شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عروس الصعيد المهملة

عروس الصعيد المهملة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتنوّع

السبت 26 أغسطس 202301:56 م

في تسعينيات القرن الماضي، كنت طفلاً أعيش في قرية "البرشا" الصغيرة في محافظة المنيا. أتذكر مشاهداتي بشكل شبه يومي للبواخر والمراكب السياحية التي كانت تعبر النيل من أمام غيطان قريتي، لترسو في مرسى "أخناتون" في الضفة الشرقية على بعد كيلومترين فقط، لزيارة "تل العمارنة"، أو "أخت-أتون" عاصمة مصر القديمة التي اختارها "أخناتون"، لدولته ورسالته الروحية للتوحيد تاركاً "طيبة" العاصمة القديمة. أتذكر فرحتي وأنا بصحبة حفنة من أقراني الأطفال نلوّح بفرح للسياح "الخواجات"، وهم على الباخرة في وسط النهر. نلوّح ونقفز ونهتف "هالو"، و"ويلكم"، ليردوا علينا بضحكات وتحيات مماثلة، ويقذفوا لنا الشوكولاتة والحلوى في مشهد مبهج لنا كأطفال.

تونة الجبل في المنيا

هذا المشهد اختفى تماماً مع الأسف، ولا يعرف أطفال المنيا اليوم شكل السياح الأجانب، وقد لا يدركون أن بلادهم تحوي ربع آثار مصر. كيف يعلمون ذلك والمحافظة لا يزورها السياح إلا في ما ندر. ولو حدث تكون زيارات فردية وليست أفواجاً كاملةً، أو رحلات دراسيةً لطلبة الآثار المصرية في جامعات ومدارس أوروبا وأمريكا، وبعضها رحلات علمية لباحثي الآثار حول العالم. وذلك منذ الفترة اللعينة التي مرت على المحافظة في التسعينيات، حيث عانت المنيا لسنوات من ويلات التطرف الديني والإرهاب، واستهداف السياح الأجانب وأقباط المحافظة من الجماعات الإسلامية المسلحة، ما وضعها في قائمة المحظورات على الأجانب الذين يزورون مصر، برغم أهميتها.

يعول الجميع على جذب الأنظار إلى المحافظة بعد افتتاح المتحف، وزيادة النشاط السياحي في المنطقة، ما يساهم في توفير فرص عمل لعدد كبير من الشباب، والتعريف بالأهمية السياحية والتاريخية للمنيا

أكثر من 30 عاماً من الإهمال والتهميش المتعمدين للمحافظة سياحياً، على يد كل الحكومات والأنظمة التي تعاقبت على البلاد طوال هذه السنوات، ولم تتم إعادة النظر في تنشيطها سياحياً، ومجتمعياً كذلك. ولاقت الأماكن الأثرية المهمة الإهمال، وغطّى التراب والزمن على الطرق المؤدية إلى مناطق الآثار وعلى اللافتات الإرشادية -إن وُجدت- وكأنها صارت أماكن للأشباح، لا يتجول فيها سوى موظفي هيئة الآثار وحرس الشرطة السياحية وحماية الآثار. وهذا بخلاف نشاط ملحوظ للسياحة الداخلية على مستوى الجمهورية، لا سيما من الشباب وغروبات السفر وتنظيم الرحلات التاريخية والأثرية إلى المحافظة ومعالمها. لكنهم يُصدمون بمستوى الإهمال بقدر دهشتهم بأهمية وجمال معابد المنيا ومقابرها وآثارها ونيلها وأديرتها.

تل العمارنة في المنيا

"تونة الجبل" أرض البعث الأبدي للمصرين القدماء، والمدينة الجنائزية لـ"هيرموبوليس". "الأشمونين" أول مركز فكري فلسفي في العالم القديم ومدينة "الثمانية" المقدسة. "تل العمارنة" العاصمة التي اختارها "أخناتون" لحكم مصر ونشر رسالته في التوحيد. جبانات "بني حسن" الفريدة من عصر الدولة الوسطى ونقوشها النادرة. "البهنسا" التي يطلق عليها البقيع الثاني نظراً إلى وجود قبور 5 آلاف صحابي فيها. "دير البرشا" مدينة العالم الآخر، ومقبرتها النادرة لحاكم إقليم الأشمونين "جحوتي حتب" التي تتميز بنقوش فريدة تمثل تفاصيل الحياة اليومية في الأرض، وفي العالم الآخر. "أنصنا" وآثارها العظيمة منذ عصور ما قبل التاريخ، مروراً بالدولة المصرية القديمة، والحضارة اليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية، وعشرات المواقع التاريخية والأثرية منذ فجر التاريخ، وحتى مئة عام مضت، مثل القصور الفريدة التي تعج بها المحافظة خصوصاً "ملوي"، و"مدينة الباشوات"، كذلك ستجد فيها استراحة الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي، وأحد رموز المحافظة في العصر الحديث.

