كان ذلك في يومي الأول بالعمل داخل "المرصد المصري للصحافة والإعلام". ناقشني المدير في شيء كان بعيداً كل البعد عن تصوري، ولم أعهد الحديث فيه من قبل على مدار سنوات عملي، سواء بالصحافة أو بغيرها.
قال لي: "هناك تنبيه مهم أود إخبارك به، إذا رأيتِ ما ينقص الحمام من المستلزمات عليكِ إبلاغ 'فلان' فوراً، والتأكد من توفرها".
لم أفهم ما يقصده بالتحديد عن المستلزمات في حمام النساء التي تستحق الإبلاغ الفوري عن نقصها، أو تستحق من الأساس مساحة للكلام بيننا، فحتى الصابون والمناديل لم تعد متاحة دائماً في معظم أماكن العمل، حتى الكثير من الأندية وأماكن الترفيه العامة باتت تعدّهم رفاهيات يمكن الاستغناء عنها لمواجهة ارتفاع الأسعار.
نسيت الحديث، أو لم أعطه القدر الكافي من التفكير، و في اليوم التالي استخدمت حمام المؤسسة، ووجدت فيه بخلاف "الصابون والمناديل" فوطاً صحية للنساء بنوعين مختلفين، وزجاجة "بودي سبلاش" (بخاخ معطر للجسم)، وشريط أقراص مُسكنة للألم. للحظة تصورت أن إحدى الزميلات نسيت متعلّقاتها، إلى أن تذكرت حديث المدير.
قد يبدو الموضوع مثيراً للسخرية أو التندّر باعتباره رفاهية بعيدة عن مجتمعاتنا الغارقة في التعقيدات، لكن هذه نظرة قاصرة إذا ما دققنا في المترتب على تجاهل وجود حمام آمن للنساء بمعناه الأوسع، وليس فقط مجرد وجود القليل من الأدوات المساعدة
حمام آمن للنساء
منذ وقت ليس ببعيد، وتحديداً في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 أطلقت منظمة WaterAid بالتعاون مع اليونيسيف، دليلاً استرشادياً عن المراحيض العامة والمجتمعية "الصديقة للنساء"، من خلال مؤتمر "المياه والصحة" الذي عُقد في العام ذاته بمناسبة اليوم العالمي لدورات المياه.
الدليل الاسترشادي ناقش خططاً ومقترحات تقدم للحكومات والدول لا سيما النامية، من أجل تحسين خدمات المراحيض الملائمة للإناث، وأشار إلى متطلبات بيولوجية لدى النساء بما في ذلك الحيض والحمل وانقطاع الطمث، تجلب معها احتياجات يجب أخذها بالاعتبار.
وبخلاف التوصيات بأهمية توفير فوط صحية ومساحة للتخلّص من القديمة المستخدمة، ومياه وصابون للنظافة وغسل المنتجات القابلة للتدوير، ووجود مرايا وأرفف، قدّم أيضاً الدليل إرشادات حول كيفية معالجة تخطيط المدن، والارتقاء والإدارة في تأسيس المراحيض الملائمة للإناث، والتي يسهل وصول المستخدمات إليها، بما في ذلك كبيرات السن والنساء ذوات الإعاقة.
أخذت منظمة WaterAid بعدد من الأسباب المبنية على آراء خبراء ومختصين/ات وعاملين/ات في منظمات نسوية، وذهبت إلى أنه لا تزال النساء هن مقدمات الرعاية الأساسيات للأطفال أو الأقارب من المرضى وكبار السن على استخدام المرحاض، من هنا يجب توفير حجرة واسعة بما يكفي لمقدّم الرعاية والشخص الذي يحتاج إلى الرعاية، ومساحة أخرى مناسبة لتغيير ملابس الأطفال والحفاضات.
ورأت المنظمة المعنية بمياه الشرب والصرف الصحي، أن النساء لازلن الأكثر عرضة لخطر التحرّش أو الاعتداء بشكل أكبر عندما تكون المراحيض العامة في مكان سيئ أو مظلمة جداً أو غير آمنة.
الحمامات الآمنة ليست رفاهية
قد يبدو الموضوع مثيراً للسخرية أو التندّر باعتباره رفاهية بعيدة عن مجتمعاتنا الغارقة في التعقيدات، لكن هذه نظرة قاصرة إذا ما دققنا في المترتب على تجاهل وجود حمام آمن للنساء بمعناه الأوسع، وليس فقط مجرد وجود القليل من الأدوات المساعدة.
فما أشارت إليه منظمة WaterAid ينطبق على احتياج ضروري للنساء العاديات، هذا الاحتياج سيتضاعف بالطبع إذا ما وضعنا في الاعتبار وجود كثيرات تزورهن نوبات النزيف المهبلي، من الإجهاض أو بعد ولادة طفل، أو من تكافحن كل شهر من أجل السيطرة على تدفّق الدماء بسبب الأورام الليفية التي تتطلّب التغيير المتكرّر للملابس والفوط الصحية، وجميعهن حالات باتت متكرّرة.
ولم أتطرق كذلك إلى معاناة الحوامل وحاجتهن إلى مساحة شخصية أكبر من الرجل العادي، بخلاف حاجتهن المُلحّة طوال الوقت إلى التبوّل بشكل متكرّر، ما يعني ضرورة أن تكون المراحيض العامة بأعداد أكبر، وذات مساحة أكبر، كما نبهت إليه المنظمات المعنية.
النساء لازلن الأكثر عرضة لخطر التحرّش أو الاعتداء بشكل أكبر عندما تكون المراحيض العامة في مكان سيئ أو مظلمة جداً أو غير آمنة.
إذا سألنا مجموعة من النساء، من أعمار وأماكن مختلفة، عن معاناتهن مع الحمامات فلن ننتهي من ذكر التفاصيل؛ وذاكرتي وحدها تحتفظ بحكايات لا نهائية عن معاناة نساء بكين لعدم توفر حمامات آمنة.
أتذكر سيدة أربعينية أنيقة ظلت تبكي مع طفلها الرضيع في حمام إحدى النوادي لعدم وجود كرسي يمكنها من الجلوس مرتاحة أثناء إرضاع طفلها، إلى أن نجحت إحدى السيدات في إحضار كرسي بلاستيكي لها، وحين تحرّجت أخرى من نظرات الفتيات الصغيرات لها بشكل سلبي بسبب تغييرها حفاض ابنها على حوض غسيل اليدين، ما أثار نفور الجميع من الرائحة والمشهد بشكل عام.
قريبتي أيضاً بكت معي في السيارة لحاجتها إلى حمام في طريقنا للعودة إلى المنزل، وكانت وقتها حاملاً ومريضة سكر وتعجز عن أي انتظار.
وصديقة خضعت فترة لعلاج من آلام في الكلى والمثانة وعضلة الحوض جرّاء حبسها البول لفترات طويلة أثناء ساعات عملها في أحد مكاتب الرحلات السياحية، متخوّفة من عدم نظافة الحمام أو تجهيزه بشكل يتناسب مع الحد الأدنى من قواعد الحماية والأمان.
وبشكل عام، لا يمكن حصر الأمان داخل "الحمام" أو المكان الذي يشكل أهمية صحية كبيرة بالنسبة للبشر جميعاً وللنساء بالتحديد، في وجود فوط صحية وبودي سبلاش للتعطر إن لزم الأمر، لكن إلى حين توفير هذه الأمور التي تبدو في غاية البساطة وتعمّم في كل الأماكن المتاحة قدر الإمكان، شعرت أنه عليَّ شكر مديري بشكل شخصي على اهتمامه بوجود حمام صديق للنساء في العمل، فهذه المستلزمات التي أكّد على أهمية توافرها والإبلاغ عن نقصانها تنعكس على كافة الزميلات، ومن ثم على بيئة العمل ككل، وتشير إلى وجود مساحة آمنة للإناث بقدر ما، ومن قبل عقلية منفتحة بما يكفي لاحترام وتقدير العاملات في المكان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...