"ذكرى خالدة لإخواننا الذين اغتيلوا غدراً من طرف الاستعمار الغاشم في الثاني من أيار/ مايو سنة 1962، رحمهم الله"؛ بهذه العبارة تم تذييل النصب التذكاري الذي يقف أمام بوابة ميناء الجزائر اليوم، في ساحة "تافورة" أو "الثاني من مايو" كما تُسمى حديثاً، والذي يصوّر "حمّالاً" أو "عتّالاً"، بملامح متعبة، وجسدٍ منهك يحمل كيساً على ظهره المقوّس، تجسيداً لنضال الطبقة العاملة -تحديداً عمال ميناء الجزائر- خلال الاستعمار الفرنسي للبلاد بين عامي 1830 و1962.
تم تشييد التمثال البرونزي الذي تحوّل إلى أحد أهم معالم المدينة الشهيرة، عن طريق النحات الجزائري محمد بوكرش، وأزال الستارة عنه في الفاتح من أيار/ مايو عام 2009، الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، ليصبح مقصداً ومزاراً سنوياً للمسؤولين الجزائريين في احتفالات عيد العمال كل عام كـ"استعادة رمزية" لذكرى المجزرة، وليكون أيضاً، واجهةً لميناء العاصمة الشهير.
فما هي خلفية التمثال التاريخية، وعلاقته بحادثة الإضراب العمالي ضد ظروف الاستغلال وشروط العمل المُهينة التي فرضتها الإدارة الفرنسية للميناء على عماله، وهو ما انتهى بمجزرة شنيعة؟ وما دور "الجيش السرّي الفرنسي"، كمنظمة إرهابية إجرامية معارضة لسياسات الرئيس شارل ديغول (1890-1970)، في الجزائر، واعترافه بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم؟ وما أبرز الجرائم التي قاموا بها بعد انقلابهم على سلطة باريس في نيسان/ أبريل سنة 1961؟
ما حقيقة دور "الجيش السرّي الفرنسي" في الاعتراف بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم؟
إضرابات مستمرة
لم يكن وضع الطبقة العاملة في الجزائر أحسن حالاً من بقية فئات المجتمع الجزائري، فقد عانى "شغّيلة" الميناء من ضنك العيش، والإرهاق الشديد نتيجة ساعات العمل الطويلة، والأجور الزهيدة التي بالكاد تُسكت جوع عائلاتهم، وأدى ذلك إلى قيامهم بإضراب شبه مستمر، سواء اعتراضاً على وضعهم المعيشي وظروف العمل، أو تضامناً مع أشقائهم في النضال ضد القوة الاستعمارية الفرنسية، ومع شعوب العالم الأخرى، منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي.
بدأت هذه الإضرابات التي كان أبرزها في شباط/ فبراير سنة 1950، في ميناء وهران الذي استمر لمدة خمسة عشر يوماً، مع رفض العمال تحميل الأسلحة والعتاد على السفن الفرنسية المتجهة نحو فيتنام، في تضامن واضح بين الشعوب المستعمَرة. ثم في عام 1951، امتنع العمال عن تعبئة السفن الإنكليزية في ميناء الجزائر بالأسلحة احتجاجاً على المعاملة السيئة التي مارسها الإنكليز ضد المصريين.
وفي الثالث والعشرين من أيار/ مايو 1952، أعلن العمال إضرابهم تضامناً مع مقتل شابَّين على يد الشرطة الفرنسية في الشلف، في أثناء اجتماع كان يعقده مصالي الحاج، وفي الحادي عشر من آب/ أغسطس 1956، ضد الاعتداءات الفاشية من قبل أنصار "الجزائر الفرنسية" في شارع طيبة في القصبة في قلب العاصمة، كما يورد الباحث الجزائري محمد رباح، في مقالة منشورة له في صحيفة "الجمهورية الجزائرية" الناطقة بالفرنسية في الرابع من أيار/ مايو 2020.
الفجر الدامي
وفي الأول والثاني من أيار/ مايو 1962، دخل العمال في إضراب مفتوح ضد ظروف العمل وتعنّت الإدارة الفرنسية للميناء، مطالبين بتحسين أحوالهم وظروف عملهم غير الآدمية. تزامن الإضراب المعلن مع حالة وقف الإطلاق النار منذ الثامن عشر من آذار/ مارس من العام نفسه، وتوقيع معاهدة "إيفيان" التي أغضبت جناحاً من الضباط المتعصبين الفرنسيين وجماعة "الأقدام السوداء" ممن حملوا شعار "الجزائر فرنسية"، والذين عُرفوا بالجيش السرّي الفرنسي (O.A.S)، المتمرد على الحكومة الفرنسية، والذين وفقاً للصحافي أحسين سعيد، في مقالة منشورة على موقع "lechodalgerie"، في أيار/ مايو 2018، "مارسوا في يأس سياسة الأرض المحروقة، وكلما كان من الأفضل إفشال اتفاقات إيفيان، سعوا إلى عرقلة طريق الجزائر نحو الاستقلال".
وفي صبيحة الثاني من أيار/ مايو، وأمام مكتب التوظيف في الميناء، وفي أثناء احتشاد العمال (نحو ألف عامل مع النساء والأطفال)، وفي تمام الساعة السادسة صباحاً، انفجرت سيارة (شاحنة) مفخخة بالمسامير والخردة بالقرب من الميناء مخلفةً ما يقارب 63 قتيلاً، و110 جرحى أصيب بعضهم إصابات خطيرةً أدت إلى وفاة بعضهم، وفقاً لما يذكره تقرير لموقع "Algeria watch" في كانون الأول/ ديسمبر 2009.
رواية أخرى، يسردها الصحافي الجزائري محمد عرب، في مداخلة له عبر الإذاعة الجزائرية، قائلاً: "في ذلك اليوم، حوالي الساعة 6:10 صباحاً، بعد 10 دقائق من التوظيف، فوجئ ما بين 1،200 إلى 1،300 عامل رصيف كانوا ينتظرون، كما في كل يوم في الوقت نفسه، لأخذ تذكرة عملهم، بانفجار قوي، وحطام سيارة ممزقة والشظايا التي احتوتها". ويتابع قائلاً: "'الأكثر بغضاً' قيام فاشيو الـO.S.A المتمركزين على أسطح الأبنية المجاورة للميناء، بإطلاق النار على الناجين بالمسدسات والرشاشات، حتى أنهوا بعض الجرحى".
حفاظاً على "الجزائر الفرنسية"
أعلنت الأمم المتحدة في دورتها العاشرة في كانون الأول/ ديسمبر 1960، حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، لتبدأ مظاهرات من أنصار الجبهة الوطنية الفرنسية، رافضة للقرار الأممي، متهمين ديغول بـ"الخيانة"، وحلّ ما يُسمى بـ"جبهة الجزائر الفرنسية"، وليتأسس بعد مشاورات عديدة بين الجنرال المعارض راؤول سالان (1984-1899)، في إسبانيا، والجنرال لغيارد والكاتب جون جاك سوزيني، الجيش السرّي في الحادي عشر من شباط/ فبراير 1961، كما يورد حماميد حسنية في كتابه "المستوطنون الأوربيون والثورة الجزائرية (1954-1962)".
وكان من المنضوين في لواء الجيش المُتهم بالفاشية وممارسة الإرهاب بكل أشكاله والذي رفع شعار "تحيا الجزائر الفرنسية"، خليط من المغامرين المدنيين والعسكريين والناشطين السياسيين والجنرالات من أبرزهم شاتو روبارت، النقيب غلاسير، والملازم بارنار. ومع إذاعة خبر استئناف المفاوضات بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الوطني (G.T.O)، في السابع من نيسان/ أبريل 1961، أعلن الجنرالات في الجزائر انقلابهم، وسيطرة الـ"O.A.S" على الشؤون المدنية للأوروبيين في الجزائر، وشرعوا في تنفيذ سلسلة من التفجيرات للسيطرة على العاصمة والمباني الإستراتيجية فيها، ومراكز الشرطة والأسلحة والعتاد وعلى أكبر فندق في البلاد، ويخرج ديغول في خطاب بعد يومين معلناً الحرب على الانقلابيين، قائلاً: "إنه لأمر غريب أن أجد نفسي دائماً مجبراً على محاربة من كانوا أصدقائي"، كما يذكر حماميد حسنية في المرجع السابق.
دام التمرد أربعة أيام وثلاث ليالٍ، وأفضى برغم فشله إلى اختراق المؤسسة العسكرية، واتساع الهوة بين الفرنسيين في فرنسا وأوروبيي الجزائر، وإعلان الـO.A.S بعد ذلك في بيان "ابتداء الحرب"، كما يذكر تواتي دحمان في كتابه "منظمة الجيش السرّي ونهاية الإرهاب الاستعماري الفرنسي في الجزائر".
لماذا تم اغتيال الجزائريات العاملات في البيوت الأوروبية في أثناء توجههن إلى عملهن صباحاً؟
"نهاية أسطورة"
بعد ذلك، ومع اقتراب موعد وقف القتال في الجزائر، الذي أثمر توقيع اتفاقية إيفيان في التاسع عشر من آذار/ مارس 1962، والتي كانت بمثابة النهاية لأسطورة "الجزائر الفرنسية"، لجأت الـO.A.S إلى تصعيد عمليات التدمير التي تبنّت سياسة الأرض المحروقة والإرهاب عبر استخدام المفخخات والمتفجرات في الأماكن العامة والساحات والأسواق، واستهداف الناس عن طريق القنص، كما ورد في توجيهات الجنرال سالان، وكما يذكر محمد قنطاري في مقالته "عيد النصر" في 19 آذار/ مارس 1962، المنشورة في مجلة الذاكرة.
أولى تلك العمليات كانت في العشرين من آذار/ مارس، بقصف ساحة الحكومة في القصبة الصغرى التي أودت بحياة 24 شخصاً، و50 جريحاً. وفي الثالث والعشرين من الشهر نفسه، قامت بالهجوم على وحدات الجيش الفرنسي وتجريد عناصره من السلاح، لتمتد العمليات إلى سائر الجزائر وعلى رأسها وهران التي كانت تُسمّى "عاصمة الأوروبيين"، والتي تخللتها مظاهرات منددة باتفاقات إيفيان، ترفع شعارات مناهضةً لحكومة فرنسا مثل: "لا الحقيبة ولا التابوت بل التقسيم".
وشهدت الأشهر اللاحقة حتى شهر تموز/ يوليو، تاريخ إعلان الاستقلال الوطني الجزائري، عمليات إرهابيةً وصل عددها إلى 2،500 عملية، مخلفةً آلاف الضحايا الأبرياء بين قتلى وجرحى، كان أبرزها إلى جانب جريمة الميناء، اغتيال النساء الجزائريات العاملات في البيوت الأوروبية في أثناء توجههن إلى عملهن صباحاً، في ما يُعرف بـ"جريمة فاطمة"، وحرق المكتبة الوطنية في الجزائر وإتلاف ثلاثمئة ألف كتاب ومخطوطة بالإضافة إلى تدمير المبنى بالكامل في السابع من حزيران/ يونيو. وزيادةً على كل ما سبق، ما يشير إليه محمد شوقي في أطروحته "أبرز القيادات السياسية والعسكرية في الثورة الجزائرية (1954-1962)"، من صور وحشية لإرهاب المنظمة وما قام به الضابط بيريز الذي كان يمتلك عيادةً في "باب الواد" لها قاعة تحت الأرض تجري فيها مذابح التعذيب الوحشية على طريقة "محاكم التفتيش"، حيث يتم استخدام مادة الأسيد لإزالة آثار جرائمه الفاشية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع