شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
إلى وسام الطويل.. هل أعياد ميلادنا هي مناسبة للحزن أم للفرح؟

إلى وسام الطويل.. هل أعياد ميلادنا هي مناسبة للحزن أم للفرح؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 22 أغسطس 202301:19 م

هل تساءلت يوماً عن المشاعر التي تنتابك في يوم ميلادك؟ ماذا أحرزتَ من إنجازات سابقة؟ ماهي خططك القادمة؟ ماذا ينتظرك بالتحديد؟ هل كان العمر بالنسبة لك مجرّد رقم لا قيمة له، أم سنة تُضاف لسنواتك وتحمل معنى أكثر من أنه مجرد رقم؟ كيف ستقضي هذا اليوم؟ مع من؟ ماهي الذكرى التي تريد أن تصنعها؟ وماهي الأمنية التي ستتمنى لو أنها تتحقق؟

لم تملك وسام الطويل الآن الرفاهية لأن تشارك العالم ضحكاتها بدلاً من الدموع.

لطالما كنت أؤمن بأن المرء يعيش، خلال مسيرة حياته الطويلة، ضمن سلسلة من الحيوات بأشكال مختلفة ومتوازية، فهناك واحدة مستقرّة وواضحة، وشاهدة على كل شيء، واحدة تشبه آلة التسجيل الدائمة، تلك التي يوهم نفسه أنه جزء منها، يراها ويشمّها ويعيشها، حياة مليئة بالأحداث والخيارات التي لم يكن جزءاً من تكوينها، وأخرى هي المتمنّاة المرجوّة، تلك الحياة المنفعلة بالأشياء التي تركت دون أن تُقال، ودون أن تُفعل، محشوّة بالاحتمالات والرجاءات.

وهناك لحظات وممرّات تتشابك بها الحيوات والطرق في اختبار طويل للحياة. تضع هذه اللحظات الإنسان في معركته الحقيقية مع الحياة، ليصل في نهاية الأمر ليكون ممرّاً لعبور مستمر لحياة يريدها وحياة أرادته... وتسمى هذه "سيرة الحياة".

اليوم، وبعد مضيّ خمسة شهور على اختفاء وسام الطويل، تكمل وسام عيدها الخامس والعشرين في غرفة لا تليق بها ولا تشبهها أبداً، غرفة محاطة بالسياج من كل النواحي، غرفة تخاف من أصوات النساء وضحكاتهنّ، ولا تُعانقهّنَ أبداً، فهي في الأحضان تجرح. غرفة مازالت تبحث فيها عن معنى جديد للحياة، تقفز من خلاله وتطلّ منه على أحلامها التي مازالت حيّة حتى اليوم. غرفة لا تعرف معنى الحب ولا الأمان، تسلبك كجنيّة وتطوف بك حتى تُريدك حزيناً، بارداً، في مكان لا تسمع فيه سوى صدى صوتك.

اليوم، وبعد مضيّ خمسة شهور على اختفاء وسام الطويل، تكمل وسام عيدها الخامس والعشرين في غرفة لا تليق بها ولا تشبهها أبداً، غرفة محاطة بالسياج من كل النواحي، غرفة تخاف من أصوات النساء وضحكاتهنّ، ولا تُعانقهّنَ أبداً

لم تملك وسام الآن الرفاهية لأن تشارك العالم ضحكاتها بدلاً من الدموع، ولم أكن أتخيل أبداً أن أشهد قصّة لشخص قريب جداً لي في حياتي، يتعرّض لكل هذه القسوة دون القدرة على فعل شيء حيال ذلك.

كنا نحتفل سويّة في هذا اليوم من كل عام، وتحلم بأن تبقى كشجرة تأبى أن تذبل أو تهلك وتهرم، أن تأخذ حقها من الحياة كل يوم، بدافع أن الأشياء التي لا تأتيها بأقدامها خاضعة تأخذها بالقوة من الدنيا، تُشارك العالم أحلامها وأهدافها وشغفه تجاهه.

اليوم، وسام تتوجه بنظرها إلى حقد من العالم نفسه، الذي أخذ منها كل شيء ولم يعطها سوف الخوف.

نشرتْ في العشرين من نيسان/أبريل عام 2019، عبر صفحتها في فيسبوك: "كنتُ صغيرة وأحببت الشوارع التي قبل مروري بها ألمح الأشجار، وأتسلّقها هرباً مما يحدث حولي، كنت صغيرة، وعندما يسألني أحدهم ماذا تريدين أن تصبحي عندما تكبرين، أختبئ داخل روحي الخانقة، وأواجه نفسي في الخفاء، وأقول من أخبركم أن لدي رغبة أصلاً لأصبح 'كبيرة'؟ وأقنع نفسي أنني سأصبح إنسان ولا شيء أخر، واذكرني دائما أن البشر هم الأسوأ".

على مدار خمسة عشر عاماً، صنعنا الحياة سويّة بأنفسنا. من لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".

كنت أؤمن بذلك من وسام فقط، لأن شجاعتها دائماً ما كانت تتجلّى في قول ما يجب، في قول: أحب وأكره، والتحلّي بالجسارة التي يستدعيها الموقف، وعلامة أسمى أن يطابق قولها فعلها. روحها ماطرة جداً، رومانسية، رقيقة، مهما قدّمت لها الحياة من نهايات، تظل تطمح لنهاية أخرى أجمل وأعدل.

كل هذه الصفات مكمنها قلب صافٍ جداً على هيئة لم أختبرها للحق في أحد قبلها، هذه الصديقة البعيدة علمتني معنى الأمان، أن تكون في صداقة أو شراكة خالية من الاحتمالات الجارحة، ومن مخافة الغد والخطأ، الصحة هي في الأمان الذي تهبك إياه العلاقة، من الطمأنينة التي لا تخيفك من أن تضع رأسك على الوسادة، من هذا الفهم الجميل.

أبحث عن الكلمات في كل مكان حولي، وأحاول بكل مقدرتي أن أجد إجابة لسؤال واحد فقط: "أنتِ منيحة؟"

كانت دائماً مختمرة، ولم يظهر منها في غالب حواراتنا غير عينيها الناعستين الهادئتين جداً، والمجففتين ببساطة، وصمت ذكي جداً. كنت أتعامل مع صوتها فقط، كانت تعطيني إشارات تشبه علامات الترقيم المكتوبة وهي تتحدّث، تصمت صمتاً طويلاً فأعرف أن دوري قد حان، تسكت وتتنفّس يعني أنها ستكمل ومسموح لي أن أعترض الحوار، صوتها ثابت عند مستوى واحد، عكس صوتي تماماً، لذلك كان يحيّرني أكثر، فيستفزني لأسمع بتروٍ وتحّدٍ كيلا أكون متطاولة، ولا تفسّر الشيء بحزن غريب، لذا لم أكن يوماً أريد أن أحزنها، حواراتها أجمل ما كان يحدث في أيامي، أحاديثنا الطويلة بالساعات والساعات، وإذا حصل وقاطعتها تصمت مباشرة، تتابع معي سريعاً ولا تلومني أبداً.

تعلّمت الإنصات عندما استمعت كثيراً لوسام، وعرفت معناه برفقة من يعرف وزن الكلمة، والذي يريد معرفة الحياة لا مجادلتها.

آخر مرة التقينا فيها، قالت لي إنها منذ سنوات تحاول أن تكتب بحرية، لا تفكر في أن تكتب بحرية كاملة، لأن هذا مستحيل، ولكن بحرية أكثر من أي وقت سابق، وأنا ما زلتُ لا أعرف كيف أستغل الحرية المتاحة لي إلى الحد الأقصى، أريد وأخاف.

وسام فتاة عبقرية، استطاعت أن تلمس الحياة وترسمها بصورة كاملة، أخذتنا معها وتبكيني كلما أرى دموعها التي صمدت أمام كل وهم المجتمع ووحشيتّه. الألم هنا، ليس في تفاصيل ما يجري، إنها صورة واضحة وقوية في معاناة وسام لتحكي ما تريد.

في غزة، حيث لا معنى للحرية ولا المستقبل ولا النجاة، الأشياء التي ردّدتها وسام كثيرة، أهمها أنه لا يوجد ما يسمّى بحقوق الإنسان إن اقتربت من السلطات، ولا قيمة تُذكر للإنسان في بلادنا.

تعلّمت الإنصات عندما استمعت كثيراً لوسام الطويل، وعرفت معناه برفقة من يعرف وزن الكلمة، والذي يريد معرفة الحياة لا مجادلتها

تحدّثت وسام عن نفسها كثيراً، عن أنها شخص حالم، ونسيت أن الأحلام غير مسموح بها في بلاد تقتل الأمل وتكوّره لجنّي أسفل السرير، وسجن يكبر كل يوم ليأكل ما تبقى من غُرف روحك، تحدّثت عن بلد ضائع وإنسان روحه معدومة، وإرادة مسلوبة، تجربة لفتاة سقطت في لحظة، ظنّاً منها أنها نهاية خلاصها.

تقول لي: "الإنسان لا يمكنه كتابة كل شيء، فعذاب الكلمة أقسى من أن يحتمله إنسان بمفرده"، ومع ذلك، استمرّت وقتاً طويلاً وهي تكتب لنا أشعارها، وحكاياتها، وأحداثاً حقيقية تنازعها كل يوم في نومها وصحوها، وتقوم بإشعال النار فيها على الطريقة المجوسية وتضحك.

وسام وفاطمة وجهان يحركان العالم، عالقات في البحث عن معنى الحرية، مازالا خائبين بحقيقة واحدة في النجاة.

أكتبُ لكِ اليوم هذه المذكرة في محاولة لبثّ الطمأنينة في قلبي، وأنك هناك على الضفة المقابلة تسمعين.

أبحث عن الكلمات في كل مكان حولي، وأحاول بكل مقدرتي أن أجد إجابة لسؤال واحد فقط: "أنتِ منيحة؟"، ولا أملك الشجاعة ولا القدرة الكافية لأن أجد وسيلة واحدة للحديث معك، كل شيء يجتمع ليأكل من قلبي كل يوم بشراهة، ولا أملك الآن غير اللغة، التي تخونني أكثر مما تنصفني.

أرسل لكِ أمنيتي في عامك الجديد
كل عام وأنتِ حرّة يا وسام، يا صديقة المشوار وصاحبة الفكرة. عم أستناكِ.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard