلبلة في ذهنه من خلال طرح الأسئلة حول البديهيات والمسلمات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...