في موسم رمضان تناقل السوريون عبر تطبيق "واتساب" مقطع فيديو قصير بالأبيض والأسود، يعود إلى نهاية الستينيات تظهر فيه امرأة دمشقية وهي تعايد الناس بحلول الشهر الفضيل، مستخدمة عبارات وأدعية تذكرهم بجداتهم أو بزمن مضى كانت الحياة فيه أبسط بكثير. الفيديو المكرر يدغدغ مشاعر السوريين كافة ويعيدهم في الذاكرة إلى أيام خلت، ولكن قليلاٌ منهم، وتحديداً أبناء الجيل الجديد، يعرفون أن هذه السيدة المسنّة هي بالحقيقة رجل اسمه الحقيقي أنور البابا، قضى حياته في أداء دور نسائي وحقق من ورائه شهرة واسعة أوصلته إلى السينما المصرية وجعلته يقف أمام نجومها الكبار، بسبحته الطويلة –أو بالأصح سبحتها– ومنديله الأسود -أو منديلها-، وعبارته الشهيرة: "يوه يوه يوه، تؤبروني".
ابن عم سعاد ونجاة
ولد أنور البابا بدمشق سنة 1915 وكان والده جندياً في الجيش العثماني، كُتب له النجاة بأعجوبة من "السفربرلك" والعودة إلى داره الكائن في رقاق قريب من الجامع الأموي. كان كامل البابا يعمل خيّاطاً ويسكن مع أخيه حسني، وهو خطّاط ماهر، قرر الهجرة إلى مصر سنة 1902. لعمّه من زوجته الأولى، وهي دمشقية من حيّ الميدان، ابنته نجاة، ومن زواجه الثاني من مصرية، سعاد، وقد حققت الشقيقتان نجومية كبيرة في مصر وعرفتا بنجاة الصغيرة وسعاد حسني، وهما بنتا عم أنور البابا.
من الهواية إلى الاحتراف
درس أنور القرآن في كتّاب سوق البزورية، والتحق بعدها بعدة مدارس، منها مكتب عنبر التي خرّجت أهم رجالات سوريا. حاول والده تعليمه مهنة الحلاقة ليكسب منها لقمة العيش، ولكن اهتمامه منذ الصغر كان في السينما والمسرح، حيث كان يبيع من أثاث منزله لتأمين ثمن تذكرة حضور الأفلام المصرية التي كانت تُعرض بدمشق، دون أن يدرك أنه سيكون أحد أبطالها بعد سنوات طويلة.
قضى حياته في أداء دور نسائي وحقق من ورائه شهرة واسعة أوصلته إلى السينما المصرية وجعلته يقف أمام نجومها الكبار، بسبحته الطويلة –أو بالأصح سبحتها – ومنديله الأسود، وعبارته الشهيرة: "يوه يوه يوه، تؤبروني"
تعرّف البابا على مجموعة من الفنانين الهواة، يتقدمهم الممثل تيسير السعدي، وألفوا معاً فرقة مسرحية لإشباع هوايتهم، كانت تقدم العروض البسيطة في الأفراح والأعراس. وفي سنة 1938 دعي للمشاركة في مسرحية هادفة بعنوان "أتاتورك" عن الرئيس المؤسس للجمهورية التركية، كانت من تأليف وإخراج الأستاذ المدرسي أنور المرابط. وبعدها، اختاره الفنان المصري أمين عطا الله للمشاركة في عرض مسرحية "راسبوتين" التي كان يقدمها مع فرقته بدمشق.
وفي نفس العام وظّف البابا في السراي الحكومي بساحة المرجة، مراسلاً لدى رئيس الحكومة جميل مردم بك براتب شهري قدره 21 ليرة سورية، أو ما يُعادل أربع ليرات ذهبية. ساعده هذا الراتب "المحترم" على إطلاق فرقة مسرحية خاصة به ودفعِ ثمن ديكوراتها وأجور ممثليها، ومن بعدها دخل على الإذاعية المحلية في مدينة دمشق التي أوجدتها سلطة الانتداب الفرنسي في ساحة النجمة، ليس كممثل بل كمؤلف، وفيها وضع كلماتِ عدةِ أغنيات للمطرب المعروف نجيب السراج، مثل "نور الصباح" و"يسعد صباحك يا بدر". ومن هنا اختير البابا ليكون أحد مؤسسي إذاعة دمشق الرسمية التي أُطلقت في مطلع عهد الاستقلال وقبل أشهر معدودة من ولادة شخصية "أم كامل" التي حولته من فنان محلي صغير إلى نجم صف أول في سوريا.
