شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الإجابة النموذجية... حسبي الله ونعم الوكيل

الإجابة النموذجية... حسبي الله ونعم الوكيل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الأربعاء 23 أغسطس 202311:03 ص

وضع أحد الأصدقاء الفيسبوكيين سؤالاً استفسارياً على صفحته، بخصوص الحملة التي تعرّض لها نادي الوحدات لكرة القدم، وكان السؤال بسيطاً وواضحاً: "هل يقول لي أحد ما الذي فعله النادي؟"، لكن الإجابات، وهي كثيرة بالمناسبة، تراوحت بين "حسبي الله ونعم الوكيل" و "اللي بدري بدري" و"ما انت عارف الطبخة يا صديقي"، دون أن ننسى الإجابات المنسوخة عن أقوال سابقة، مثل "أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر" و"سيأتي على الناس زمان يقولون فيه ما لا يفعلون".

أما النتيجة النهائية، فكانت أن السائل لم يعرف ما الذي جرى مع النادي، أو ما الذي فعله. والأغرب من ذلك أنه، هو أيضاً، لم يحتجّ على الإجابات، بل يبدو أنها أعجبته، وذلك من ردوده المؤيدة لها، أو من وضع علامات الإعجاب عليها.

هل هذه الإجابات التي تحتمل ألف معنى صفة للعربي كهوية، أم هي صفة للعربية كلغة؟ لا أعرف، ولو حاولت فليس بمقدوري تقديم إجابة شافية، أو رحم الله امرئ عرف قدر نفسه... هل رأيتم؟ لقد أجبت على سؤالي أعلاه بطريقتين مختلفتين: الأولى تخصّني كسائل ومجيب، وهي أنني لا أعرف، أو ليس بمقدوري، أما الثانية فهي لغة مطاطة ليس لها مكان حقيقي ولا معنى محدّد هنا، وهي أن الله رحم من عرف قدر نفسه.

لا اختلافات كبيرة بين إجاباتنا عن الأسئلة المهمة والكبيرة، وبين تلك الإجابات عن أسئلة من نوع: "كم سعر كيلو البطاطا؟"، فالتاجر قد يجيبك: "إنت خذ وما بنختلف انشالله"، وحين تتورط وتصدّقه وتبدأ بتعبئة الكيس، ستكتشف أنكما اختلفتما إلى حد الوصول إلى الشتائم 

في الإجابة الأولى يفهم القارئ أنني أطرح سؤالاً لا أعرف إجابته. أما في الإجابة الثانية فالقارئ يُحال إلى الله والرحمة، وعليه أن يستنتج هو ما الذي أعنيه، هذا إن كنت أعني شيئاً من الأساس.
لا اختلافات كبيرة بين إجاباتنا عن الأسئلة المهمة والكبيرة، وبين تلك الإجابات عن أسئلة من نوع: "كم سعر كيلو البطاطا؟"، فالتاجر قد يجيبك: "إنت خذ وما بنختلف انشالله"، وحين تتورط وتصدّقه وتبدأ بتعبئة الكيس، ستكتشف أنكما اختلفتما إلى حد الوصول إلى الشتائم كطريقة نهائية لحل الخلاف.
على سيرة الاختلافات، ربما أن الاختلاف الكبير بين اللغة الفصحى العربية وبين لهجاتها المحكية هو أحد الأسباب في جعل الكلام متحايلاً وغير مفهوم، أو قابلاً لأكثر من تأويل. فبينما اللهجات العامية في اللغات المنحدرة من اللاتينية قريبة من أصولها الفصيحة، أو لنقل إن لغة الكلام لا تختلف كثيراً عن لغة الكتابة، نجد أن العربية لها مئات اللهجات العامية، وكل لهجة تختلف بشكل كبير عن الأخرى، وكل هذه اللهجات بعيدة كلياً عن اللغة الفصيحة، أي لغة الكتابة.

هذا يعني أن العربي يملك لغتين مختلفتين؛ واحدة للتفاهم اليومي مع محيطه القريب عبر الكلام، وثانية للتفاهم مع قرّاء مفترضين، عبر الكتابة. هذه المساحة الواسعة بين اللغتين ربما، وأشدّد على كلمة ربما، هي التي تخلق مساحة مشابهة من اللعب على الكلام عند العربي، وتجعل من ذهنيته ذهنية مراوغة في الكتابة والحديث.
لكن هل الإنسان نتيجة للغته أم العكس، أليست البيئة الثقافية والمعرفية وحتى الجغرافية هي التي تنتج اللغة كوسيط للتفاهم بين البشر، وأن لغة الناس تشبه عقولهم في نهاية الأمر؟ هذا صحيح بالتأكيد، لكن الصحيح أيضاً أن ما ننتجه يسيطر علينا ويساهم في إنتاجنا أيضاً، فعبر قرون من استخدامنا لهذه اللغة الأسيرة للنص الديني كبيئة ثقافية أساسية، وللعناصر الصحراوية كبيئة جغرافية، صرنا أسرى لها في المقابل، وصارت تتحكم في إنتاجنا كأفراد وكجماعات تحمل نفس الذهنية ونفس المرجعيات المعرفية والأخلاقية. "لا يستطيع الشخص أن يفكر خارج قاموسه"، هكذا يقول من لا يستطيعون التفكير إلا بلغة الماضي، أو باللغة المعلبة الجاهزة.

واللغة العربية لغة جاهزة، وإن كانت قادرة في الماضي على تسمية الأسد بمائة اسم، لكنها غير قادرة على استيعاب مصطلحات جديدة تخص الاكتشافات والاختراعات العلمية التي أغرقت اللغة الإنجليزية في القرن الأخير، فبينما أكثر من 80% من الكلمات المتداولة حالياً في اللغة الإنجليزية تمت إضافتها في آخر مئة سنة، فإن نسبة الكلمات الجديدة في لغتنا لا تكاد تُذكر.

وما يزيد الطين بلة، أن الكلمات المضافة بجهود جبارة من مجامع اللغة العربية طبعاً لا يتم استخدامها أصلاً، وذلك لأنها عبيطة أو مضحكة في أغلب الأحيان، فمن منا يستخدم كلمة "حاكوم" بدل "ريموت كونترول" مثلاً؟ لا أحد. لكننا مستعدون أن نصرف الأموال ونؤثث المكاتب ونفرّغ الموظفين، ليظل لدينا مجمع للغة العربية، وظيفته الأساسية هي الحفاظ على تحنيط هذه اللغة، وحمايتها من أي تطور يواكب العلم.

والمصيبة أن هذا المجمع لا يمل من تذكيرنا في كل مناسبة، أو احتفال، بقصيدة حافظ إبراهيم التي كتبها على لسان اللغة العربية والتي تقول:
أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ... فهل ساءلوا البحار عن صدفاتي
أرى لرجال الغرب عِزاً ومنعة... وكم عَزّ أقوامٌ بعز لغات

اللغة العربية لغة جاهزة، وإن كانت قادرة في الماضي على تسمية الأسد بمائة اسم، لكنها غير قادرة على استيعاب مصطلحات جديدة تخص الاكتشافات والاختراعات العلمية التي أغرقت اللغة الإنجليزية في القرن الأخير
حتى في البيتين المذكورين هناك تناقض لا يمكن إغفاله، لكن هذا التناقض لا يشكل عائقاً ما دام من الماضي، والماضي مقدس بطبيعته. والمقدس معلّب أيضاً، ومضبوط بقافية أو موسيقى لا يمكن إلا الخنوع أمامها، وهو مرتّب على رفوف في أدمغتنا، ونستطيع أن نجد فيه حكمة أو مقولة تسعفنا في التعليق على حدث جديد.

نحن لا نشغل أنفسنا بصياغة إجابة خاصة بنا على سؤال بعينه، بل نغرف من سلة الماضي، ومن سلة الفقه، ومن سلة الشعر، ونضع هذه الإجابة "النموذجية" منتصرين وفرحين، حتى في مدارسنا يعلموننا على الإجابة النموذجية، وليس على طريقة تفكير يمكنها ابتكار إجابة مقنعة وخاضعة للبرهان.
الشخص الجيد والناجح في بلادنا هو الشخص "الحافظ" لأكبر عدد من الإجابات وليس الذي يطرح الأسئلة، أو ذاك الذي يحاول أن يبتكر إجابته الخاصة. لذلك فإن التناقض بين الواقع ولغة وصفه هو ما يجعل من كلامنا كلاماً مرسلاً، ولا يعني شيئاً محدّداً لكنه يصلح لكل مناسبة، ففي السؤال عما جرى مع نادي الوحدات، يمكنك أن تجيب بـ "حسبي الله ونعم الوكيل"، ويمكنك بكل سهولة أن تنسخ هذه الإجابة النموذجية وتضعها عند شخص يسأل عن آخر تعديلات القوانين في البرلمان الفرنسي بخصوص الحجاب، وستبدو إجابة جيدة وسيضع لها السائل علامة إعجاب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ذرّ الرماد في عيون الحقيقة

ليس نبأً جديداً أنّ معظم الأخبار التي تصلنا من كلّ حدبٍ وصوبٍ في عالمنا العربي، تشوبها نفحةٌ مُسيّسة، هدفها أن تعمينا عن الحقيقة المُجرّدة من المصالح. وهذا لأنّ مختلف وكالات الأنباء في منطقتنا، هي الذراع الأقوى في تضليلنا نحن الشعوب المنكوبة، ومصادرة إرادتنا وقرارنا في التغيير.

Website by WhiteBeard
Popup Image