تنتشر في أرجاء العاصمة الموريتانية نواكشوط، مراكز عديدة لتعلم اللغة الإنكليزية، وسط إقبال ملحوظ على هذه اللغة المهيمنة عالمياً من قبل الشباب الموريتاني الذي يطمح إلى الحصول على مستقبل أفضل.
إقبال ملحوظ لا يقتصر على الشباب فقط، بل هو توجه أعمق من مجرد موجة شبابية على ما يبدو، فما هو سر هذا الاهتمام بالإنكليزية في بلد لغته الرسمية هي العربية، وفيه نزعة قوية للتّمكين للّغة الرسمية، ويشهد حضوراً قديماً ومتواصلاً منذ الاستعمار إلى حد اليوم للتيار "الفرنكفوني"؟
توق إلى المعرفة العالمية
يطمح العديد من الموريتانيين إلى تحسين مستواهم المعرفي والاقتصادي. وهذا أهم أسباب التوجه نحو اللغة الإنكليزية، حسب الباحث الموريتاني مولاي أرشيد أحمدو، الذي تحدث إلى رصيف22، قائلاً: "توجد العديد من الأسباب لظاهرة دراسة اللغة الإنكليزية، والتي بالمناسبة لا أعتقد أنها تقتصر فقط على الشباب، فمتى دخلتَ مركزاً لتعليم اللغة الإنكليزية، تجد فئات عمريةً مختلفةً، تحاول دراسة هذه اللغة، وطبعاً تتعدد أسباب هذه الرغبة بحسب الفئة العمرية. ولكن لنركز هنا على أسباب دراسة الشباب للّغة، والتي يمكن أن أعدّد بعضاً منها، مثل أن الشباب أصبح مرتبطاً بشكل كبير بالإنترنت، والإنكليزية تشكّل النسبة الأكبر من محتوى الشبكة العنكبوتية. لا يريد الشباب أن يُحرموا من هذا الكمّ الضخم من المعلومات الذي يتهاطل كل دقيقة، وإن لم يكن السبب معرفياً، فهناك مواقع التواصل الاجتماعي التي يُعدّ معظم مرتاديها شباباً، وتالياً يرغب الشباب هنا في موريتانيا بالبقاء على اطلاع دائم عما يجري في تلك الشبكات، ومتابعة التريندات التي لا يمكن المساهمة فيها إلّا لمن يعرف أساسيات اللغة الإنكليزية".
تنتشر في أرجاء العاصمة الموريتانية نواكشوط، مراكز عديدة لتعلم اللغة الإنكليزية، وسط إقبال ملحوظ على هذه اللغة المهيمنة عالمياً من قبل الشباب الموريتاني
يؤكد المتحدث على أن الشباب هنا غير "معني كثيراً بالسياسة، إلا أنه ما زال ينظر إلى اللغة الفرنسية على أنها 'لغة مستعمر'، وبقاؤها موجود فقط لارتباط معظم الدول الفرنكوفونية الإفريقية بالمستعمر السابق، ولم تعد تملك تلك القوة الثقافية التي تجعلها مرغوبةً. أما أولئك الذين يتكلمون الفرنسية الآن، فهم إما ’ورثوها’ عن آبائهم منذ الصغر أو فرضتها عليهم قيود سوق العمل هنا التي ما زال أغلبها مرتبطاً باللغة الفرنسية كلغة تعامل، وفي النهاية كل من وجد فرصةً خارج هذين الإطارين لن يتردد في تعلم اللغة الإنكليزية كبديل مهم وضروري في هذا العصر".
نحن في بلد تهيمن عليه اللغة الفرنسية كلغة أجنبية أولى. لذلك من الطبيعي أن تكون فرص المتخصّصين في الإنكليزية كبيرة من ناحية الولوج إلى العمل
يضيف ولد أحمدو أن "معظم ما ينتج حالياً في عالم الثقافة والترفيه هو باللغة الإنكليزية، وهناك اهتمام كبير لدى الشباب بالسينما والموسيقى الغربيّتين، وهما بالإنكليزية أساساً لذا تجد شباباً لم يتعلموا الإنكليزية في المدارس، بل تعلموها من خلال مشاهدة الأفلام والمسلسلات أو الاستماع إلى الموسيقى وهذه وسائل لا يستهان بها لتعلم لغة جديدة".
وقال ناصر بيبه، وهو طالب دكتوراه في الترجمة، خلال حديثه إلى رصيف22، إن ظاهرة إقبال الموريتانيين على تعلم الإنكليزية، "طبيعية جداً بالنسبة ليّ، خاصةً أن اللغة الإنكليزية فرضت نفسها كلغة العصر ولغة العلم في العالم حالياً، ونحن في بلد تهيمن عليه اللغة الفرنسية كلغة أجنبية أولى. لذلك من الطبيعي أن تكون فرص المتخصّصين في الإنكليزية كبيرة من ناحية الولوج إلى العمل، وهو ما جعل الإقبال عليها كبيراً جداً، خاصةً على مستوى جامعة نواكشوط".
يؤكد أمم الهادي، مدير أحد مراكز تعليم اللغة الإنكليزية في نواكشوط، هذا الإقبال على تعلم الإنكليزية، ويقول في حديثه إلى رصيف22، إن "حيويّة اللغة الإنكليزية وسيطرة المتحدثين بها على جميع المجالات العلمية وكذا الثقافية في العالم، من أهم أسباب إقبال الجميع على تعلمها ولا يمكن اعتبار بلادنا استثناءً في هذا المجال".
هل البنية التعليمية الموريتانية جاهزة للإنكليزية؟
مع تصاعد النقاش حول أي قضية وتوجه ثقافي وعلمي للشباب الموريتاني وطموحاته، يبدأ التساؤل عن وجود البنية التربوية والتحتية اللازمة لتحقيقه، وهل ما توفره الدولة كافٍ لطموح الشباب، وهو ما يجعل التساؤل مشروعاً حول واقع تدريس الإنكليزية في موريتانيا.
يرى مولاي أرشيد ولد أحمدو، أن "هناك نوعين من البنية التعليمية عندما نتكلم عن تدريس الإنكليزية في موريتانيا؛ هناك التوجه الرسمي وفعلاً قسم اللغة الإنكليزية في الجامعة قسم قديم، ولكن من الصعب أن تجد خريجيه في السوق الرسمي للعمل إلا نادراً، ومؤخراً تم إنشاء مركز رسمي خاص باللغة الإنكليزية ما زال من المبكّر الحكم على نتائجه. ولكن كل ذلك يُضفي على البنية التعليمية للإنكليزية قوةً ويساهم في التوجه أكثر نحو الإنكليزية ما دامت الحكومات قد قررت الاعتناء بها من خلال إنشاء أقسام رسمية خاصة".
أما التوجه الثاني فما زال يتّسم بالطابع الربحي، يقول المتحدث عن المراكز الخاصة لتعليم الإنكليزية، ويضيف: "إنه توجهٌ خاص من خرّيجي الجامعة هنا أو خرّيجي الإنكليزية من جامعات أخرى. هؤلاء توجهوا نحو فتح أقسام لتدريس اللغة بعد أن اكتشفوا مدى حاجة البلد إلى هذه اللغة وتالياً مقدار الاستفادة من الاستثمار في مثل هذه المراكز. على الجانب الآخر هناك من لم يدرسوا إلا باللغة الإنكليزية، وما زالت سوق العمل غير قادرة على استيعابهم بهذه اللغة التي يتقنونها، وعليه فضّلوا فتح مراكز لتدريس هذه اللغة". وخلص المتحدث إلى القول إن "تعاون هذين الجانبين سيضفي قوةً أكبر على البنية التعليمية التربوية للإنكليزية مما سيمكّن الجميع من التوجه إلى هذه ’القفزة’ المعرفية والثقافية والسياسية المهمة، التي أصبحت ضروريةً".
يرى ناصر بيبه، أنه بالرغم من كثرة مراكز تدريس الإنكليزية في نواكشوط، إلا أن "مستوياتها ضعيفة جداً وحتى خريجو قسم الإنكليزية في جامعة نواكشوط مستواهم ضعيف جداً، لذلك أعتقد أن خريجي قسم الإنكليزية في جامعة نواكشوط يحتاجون إلى دورات أخرى بعد التخرج وكذلك يجب تغيير منهجية التدريس في هذا القسم ليكون لدى طلابه مستوى يمكنهم من الولوج إلى سوق العمل".
هل تزاحم الإنكليزية الفرنسية في موريتانيا؟
توجد في موريتانيا نزعة قوية مناهضة لمركزيّة اللغة الفرنسية في الدولة، بين مطالب بالتعريب التام أو التمكين للغة العربية أكثر، وبين مطالب بإزاحة الفرنسية واستبدالها بالإنكليزية كلغة ثانية، بصفتها لغةً عالميةً وأكثر فائدةً، ويعتقد مولاي أرشيد أنه "لا يزال مبكراً القول بوجود توجه نحو موريتانيا أنغلوفونية، وذلك راجع بالأساس إلى تحكم الطبقة المسنّة في السياسة والاقتصاد، وهي طبقة فرنكوفونية بامتياز، وما زالت تحاول توريث هذا الإرث للجيل القادم. لكن لا يمكن إنكار وجود نوع من التمرد على الفرنكوفونية، سواء من خلال وجود أبناء الطبقات العليا في المدارس الأجنبية التي تُدرِّس باللغة الإنكليزية أو من خلال الانتشار الواسع لمراكز اللغة الإنكليزية".
يعتقد أمم ولد الهادي من جهته أن "التوجه الرسمي الحكومي والتوجه الشعبي في هذا المجال على وجهي نقيض، فموريتانيا الرسمية ما تزال تتقرّب من فرنسا، ولكن الشعوب بصفة عامة أصبحت تُقْبل وبكثرة على تعلم لغات جديدة أصبح تعلّمها من مفاتيح العلم في عصرنا هذا، واللغة الإنكليزية تتربع على قمة لائحة هذه اللغات".
أما ناصر بيبه، فلا يعتقد "أن اللغة الإنكليزية ستزاحم الفرنسية في بلادنا على الأقل طوال العقود القادمة، فالفرنسية فرضت نفسها منذ الاستقلال ولا توجد حتى إستراتيجية لجعلها اللغة الأجنبية الثانية، وحتى لو تمت محاولة فرض الإنكليزية كلغة ثانية فذلك يحتاج إلى فترة طويلة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...