أم كامل الداية
بعد أشهر من جلاء القوات الفرنسية عن سوريا، اجتاحت الكوليرا مدينة دمشق وفتكت بأهلها، فطلب الرئيس مردم بك (مدير البابا في وظيفته الحكومية) من الفنانين السوريين مساعدته على نشر الوعي الصحي وضرورة الوقاية من الوباء. فقرروا تنفيذ برنامج إذاعي بعنوان "إصابة مشتبهة"، عن الكوليرا ومخاطرها، شارك فيه الفنان الهاوي سامي الكسم بدور سيدة تُدعى "أم كامل"، نظراً لقلّة الفنانات في حينها. ولكن يبدو أن هذا الدور أتعبه فقرر التخلّي عنه، وعرض البابا أن يجسده، بعد صَقله وإضافة أبعاد كثيرة عليه.
وسع البابا من أبجدية أم كامل وأضاف إلى قاموسها مجموعة من الأدعية والعبارات المستوحاة من أمه، والتي كان يحبها كثيراً، وكانت سيدة قوية وحكيمة ولكنها أمية، لا تعرف القراءة والكتابة، كما أم كامل.
أعجب الجمهور بشخصية أم كامل بنسختها الجديدة والمعدلة، ولشدة نجاحها قرر البابا تبنيها بالكامل والإقلاع عن غيرها من أدوار. عُرفت أم كامل بحلاوة حديثها وطلاوة صوتها ومواقفها المضحكة، مع قناعاتها الشعبية البالية حول المال والشطارة والرجال. يقول البابا عن شخصيتها: "لقد تشربتُ دور أم كامل إلى درجة التوّحد فيه، فسرى في القلب حبّاً وفي العروق دماً. تقمصتها حتى العظم ومشت معي في رحلتي الطويلة مع الفن".
من المسرح إلى السينما والتلفزيون
بعد نجاح تمثيلية "إصابة مشتبهة" صُمّمت مسرحية خاصة بأم كامل، حملت عنوان "أم كامل على الجبهة" قدمها البابا أمام قوات الجيش السوري أثناء حرب فلسطين واستمرت بالعرض حتى سنة 1949. ومن بعدها جاءت مشاركته السينمائية الأولى في الفيلم السوري–اللبناني الطويل "نور وظلام"، من إخراج وإنتاج نزيه الشهبندر، وبطولة المطرب رفيق شكري والممثلة اللبنانية أيفون فغالي.
أنور البابا عن شخصية أم كامل: "لقد تشربتُ دور أم كامل إلى درجة التوّحد فيه، فسرى في القلب حبّاً وفي العروق دماً. تقمصتها حتى العظم ومشت معي في رحلتي الطويلة مع الفن".
أثناء التصوير أدرك البابا مدى الشهرة والشعبية التي وصلت إليها أم كامل عند فرض حظر التجوال على مدينة دمشق بسبب عدوان إسرائيلي مرتقب وإطلاق صفارات الإنذار سنة 1948.
خرج البابا من موقع التصوير بلباس أم كامل مسرعاً إلى داره، فأوقفه أحد عناصر الشرطة وأراد أن يكتب به ضبط لمخالفة قانون "منع التجول"، قبل أن يدرك أن المخالف هي "الأخت" أم كامل. ضحك البابا بصوت أم كامل ورمى منديله على وجهه وقال: "دخيل عينك يا أفندي ما تواخذني. بنتي عم تولّد يامو وكنت رايحة لعندها"، فأذن لها الشرطي بالمرور، بعد أن مزّق الضبط، ولو كان في عصره هاتف ذكي مع كاميرا لكان التقط صورة تذكارية مع أم كامل!
