عرف التاريخ الإسلامي ظهور العديد من الفرق/ المذاهب على الساحة الدينية. كان أتباع كل فرقة ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم أصحاب الفرقة الناجية التي تحدث عنها النبي وأخبر بدخولها الجنة. في هذا المقال نلقي الضوء على مصطلح أهل السنّة والجماعة، لنرى كيف ظهر هذا المصطلح من رحم تفاعل الديني والسياسي في القرن الأول الهجري، ولنفهم كيف ارتبطت مجموعة من المذاهب الشهيرة بذلك المصطلح دوناً عن غيره.
في معنى المصطلح
اندلعت الحرب الأهلية بين المسلمين بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، في أواخر سنة 35 هـ. انقسم المتحاربون إلى معسكرين، أولهما جيش العراق الذي تبع الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، وثانيهما معسكر أهل الشام الذي أيّد معاوية بن أبي سفيان، وطالب بالثأر لمقتل عثمان.
بقيت الحرب مستعرةً بين الفريقين حتى قُتل علي بن أبي طالب، في رمضان سنة 40 هـ، على يد أحد الخوارج. انتقلت الخلافة إلى الحسن بن علي، الذي حاول أن ينهض لقتال معاوية. أيقن الحسن بعد فترة أنه لن يتمكن من مواجهة الشاميين، فوافق على الصلح مع معاوية. اتفق الطرفان في ربيع الأول من عام 41 هـ -وهو العام الذي يُعرف باسم عام الجماعة- على أن يتنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، لينتهي بذلك عصر الراشدين، ويبدأ عصر الدولة الأموية.
اتفق الطرفان في ربيع الأول من عام 41 هـ -وهو العام الذي يُعرف باسم عام الجماعة- على أن يتنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية
يمكن أن نقول إن الظهور الأول لمصطلح أهل السنّة والجماعة، قد حدث في تلك الفترة تحديداً. كانت الأغلبية الغالبة من المسلمين قد دخلت في طاعة الأمويين. لم تبقَ خارجةً عن الدولة إلا جماعات متناثرة من الشيعة الذين أعلنوا ولايتهم لعلي بن أبي طالب وبنيه، والخوارج الذين رفضوا حكم علي وحكم الأمويين.
يذكر ابن كثير المتوفى عام 774 هـ، في كتابه "البداية والنهاية"، أن معاوية بن أبي سفيان دخل إلى الكوفة -المعقل الأقوى للشيعة- وخطب في أهلها عقب توليه منصب الخلافة، وقال لهم: "ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون". تماشت سياسات معاوية وخلفائه من الأمويين مع ما ورد في تلك الخطبة بشكل كبير. كانت الدولة الأموية تطلب الطاعة المطلقة من جميع المسلمين على حد سواء. عملت السلطة على عقد حالة من حالات التماهي والمزج بين الدين والسياسة.
في هذا السياق، روّج الأمويون للقول إن من يرفض طاعتهم فإنه يرفض الانضمام إلى جماعة المسلمين. من هنا ظهر مصطلحان سياسيان/ دينيّان مهمان إلى حد كبير، وهما مصطلح الجماعة ومصطلح المبتدعة على الترتيب.
قُدّمت بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، والتي ظهر منها المعنى نفسه. يذكر الترمذي المتوفى 279 هـ، في سننه، واحداً من أشهر تلك الأحاديث عندما ينقل عن النبي قوله: "ليأتينَّ على أمَّتي ما أتى على بني إسرائيل حَذوَ النَّعلِ بالنَّعلِ، حتَّى إن كانَ مِنهم من أتى أُمَّهُ علانيَةً لَكانَ في أمَّتي من يصنعُ ذلِكَ، وإنَّ بَني إسرائيل تفرَّقت على اثنتين وسبعين ملَّةً، وتفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعين ملَّةً، كلُّهم في النَّارِ إلَّا ملَّة واحِدة، قالوا: مَن هيَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ما أَنا علَيهِ وأَصحابي". روّجت السلطة أن أتباعها هم الداخلون ضمن الفئة الناجية، وأن أعداءها ومعارضيها من بين الفرق الأخرى التي سيؤول مصيرها إلى النار وبئس المصير.
الظهور وشرحه
ظهر مصطلح أهل السنّة والجماعة للمرة الأولى في المدوّنات التاريخية الإسلامية في الأثر المنسوب إلى عبد الله بن العباس. ينقل ابن كثير في تفسيره للآية 106، من سورة آل عمران: "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ"، عن ابن العباس قوله في تفسير اليوم المُشار إليه في الآية: "يعني: يوم القيامة، حين تبيض وجوه أهل السنّة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة".
سيتم شرح هذا المصطلح المبهم بعدها في بعض أقوال الصحابة والتابعين. على سبيل المثال، لمّا سئل الصحابي أنس بن مالك عن معنى أهل السنّة والجماعة، فإنه ردّ قائلاً: "أن تحبّ الشيخين -يقصد أبي بكر وعمر بن الخطاب- ولا تطعن في الختنين -يقصد عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب- وتمسح على الخفّين". يذكر هبة الله اللالكائي، المتوفى سنة 418 هـ، أيضاً في كتابه "شرح أصول أهل السنّة والجماعة"، إلى أن التابعي سفيان الثوري لمّا سئل عن معنى موافقة السنّة، أجاب بقوله: "تقدمة الشيخين أبي بكر وعمر".
لمّا سئل الصحابي أنس بن مالك عن معنى أهل السنّة والجماعة، قال: "أن تحبّ الشيخين -يقصد أبي بكر وعمر- ولا تطعن في الختنين -يقصد عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب- وتمسح على الخفّين"
تشهد الاقتباسات السابقة على أثر التداخل السياسي-الديني في صك مصطلح أهل السنّة والجماعة. كانت جميع الأقوال تؤكد على وجوب تقديم أبي بكر وعمر، وعلى احترام عثمان وعلي. يعني ذلك أن تبتعد عن الشيعة -الذين يقدّمون علي بن أبي طالب على جميع الصحابة- وأن تبتعد عن الخوارج -الذين يكفّرون عثمان وعلي-. يتماشى التأكيد على مسألة مسح الخفين مع المنطق نفسه، لأن الشيعة والخوارج كانوا يرفضون المسح على الخفين عند الوضوء. من هنا انطبقت جميع الشروط السابقة على فئة معينة من المسلمين، وهي تلك الفئة التي اتّبعت السلطة ولم تجاهر بمعصيتها أو الخروج عنها، والتي ستُعرف باسم أهل السنّة والجماعة.
ورد ذلك المعنى في كتابات اثنين من كبار العلماء المسلمين على مر القرون. يقول ابن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456 هـ، في كتابه "الفصل في الأهواء والملل والنحل": "وأهل السنّة الذين نذكرهم أهل الحق ومن عداهم فأهل البدعة فإنهم: الصحابة رضي الله عنهم، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم، ثم أصحاب الحديث ومن تبعهم من الفقهاء جيلاً فجيل إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم".
يظهر المعنى نفسه في كتابات ابن تيمة الحراني المتوفى 728 هـ، في كتابه "منهاج السنّة النبوية في الرد على الشيعة القدرية". يقول ابن تيمية: "فلفظ 'أهل السنّة' يراد به من أثبت خلافة الثلاثة، فيدخل في ذلك -أي: "في لفظ أهل السنّة- جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به: أهل الحديث والسنّة المحضة فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول: القرآن غير مخلوق والله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأمور المعروفة عند أهل الحديث والسنّة".
أهل الحديث
ظهر مصطلح أهل السنّة والجماعة في البداية للإشارة إلى أتباع السلطة. تطور المصطلح في ما بعد مع تغيّر الأحداث السياسية والفكرية في الدولة الإسلامية. ضاقت دلالة المصطلح في بدايات القرن الثالث الهجري، ليُقصد به الفقهاء والعلماء الذين رفضوا القول بخلق القرآن.
مال الخليفة العباسي عبد الله المأمون، إلى رأي المعتزلة في القول بخلق القرآن، ودعا الفقهاء لمتابعته في ذلك الرأي. وافقه العديد منهم، بينما رفض آخرون، وأصرّوا على الالتزام بالنص الحرفي الوارد في القرآن. كان الإمام أحمد بن حنبل المتوفى 241 هـ، واحداً من أبرز المعارضين للقول بخلق القرآن، وتشبّث بموقفه في عهود كل من المأمون والمعتصم والواثق بالله.
مال الخليفة العباسي عبد الله المأمون، إلى رأي المعتزلة في القول بخلق القرآن، ودعا الفقهاء لمتابعته في ذلك الرأي
يذكر شمس الدين الذهبي المتوفى 748 هـ، في كتابه "سير أعلام النبلاء"، كيف تغيّر الوضع في عهد الخليفة المتوكل على الله: "وفي سنة 234 أظهر المتوكل السنّة، وزجر عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك إلى الأمصار، واستقدم المحدثين إلى سامراء، وأجزل صلاتهم، ورووا أحاديث الرؤية والصفات...". وضّح ابن كثير دور المتوكل في الانتصار لمذهب ابن حنبل وغيره من أهل الحديث، فقال: "وكان المتوكل محبباً إلى رعيته قائماً في نصرة أهل السنّة، وقد شبهه بعضهم بالصدّيق في قتله أهل الردّة، لأنه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين، وبعمر بن عبد العزيز حين ردّ مظالم بني أمية. وقد أظهر السنّة بعد البدعة، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها فرحمه الله. وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور. قال فقلت: المتوكل؟ قال: المتوكل. قلت: فما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بقليل من السنّة أحييتها".
لم ينقضِ زمن المتوكل على الله حتى قويت مكانة أهل الحديث -وهم الفئة التي وقفت ضد المعتزلة واعتمدت في مناقشتها على النصوص القرآنية والحديثية- وصاروا يُعرفون باسم أهل السنّة والجماعة تمييزاً لهم عن أعدائهم من الشيعة والخوارج والمعتزلة.
الأشاعرة
ظهر في بدايات القرن الرابع الهجري أبو الحسن الأشعري المتوفى 324 هـ، وعُرف بأنه صاحب المدرسة الأشعرية التي لعبت دوراً مهماً للغاية في تطور مصطلح أهل السنّة والجماعة. تذكر المصادر التاريخية أن أبا الحسن الأشعري كان معتزلياً في أول حياته، وأنه كان تلميذاً عند أبي علي الجبائي المتوفى 303 هـ. يذكر المؤرخون أن الأشعري ناقش أستاذه في الكثير من المسائل العقائدية. أعلن الأشعري بعد فترة أنه قد تراجع عن أفكاره المعتزلية، وأنه رجع إلى معتقدات أهل السنّة والجماعة.
قدّم الأشعري منهجاً كلامياً تمكّن من خلاله للتصدي لأفكار المعتزلة. اشتهر مذهبه بين الناس ورحّب به كبار العلماء الذين عرفتهم الحضارة العربية الإسلامية، من أمثال كل من أبي بكر الباقلاني المتوفى 403 هـ، وأبي المعالي الجويني المتوفى 478 هـ، وأبي حامد الغزالي المتوفى 505 هـ، وفخر الدين الرازي المتوفى 606 هـ، ويحيى بن شرف النووي المتوفى 676 هـ، وجلال الدين السيوطي المتوفى 911 هـ.
كُتب للمذهب الأشعري الانتشار في مناطق واسعة في بلاد الشام ومصر والعراق وبلاد المغرب، وارتبط بمصطلح أهل السنّة والجماعة حتى أن بعض الباحثين ذهبوا إلى أن الأشاعرة كانوا أول من عُرفوا بهذا المصطلح. يقول الباحث المصري المعاصر مصطفى الشكعة في كتابه "إسلام بلا مذاهب" في هذا المعنى: "... وهكذا نجد أن لقب 'أهل السنّة' أُطلق أول ما أُطلق على جماعة الأشاعرة ومن نحا نحوهم، ثم اتسعت دائرته فشملت أصحاب المذاهب والفقهاء من أمثال الشافعي ومالك وأبي حنيفة وابن حنبل والأوزاعي وأهل الرأي والقياس...".
الماتريدية
كان أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي المتوفى 333 هـ، يطوّر من منهجه الكلامي للرد على المعتزلة في بلاد ما وراء النهر، في الوقت نفسه الذي كان الأشعري يضع فيه مذهبه في العراق. تمكن الماتريدي من تصنيف بعض الكتب للرد على المعتزلة، من أهمها كلّ من "التوحيد"، و"تأويلات أهل السنّة"، و"المقالات"، و"بيان وهم المعتزلة"، و"ردّ الأصول الخمسة".
نجد أن لقب 'أهل السنّة' أُطلق أول ما أُطلق على جماعة الأشاعرة ومن نحا نحوهم، ثم اتسعت دائرته، فكيف حصل هذا التوسع ولماذا وعلى من أطلق؟
لم تلبث عقائد الماتريدي -القريبة جداً من العقائد الأشعرية- أن تزاوجت مع المذهب الفقهي الحنفي المنتشر في تلك الأصقاع البعيدة. وسرعان ما انتشرت الماتريدية في بلاد الهند والصين وتركيا. يقول محمد زاهد الكوثري في كتابه "تنبيه الخطيب"، مشيراً إلى أعداد الماتريدية الحنفية في تلك البلاد: "في السند لا تقلّ عن خمسة وسبعين مليوناً، وفي الصين عن خمسين مليوناً، وفي بلاد الروس، والقوقاس، والقزان وبخارى، وسيبريا، وما والاها عن خمسين مليوناً أيضاً، وفي بلاد الرومان، والعرب، ودربوسنا، وهرسك، والألبان، والبلغار، واليونان، والبلاد العثمانية القديمة في القارات الثلاث، يعني آسيا، وأوروبا، وإفريقيا، عن خمسين مليوناً أيضاً، سوى من بلاد الأفغان، وبلاد الحبشة، ومصر، وطرابلس الغرب، وتونس، وإفريقيا الجنوبية، وغيرها".
وهكذا ارتبط مصطلح أهل السنّة والجماعة بثلاث فرق/ مذاهب رئيسة، أهل الحديث الذين تفقهوا بالمذهب الحنبلي والذين ظهروا في بدايات القرن الثالث الهجري، والأشاعرة الذين انتشروا في وسط البلاد الإسلامية وغربها، والماتريدية الذين انتشروا في مشرق العالم الإسلامي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...