شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
دروس من كربلاء... هل الانتصارات العسكرية انتصارات نهائية؟

دروس من كربلاء... هل الانتصارات العسكرية انتصارات نهائية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والخطاب الديني نحن والتاريخ

الأربعاء 10 أغسطس 202210:45 ص

لا تزال ذكرى كربلاء تطرح الأسئلة حول الحدث وأبطاله ومدلولاته التاريخية: هل الحسين خرج طلباً للسلطة أم انتصاراً للحق؟ وهل كان الصراع بين الخير والشر أم كان صراعاً بين رجلين كلٌّ منهما ورث عداوة أبيه؟ أم هو صراع بين أفكار كبرى، أكبر حتى من المشاركين في صناعة الحدث؟ هي أسئلة لتنشيط حاسة مراجعة المواقف ونقد المسلمات، وليست للوصول إلى نتيجة نهائية.

هناك أحداث تظهر كأنها مصير محتوم، أو لزوم ما يلزم لحركة التاريخ، منها حادثة كربلاء. تظهر مقاومة الحسين لعملية توريث الخلافة من معاوية لابنه يزيد، كأحد هذه الأحداث. كربلاء تتجلى كضرورة تاريخية لأن رفض هذا الشكل من السلطة الوراثية كان في جزء منه ضرورةً لخلق أيقونة مقاومة تبقى مستمرةً وعابرةً للزمن، وضرورةً لزرع بذرة مقاومة الحكم بحق الدم والميراث في المستقبل. كما أن هزيمة الحسين"العسكرية"، كانت قدراً محتوماً نظراً إلى تفاوت موازين القوى الواضح بين الطرفين.

الحسين كبطل أسطوري

استمرار الحسين في المقاومة، بالرغم من معرفته بالمصير الذي ينتظره، جعل منه بطلاً أسطورياً تحتاج إليه المخيّلات الشعبية لبقاء صور المقاومة حيةً... كانت مقاومة جيش يزيد في تلك اللحظة أمراً مغرقاً في الرومانسية، لكن، وبرؤية الصورة مكتملةً، كانت مشهداً يرسم واقعية التاريخ القائم على ثنائيات المصالح والمصالح المضادة، والصراع والتوافق، والهزائم المؤقتة والانتصارات المؤجلة، والإذعان والمقاومة.

يفتح صراع الحسين-يزيد، باباً آخر للتساؤل هو: هل الانتصارات العسكرية انتصارات نهائية؟ وهل يمكن أن ينهزم أحدهم إلى حد القتل في معركة ما، ثم يتحول المهزوم إلى شبح وفكرة يهزمان أعداءه ولو بعد حين؟ لا شك في أن يزيد انتصر في معركته العسكرية ضد الحسين، لكنه خسر معركة التاريخ. أما الحسين، الذي خرج من المعركة قتيلاً ومفصولاً رأسه عن جسده، فقد حقق انتصاراً تاريخياً مدهشاً. العبرة دائماً في الخواتيم، لكن أي خواتيم نقصد؟

كل الطرق كانت تؤدي إلى كربلاء

كربلاء كانت صداماً دموياً وجب أن يحدث بين عصرين: عصر حكم نبلاء قريش الذي ظهرت فيه بينهم درجة من درجات تداول السلطة وأرستقراطية تسمح إلى درجة ما بتوازن القوى بين أقطاب المجتمع القرشي الذي يظهر على رأس إمبراطورية ضخمة في طور التكوين، وعصر جديد فيه تركيز أكبر للقوة لصالح بيت بني أمية مع انتقال الخلافة من مركزها ومنشئها في الحجاز إلى الشام.

لم يكن ذلك مجرد انتقال جغرافي، فالشام مركز للتقاليد الاستبدادية البيزنطية التي ظهرت كطريقة أكثر فاعليةً في الحكم بعد انقسام أقطاب المجتمع القرشي في حروب وصراعات دموية كادت أن تعصف بالدولة ذاتها. كانت كربلاء مشهد النهاية الدموي لمحاولات استعادة الأرستقراطية القرشية، وانتصاراً للاستبداد البيزنطي في نسخته الأموية.

"كانت مقاومة جيش يزيد أمراً مغرقاً في الرومانسية، لكنها كانت مشهداً يرسم واقعية التاريخ القائم على ثنائيات المصالح والمصالح المضادة، والصراع والتوافق، والهزائم المؤقتة والانتصارات المؤجلة، والإذعان والمقاومة"

وهنا يظهر الحسين بطلاً للمشهد الأخير بتعقيداته كلها. وكرجال المَشاهد الأخيرة كلهم، كان كمَن يسير في طريق قدري محتوم. رجل حمل ثأر أخيه وأبيه وينتمي إلى بيت له أعظم مكانة روحية، لكنه يفقد مكانته السياسية لصالح بني عبد شمس. ورث الرجل المكانة، ووجد نفسه في الطريق الذي لا رجعة منه: إما أن يتخلى عن مكانته إلى الأبد، أو يقاوم.

كانت المقاومة خياراً شبه انتحاري في ظل المعطيات المتاحة، لكنها كانت الخيار الوحيد، فالرجل لم يكن ليعيش في عار أن يرى قتلة أخيه والمتآمرين على أبيه يحكمون الأرض وعليه هو الخضوع. لم تكن مكانته تسمح بذلك. أحياناً يكون اختيار المقاومة والموت أكثر ملاءمةً من خيار العيش والإذعان. لم يكن الحسين قطعاً يسعى إلى الموت، لكن المؤكد أن الموت هو مَن سعى إلى الحسين.

في رائعة عبد الرحمن الشرقاوي "الحسين ثائراً"، لخص الكاتب هذه الفكرة بطريقة شبه شاعرية في حوار الوليد والحسين:

"الوليد: نحن لا نطلب إلا كلمة، فلتقل: بايعت، واذهب بسلام إلى جموع الفقراء. ولتقلها وانصرف يا ابن رسول الله حقناً للدماء... فلتقلها... آه ما أيسرها... إنْ هي إلا كلمة.

الحسين: (منتفضاً) كبرت كلمةً! وهل البيعة إلا كلمة؟ ما دين المرء سوى كلمة... وما شرف الرجل سوى كلمة".

الكلمات شاعرية وغير حقيقية، لكنها تلخص مأساة الحسين. كل الطرق كانت تؤدي إلى كربلاء.

"هل الانتصارات العسكرية انتصارات نهائية؟ وهل يمكن أن ينهزم أحدهم إلى حد القتل في معركة ما، ثم يتحول إلى شبح وفكرة يهزمان أعداءه ولو بعد حين؟"

مشهد تصادم كبير

يكتب أحدهم أن الحسين خرج لمصلحته الشخصية، لا لقضية نبيلة.

حسناً، كربلاء كانت مشهد تصادم كبير بين مصالح كبرى، وفكرتين تتجاوزان حتى شخوص مَن شاركوا في الحدث. كل صراع كبير يمكن رده في جوهره إلى تشابك مصالح وإلى تعارضها... نعم، خرج الحسين بدوافع أحقيته في الخلافة وأحقية بيته، لكن ما الضير في هذا؟ هذا لا يدين الحسين أو غيره، فنحن في عالم حقيقي تشكله المصالح، لا يوتوبيا تصنعها المثاليات.

مَن يقرأ التاريخ عليه أن يعرف أين تكمن المصالح التي تشكل الأفكار. فكل فكرة ظهرت استجابةً لمصلحة، وكل مصلحة خلقت صراعاً، وكل صراع شكّل جزءاً من حركة الزمن.

يكتب آخر، أن كربلاء مجرد حدث عادي جرى تضخيمه لمصالح سياسية.

كلما واجهتنا أزمة من مشهد تاريخي ما، حاولنا الهروب منه بادّعاء عدم أهميته. علينا أن نواجه الحقائق، فكربلاء حدث ليس كأي حدث، كما لا يمكن أبداً اختزال كربلاء وتحويلها إلى مجرد حدث عارض أو أمر تافه بفعل الصدف العشوائية. كربلاء حادثة ملحمية ومشهد محمَّل بمعانٍ أكبر من مجموع أشخاصه ومفردات أحداثه ويمكن إعادة استخدامه بسبب شخوص المشاركين فيه من ناحية، والنتائج التي نتجت عنه من ناحية أخرى. فالأمور تظل عاديةً، ولها ألوان محايدة حتى تغيّر الدماء لونها فتحوّلها من حادثة عرضية إلى حالة ملحمية. وأي دماء؟ إنها دماء بيت النبوة... كربلاء شحنت مخيلة أمم من الناس بمشاهد ومعانٍ جري توظيفها في صراعات وصدامات أجيال قادمة.

"لا شك في أن يزيد انتصر في معركته العسكرية ضد الحسين، لكنه خسر معركة التاريخ. أما الحسين، الذي خرج من المعركة قتيلاً ومفصولاً رأسه عن جسده، فقد حقق انتصاراً تاريخياً مدهشاً. العبرة دائماً في الخواتيم..."

لا يمكن النظر إلى كربلاء على أنها مشهد عادي أو معركة انتهت بموت مَن شاركوا فيها. كربلاء مشهد أسس لما بعده، وسواء وُظّفت في حق أو في باطل، إلا أنها أحد أهم المشاهد في التاريخ السياسي للإسلام، كدين وكثقافة. وكأي مشهد كبير، فإنه يمكن توظيفه أحياناً لخدمة الحق، وأحياناً لخدمة الزيف. يمكن أن يوظَّف لخدمة مقاومة نبيلة أو حالة ثورية عظيمة، ويمكن أن يوظَّف لخداع الناس باسم دم الحسين. لكن المؤكد أن كربلاء مشهد صنع التاريخ من بعده، ولم ينتهِ أثره. إلى يوم الناس هذا يُعاد إنتاج مظلوميته ويعاد تفسير أحداثه، لكنه أبداً لا يتوقف عن التأثير، أو كما قال نزار قباني: "فتاريخنا كله محنة... وأيامنا كلها كربلاء".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image