تعرفت مع وصولي إلى فرنسا إلى مجموعات من الشابات، كن عند وصولنا قد أنهين دراستهن الثانوية ويبحثن عن مجال يدرسنه، كن كلهن مليئات بالطاقة والحيوية والمشاريع والأحلام، تعلمت منهن كثيراً واستمددت منهن قوة وشجاعة مواجهة المنفى في سنواته الأولى، إحدى هؤلاء فتاة اسمها لين، بقينا على تواصل، وأثناء حجر كورونا أطلقت لين مشروعاً لإنتاج محتوى على صفحات التواصل الاجتماعي بعنوان أدرينالين، تقوم الصفحة على متابعة تفاصيل من حياة لين في المنفى من خلال فيديوهات ساخرة يرافقها موسيقى ومونولوجات تتحاور فيها لين مع نفسها حول الواقع المعيشي لامرأة تبدأ حياتها في الغربة.
مؤخراً ترافق صفحة أدرينالين لين في رحلتها في منزل جديد، نشاهد في الفيديوهات امرأة سورية وهي تقوم بتجهيز بيت جديد وحدها، تدهن الجدران، تركب الأثاث، وتنظف وترمم منزلها. لا يفوت لين في محتواها السخرية من أنها تطالب نفسها بمهام معقدة جداً وقد تبدو في بعض الأحيان مستحيلة كأن تركب وحيدة خزانة كبيرة تفوق حجمها بمرات.
أطلقت لين مشروعاً بعنوان أدرينالين، تقوم الصفحة على متابعة تفاصيل من حياة لين في المنفى من خلال فيديوهات ساخرة ومونولوجات تتحاور فيها لين مع نفسها حول الواقع المعيشي لامرأة تبدأ حياتها في الغربة
أشاهد المحتوى الذي تنتجه لين وأفكر، تعيدني الذاكرة إلى سوريا، حيث كان كل شخص منا مختص بمهنته فقط، وحيث يوجد أشخاص لا أتذكر كيف نتعرف إليهم يقومون بإنجاز المهمات المنزلية عنا، يتقاضون أجوراً زهيدة بالمقارنة مع حجم العمل، لا نعرف عن حياتهم الكثير فيما على مر سنوات مرافقتهم لحياتنا يتعرفون إلى كل تفاصيل حياتنا.
أفكر اليوم بأن شخصين أثرا كثيراً على مسير حياتي اليومية لابل وسمحا لي بممارسة مهنة تقتضي تواجدي في مواقع التصوير أحياناً لستة عشر ساعة متواصلة، كانت سلمى، لنسمها بهذا الاسم حفاظاً على خصوصيتها وأمانها، مدبرة منزلنا الرقيقة اللطيفة الصامتة تحافظ على منزلي كمكان قابل للعيش، نظيف، مرتب، وكان أبو محمد، أفضل أيضاً أن أطلق عليه هذا الاسم، الشهم يصلح كل ما يحتاج إلى إصلاح ويتكفل بكل الأمور الإجرائية التي تتعلق بالمنزل.
في أوروبا، كان لا بد من تعلم نمط جديد للحياة، العام الماضي، انتقلنا إلى بيت لا أذكر رقمه بعد البيوت العديدة التي بدلناها منذ خرجنا من سوريا.
عندما نزح سكان المنطقة التي تسكنها سلمى، اكتشفت فجأة أنها تعمل في منزلي منذ عشرة أعوام وأنا لا أعرف كنيتها، بحثت عن اسمها في قوائم المصابين والشهداء التي كانت تصل من المناطق الساخنة ولم أعرف كيف يمكن أن أعثر عليها حتى إن كان اسمها مذكوراً، وبعد محاولات لأيام للاتصال بها، عندما ردت، كان سؤالي الأول: "أنت منيحة؟" وألحقته بالسؤال الثاني: "شو كنيتك؟" لاحقني هذا التفصيل طويلاً، فقد كانت سلمى تعمل لدينا لسنوات، تعرف عاداتنا وأصدقاءنا، وتعرف مكان الأغراض في بيتنا حتى إنني كنت أحياناً أتصل بها لأسألها أين نضع الأغراض التي أحتاجها ولا أعرف مكانها.
قام أبو محمد بمرافقة رحلتنا منذ تحضيرات الزواج، فقد قام بتعجيل عمليات الإكساء اللازمة لبيتنا الأول المشترك، كي ينتهي كل شيء تزامناً مع العرس، أحضر كل العمال اللازمين وأشرف على كل العمليات. لاحقاً ظل أبو محمد مرجعيتي لكل مشكلة تواجهني في الشقة. جمعتنا بأبي محمد علاقة صداقة وتعرفنا إلى عائلته وزرنا بيوت بعضنا وتعرفت إلى كنيته، وتابعت أخباره حتى بعد خروجي، وقد كان خبر تعرضه للاعتقال من أثقل الأخبار التي سمعتها، ولحسن الحظ أنه نجا وعاد لأسرته.
عندما قررنا الانتقال من بيتنا إلى بيت آخر أثناء تصويري لمسلسل أبو خليل القباني، قامت سلمى بحزم كل أغراضنا وقام أبو محمد بنقلها إلى البيت الجديد وأنا أعيش في حقبة مسرح القباني ولا أعلم ما يجري في البيت.
في أوروبا، كان لا بد من تعلم نمط جديد للحياة، العام الماضي، انتقلنا إلى بيت لا أذكر رقمه بعد البيوت العديدة التي بدلناها منذ خرجنا من سوريا، كان البيت يحمل سحراً خاصاً لأنه قديم للغاية له حكايات وقصص ما زلت اكتشفها تدريجياً، ولكن الأمر الأساسي أنه كان يحتاج العديد من الإصلاحات، لا أبو محمد ولا سلمى للمساعدة هنا، والشركات تتقاضى أجوراً خيالية لإجراء إصلاحات بسيطة، فما كان لنا من طريق سوى أن نتعلم أنا وزوجي بمساعدة الأصدقاء كيف نقوم بتجديده وحدنا.
قسمنا المهام بيننا، واستلمت أنا مهمة الدهان، طلاء الجدران والخزائن والأبواب، أصبحت خبيرة بالأنواع والألوان، اختار الأدوات اللازمة بعد كثير من التجريب والأخطاء. جددنا المطبخ والحمام وتعلم زوجي السمكرة، فيما كنت أغرق في دلاء الطلاء. أتخيل أبو محمد وهو يضحك إذا رآنا اليوم ونحن نرتكب الأخطاء ونخبئها بقطع الأثاث.
تسلمت أنا مهمة طلاء الجدران والخزائن والأبواب، أصبحت خبيرة بالأنواع والألوان بعد كثير من التجريب والأخطاء. جددنا المطبخ والحمام وتعلم زوجي السمكرة، فيما كنت أغرق في دلاء الطلاء
أتخيل سلمى تراقبني بعين غير راضية وأنا أنظف البيت، رغم الخبرة التي اكتسبتها في السنوات الماضية، ولكن لا أعرف كيف كانت النظافة تفوح في كل البيت بعد أن نتظفه سلمى، لم أصل بعد إلى مستوى خبرتها وقدرتها ولكنني فخورة بقدرتي على المحافظة على البيت معقولاً في ظل فوضويتي الرهيبة التي يوسم بها الفنانون على أنها صفة إبداعية، ولكنها على الأغلب صفة مرتبطة بالكسل وانشغال البال أكثر من أي أمر آخر.
أنظر إلى بيتي اليوم، أشعر بالرضا، وتربطني بهذا البيت علاقة لم تربطني بأي مكان آخر، فكل زاوية فيه أعرفها جيداً، كل خطأ ارتكبناه أثناء تجديده يمكنني تحديد مكانه بدقة، وكل إنجاز أنجزناه يذكرني بقدرة الإنسان الرهيبة على التأقلم، وكل مرحلة أنجزناها تخبرني بالمشوار الطويل الذي قطعناه، وكم تعلمنا.
أفتخر بالنساء السوريات اللواتي واجهن الصعاب وحيدات أو مع شركائهن، وتعلمن أن يعملن أعمالاً كانت مخصصة للرجال في بلادنا.
أحسست بالرضا عن نفسي عندما لم أعد أشتاق للخدمات التي كان يقدمها كل من أبو محمد وسلمى، وإنما أشتاق فقط للعلاقة الإنسانية التي كانت تربطنا. أتذكر ابتسامة سلمى الراضية وأنا أشكرها على عمل أنجرته، أتذكر اجتماعنا حول طاولة الطعام في منزل أبو محمد الكريم وأحاديثنا وضحكاتنا، واقتنع بأن غربتي الأوروبية جعلتني أكثر إنسانية وتفهماً، أفكر بفيديوهات لين، وأفتخر بالنساء السوريات اللواتي واجهن الصعاب وحيدات أو مع شركائهن، وتعلمن أن يعملن أعمالاً كانت مخصصة للرجال في بلادنا. أتخيل سلمى وأبو محمد راضيين عن نتائج عملنا ويتغاضيان عن الأخطاء التي ارتكبناها بمقابل فخرهما بأننا تعلمنا درساً جديداً واصبحنا أكثر إنسانية، فللغربة على قسوتها جانب مشرق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...