لا يعرف أطفال المنيا اليوم شكل السياح الأجانب، وقد لا يدركون أن بلادهم تحوي ربع آثار مصر. كيف يعلمون ذلك والمحافظة لا يزورها السياح إلا في ما ندر.

لكن حتى أبناء وأهالي المحافظة أغلبهم لا يعرفون عن هذه الأماكن أي شيء، والأماكن الأثرية الوحيدة التي تلقى الاهتمام والمحافظة عليها، هي الأديرة والكنائس الأثرية الكثيرة في المحافظة، وهو اهتمام من الكنيسة المصرية في المقام الأول، لنشاط هذه المناطق وقدسيتها إذ تكثر زيارة الأقباط إليها من مختلف الجمهورية، مثل دير العذراء مريم في "جبل الطير" في مركز سمالوط، ودير "الأنبا بيشوي" و"أنصنا" ودير "أبو فانا" في مركز ملوي.

منذ عام 2014، ينتظر أهالي المنيا والصعيد الانتهاء من تنفيذ مشروع "المتحف الآتوني" في محافظة المنيا، أحد أكبر المشاريع الثقافية والأثرية في الصعيد، وثالث أكبر المتاحف الجديدة، التي أعلن عنها الرئيس السيسي في بداية حكمه، بعد المتحف المصري الكبير، ومتحف الحضارة في الفسطاط. لكن لم يتم افتتاح سوى المتحف الأخير، ويتبقى المتحف الكبير في الجيزة، والمتحف الآتوني في المنيا الذي بدأ كفكرة منذ عام 1979، أي قبل نصف قرن تقريباً، في شراكة بين الحكومة الألمانية والحكومة المصرية، لتنمية النشاط الثقافي والأثري في الصعيد.

وبدأ التنفيذ الأولي فيه عام 2002، لكنه توقف عشر سنوات للأسباب نفسها: الإهمال والتجاهل والتهميش، ليعود العمل فيه مجدداً عام 2014 وحتى يومنا هذا، ومن المنتظر الإعلان عن موعد افتتاحه خلال هذا العام، حسب رئيس المجلس الأعلى للآثار.

متحف ملوي في المنيا

ويعول الجميع على جذب الأنظار إلى المحافظة بعد افتتاح المتحف، وزيادة النشاط السياحي في المنطقة، ما يساهم في توفير فرص عمل لعدد كبير من الشباب، والتعريف بالأهمية السياحية والتاريخية للمنيا، ومنطقة مصر الوسطى (بني سويف-المنيا-أسيوط)، بدلاً من صب الاهتمام والتركيز على "الأقصر وأسوان".

لا يمكن أن يكون هناك متحف بصفات عالمية كما تروج هيئة الآثار، وسط مدن أثرية كاملة مهملة وتتعرض للنهب والتخريب والتدمير. ربما وقتها تعود "عروس الصعيد" إلى قبلة سياحية تستحقها

لكن لن يتم ذلك بمجرد افتتاح المتحف حتى لو كان بمواصفات عالمية. يجب أن يصاحب ذلك الاهتمام بباقي المواقع الأثرية في المحافظة، والطرق المؤدية إليها في الصحراء، خاصةً تجديد الطرق المؤدية إلى المقابر والمعابد القديمة، ورصف الطرق الترابية و"مدقات" الطرق في الصحراء بطول عشرات الكيلومترات، حتى يصل السائح إلى الموقع الذي يودّ زيارته، وإنشاء استراحات مفتوحة للزوار، وزراعة هذه المساحات بالأشجار ووضع مقاعد للراحة، بدلاً من الوضع الحالي، الذي قد يصاب فيه السائح أو أي زائر بضربة شمس ولا يجد مقعداً يرتاح فيه أو شجرةً يستظل بها. ولو نسي الزائر، لا قدر الله، شراء زجاجة ماء قبل الدخول إلى المنطقة، فلن يجد من يبيع له الماء لمسافات قد تصل إلى 5 كيلومترات مربعة.

مقابر بني حسن في المنيا

تصاحب ذلك حملة إحلال وتجديد لمراسي البواخر النيلية في كل الأماكن السياحية تقريباً، فلا يوجد مرسى واحد في المنيا لا تطاله العشوائية، وتحتاج كلها إلى التجديد والتطوير. فلا يمكن أن يكون هناك متحف بصفات عالمية كما تروج هيئة الآثار، وسط مدن أثرية كاملة مهملة وتتعرض للنهب والتخريب والتدمير. ربما وقتها تعود "عروس الصعيد" إلى قبلة سياحية تستحقها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image