أم كلثوم وأم كامل
بعد ذلك شكّل البابا ثلاثياً فنياً مع القاص الشعبي حكمت محسن والفنان الكوميدي فهد كعيكاتي، الذي اشتهر بشخصية الرجل الدمشقي البخيل "أبو فهمي"، وقدموا معاً مئات التمثيليات والحلقات الإذاعية عبر أثير إذاعة دمشق. وعند زيارة أم كلثوم دمشقَ سنة 1956، أقيم على شرفها عشاء كبير في منزل نائب المدينة فخري البارودي في حيّ القنوات، فطلبت "الست" أم كلثوم لقاء "الست" أم كامل، وقالت إنها سمعت عنها الكثير.
دخل أنور البابا إلى حجرة ليغير ملابسه وفجأة دخلت عليه أم كلثوم لتجده نصف رجل-نصف امرأة، يرتدي الملاية السوداء من فوق والبنطال من تحت، فمسكت أم كلثوم بيد أم كامل وخرجت معها إلى أرض الديار وقالت ممازحة أمام الضيوف: "جبتلكم أم كامل… وكامل كمان".
وفي إحدى حفلات "الست" بدمشق، دعيت أم كامل لمشاركتها المسرح والترحيب بها على الطريقة الشامية، وعندما اقتربت منها الفنانة فاتن حمامة لتقبيلها، ظناً أنها سيدة بالفعل، وجدت بشربتها خشنة وملامحها القريبة حادةً، لا تمت إلى المرأة بشيء، وهنا صاحت: "يا لهوتي!".
في سنة 1958 دعيت أم كامل إلى القاهرة للمشاركة في فيلم "بنت البادية" مع الفنانة برلنتي عبد الحميد والراقصة نجوى فؤاد، كما كان لأنور البابا ظهور في فيلم "إسماعيل ياسين للبيع" مع النجم المصري إسماعيل ياسين.
تأسيس التلفزيون السوري
عند افتتاح التلفزيون السوري في زمن الوحدة السورية–المصرية انتقلت أم كامل من الشاشة الكبيرة إلى الصغيرة، ومن خلالها دخلت كل بيت في سوريا. شارك البابا في معظم أعمال المخرج اللبناني نقولا أبو سمح الكوميدية، مثل "مختار السبع بحرات (1969) و"أبو صياح الثاني عشر" (1973) و"وصية المرحوم" (1975)، إضافة إلى المسلسل الكوميدي الشهير "حمام الهنا" سنة 1968، مع دريد لحام ونهاد قلعي.
ظلّ أنور البابا وفياً لشخصية "أم كامل" طيلة الستينيات وحتى منتصف السبعينيات، عندما وجد نفسه مجبراً على التخلّي عنها، نظراً لتراجع الأعمال الكوميدية الشعبية مقابل أعمال معاصرة وأكثر جدية
وقد ظلّ البابا وفياً لشخصية أم كامل طيلة الستينيات وحتى منتصف السبعينيات، عندما وجد نفسه مجبراً على التخلّي عنها، نظراً لتراجع الأعمال الكوميدية الشعبية مقابل أعمال معاصرة وأكثر جدية. وفي نهاية العقد السابع من القرن العشرين، كانت له مشاركات في مسلسلات تاريخية، مثل "أحمد باشا الجزار" و"الحكاية الثانية من سيرة بني هلال"، مع المخرج علاء الدين كوكش، ولكن كليهما لم يضيفا شيئاً إلى مساره الفني، بل إنه لم ينجح فيهما لأن الجمهور كان ينتظر شخصية أم كامل التي وقف البابا أسيراً لها بالكامل.
السنوات الأخيرة
هذا الشحّ في الأدوار التلفزيونية أجبر أنور البابا على التوجه إلى المسرح الشعبي في دمشق، حيث كانت الأعمال تفصّل على قياس "أم كامل". فانضم إلى فرقة الفنان محمود جبر الكوميدية، وفي سنة 1975 إلى الأخوين قنوع في ما عرف يومها بمسرح "دبابيس"، ومعهم كانت آخر أعماله المسرحية سنة 1991، بعنوان "الآخرة يا فخرة"، التي مرض أنور البابا أثناء عرضها وتوفي عن عمر ناهز 77 عاماً يوم 19 كانون الثاني/يناير 1992.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين