في صباح يومٍ مشمسٍ من فصل الصيف ذاك، وبينما كانت العصافير تزقزق والزيزان تغني ألحانها الصيفية، وفيما كنا على الصبحية مع أمي وجارتنا، أخبرتهنّ أنه من حقّهنّ أن يشعرن بالنشوة كل مرة يمارسن فيها الجنس. فجأة سكتت العصافير وصمتت أصوات الطبيعة، غابت الشمس بثوانٍ وانقطع الأوكسيجين وتوقف الزمن، وانفجر رأس أمي ورأس جارتنا معاً من وقع الخبر.
لنرجع نصف ساعة إلى الوراء.
في يومٍ مشمس صيفي، تلقت أمي دعوةً من جارتنا لشرب القهوة. وعندما قالت لها أمي إن ابنها الأصغر أتى من فرنسا ليمضي عطلته الصيفية، أصرّت "تنت سميحة" أن أشارك الصبحية معهما.
الجارة سميحة امرأة بغاية اللطف والرقة، كتومة تستحي، وكما نقول باللبناني "بتحمل تقلة". كنت أحب أن ألبي دعوتها على الصبحية، فكنا نعرف أخبار الحي حول جلسة قهوة تتحوّل بسرعة برق لترويقة من كل الأصناف والأجناس بمجرد ظهوري. كانت أمي وجارتها تتحدثان عن الطبخ، الحماوات، الأولاد وعظة أبونا فؤاد نهار الأحد، وغيرها من المواضيع الشيقة. وتستفيد جارتنا من غياب زوجها في النهار حتى تفشّ خلقها وتتحدّث بحرية عنه وعن أمه غريبة الأطوار، ثم بعد الحديث تبدأ بالبكاء آسفة على زواجها من رجل لا يشبهها بأي شيء ولا يتمتع بأي رقة أو حنية.
يجدر القول إن عمّو بطرس يعمل في الصخر. وهو فعلاً يشبه عمله: ضخم كبير يسدّ الباب عند دخوله، يأكل بشراهة ليملأ كرشه الكبير. أحياناً أتخيل الصخر يخاف من ضربته لكبر يده وقبضة كفه، فتظهر سميحة صغيرة نحيفة ناعمة مع شعرها المصفّف، كرسمة الكاريكاتور أمامه.
ولكن هذا اليوم، لم نتكلم عن عمّو بطرس، فقد غطسنا فوراً بالموضوع الحدث، نجمة المهرجان الصيفي، لؤلؤة الحارة وقنبلتها المؤقتة: غندورة. لا أعلم ما إذا كان أحد يعرف اسم غندورة الحقيقي، أو من أين أتت عائلتها لتستأجر في منطقتنا ذاك الصيف، فلا أحد رحّب بهم أو وجه لهم أي كلمة إلا… شباب الحي.
فيما كنا على الصبحية مع أمي وجارتنا، أخبرتهنّ أنه من حقّهنّ أن يشعرن بالنشوة كلّ مرة يمارسن فيها الجنس. فجأة سكتت العصافير وصمتت أصوات الطبيعة، غابت الشمس بثوانٍ وانقطع الأوكسيجين وتوقف الزمن، وانفجر رأس أمي ورأس جارتنا معاً من وقع الخبر
سميت غندورة بهذا الاسم من قبل شباب الحي، لأنها كانت تمشي مشية دلوعة مع ابتسامة تظهر غمّازيتها الجميلتين، وطبعاً تجري الأحاديث في الحي عنها قائلة إنها تتواجد في سيارات مختلفة كل مرة مع شاب مختلف. ولكن لم أثق بهذا الصيت، فكثير من صديقاتي ومن مراهقات الحي كن عرضة لنفس الأحاديث حول ركاوي القهوة الثرثارة، وخاصة من قبل نساء نسين أنهن فعلن الأشياء نفسها في صباهن.
كان الحديث يسلّيني وأنا أستمع لأخبار العائلة الجديدة، إلى أن دعت الكلمة الكبيرة نفسها على الطاولة. كان لا بد من أن تزورنا ولو حتى مرور الكرام لتقلب الطاولة ومن عليها. فقد نقلت سميحة حديث إحدى الجارات عن غندورة، قائلة بصوت خافت خجول: "قالت عنّا شرموطة."
ما إن وقع صوتها في أذني، حتى ركض الجنين في بطني وخرجت من دوري، كمستمع الراديو الذي اتصل بالمذيعة ليقوم بمداخلة.
أنا: "ست سميحة نهارك سعيد"
تنت سميحة: "نهارك أسعد، مين معنا؟"
أنا: "معك شربل"
تنت سميحة: "يا هلا! من وين عم تحكينا أخ شربل؟"
أنا: "والله عم بحكيك من فرنسا"
تنت سميحة: "تحية لإلك ولكل أهل فرنسا. كيف الطقس عندكن؟"
أنا: "شيلك من الطقس هلق، ست سميحة بدي عذبك، بخصوص استعمالك للفظة شرموطة"
تنت سميحة: "نعم أخ شربل، ماذا عن هذا الاستعمال؟"
أنا: "يا ريت ما نعيّر العالم بنشاطا الجنسي"
تنت سميحة: "شو بتقصد؟"
أنا: "هيدا بالأجنبي منسمّيه slut shaming، يعني نزغر المرا وما نشوف منا إلا إقبالا عالنشاط الجنسي، ونهينا فيه، أكيد"
تنت سميحة: "اه، فهمت عليك"
فتدخل أمي على الخط وتعكر صفوة الحديث قائلة: "ست سميحة معليش بلا مقاطعة عن حديثكن بس إنو يعني مظبوطة هاي تروح مع شاب وتجي مع غيرو؟".
هزت برأسها سميحة موافقة كمن تذكّر حجّة ولو بعد وقت، فشمّرت عن زنودي وأصررت أن أبدأ بأطروحتي المدافعة عن المغدورة غندورة في محكمة الصبحية العليا.
"سيداتي القضاة، تنت سميحة وماما، حضرات المستشارين العصافير والزيزان،
جئنا إليكم نطلب العطف على موكلتي (دون توكيل) الصبية غندورة، وذلك للأسباب التالية: أولاً، ما خصكن شو بتعمل بجسما. هي حرّة أن تذهب وتأتي مع من تشاء وإنتو ما خصّكن.
ثانياً، كما قلنا مسبقاً، لا يجوز تعيير المرأة حسب تلبيتها للذاتها الجنسية. وحتى إذا كانت تتلقى أجوراً مقابل ممارسة الجنس، فهذا يجعلها عاملة جنس وليست عاهرة.
ثالثاً، إن كلمة (شرموطة) استخدمت كثيراً على طوال السنين لتحقير كل امرأة، كأن حصولها على اللذة الجنسية هو أمر معيب يقلّل من قيمتها ويجعلها دون الرجل، الذي من حقه أن يتمتع بحياته الجنسية كما يحلو له.
سينتهي السكس، ستزول أيامه، وربما الحب قد يزول أيضاً، ولكن كما يبقي الاحترام واللطف والتواصل الصحي، يجب أن تبقى المداعبة والملامسة وحب الاقتراب والحميمية مع جسد الآخر! فهذا ما يطلق هرمونات السعادة ويؤكد صحة الحياة الزوجية وجمالها
رابعاً، لا يجدر بامرأة أن تشعر بالخجل لممارستها الجنس. إحدى صديقاتي لا تقبل الخروج مع شاب لا يتأكد من وصولها إلى النشوة قبل وصوله إلى نشوته. فمن حقها ومن حقكن يا تنت سميحة ويا ماما أن تشعرن باللذة الجنسية كل مرة تمارسن فيها الجنس."
وهنا انفجر رأسا أمي وتنت سميحة. عندما عاد مجرى الهواء بعد الصاعقة قرّرت إضافة طبقة جديدة لنجاحي قائلاً بفخر: "يا تنت سميحة، عمو بطرس بيجي بينام فوقك، بيروح وبيحي وبيعمل عملتو وبيخلص وبينام. وبتبقي وحدك انت مش حاسة بشي غير القرف، إذا شي. يحق لك أن تطلبي بالاستمتاع أيضاً. إنو ليش وحدو بدو يستمتع؟"
سكتت أمي ثم نظرت مرتبكة إلى تنت سميحة قائلة: "هاو تعلمن من ورا علم النفس!"
وأكملت مرافعتي قائلاً: "لو جربت تنت سميحة ممارسة الحب مع عمو بطرس قبل الزواج، كانت لتعلم أنهما غير متناغمين جنسياً"
هبت أمي قائلة: "شو كل شي بالعلاقة سكس؟"
"لا يا ماما، مش كل شي بالعلاقة سكس، إنما هناك بعض الأجساد التي لا تتناغم مع بعضها بغض النظر عن الجنس. هي مسألة بشرة وملمس. هل تحبين ملامسة بشرة زوجك؟ هل تحبين عندما يلامسك ويداعبك؟"، فردت تنت سميحة بنبرة قرف موافقة: "بتبقى البشرة بتعرق ومدري كيف…".
أجل! هذا ما أتكلم عنه. سينتهي السكس، ستزول أيامه، وربما الحب قد يزول أيضاً، ولكن كما يبقي الاحترام واللطف والتواصل الصحي، يجب أن تبقى المداعبة والملامسة وحب الاقتراب والحميمية مع جسد الآخر! فهذا ما يطلق هرمونات السعادة ويؤكد صحة الحياة الزوجية وجمالها.
فسكتت أمي ثم نظرت مرتبكة إلى تنت سميحة قائلة هذه المرة: "هاو تعلّمن بفرنسا".
ساد الصمت، ودفنّا ذاك الموضوع في تلك الصبحية، وإلى الأبد.
وأتساءل أحياناً، ربما كانت تنت سميحة (أو حتى أمي) أخصائية بالنشوة النسائية، تصل إليها مع زوجها في كل مرة،؛وفي اليوم التالي، تملأ الصبحية أحاديث مفيدة ومعلومات ساخنة عن الوصول إلى النشوة من الإيلاج أو عن كيفية تحفيز البظر وغيرها من تقنيات وأسرار التخت. في هذه الحال، أكون على الأقل ساهمت في تحسين صورة غندورة. ولكن هي أيضاً لم تطلب مني أي شيء! رغم ذلك، عدت إلى أوروبا بعد انتهاء العطلة وأنا أتباهى أمام صديقاتي وأصدقائي النسويين بهذا الحديث.
كانت هذه المرة الثانية والأخيرة التي أتكلم فيها عن موضوع جنسي مع ماما.
المرة الأولى كانت في عمر الثانية عشر، عندما سألت أمي كيف يأتي الأولاد، وأجابت مستحية: "بيصلّو". ثم أنظر إلى نفسي بعد 15 عاماً وأنا أكسر التابو وأكسر الصمت وأكسر تقوى أمي وتحفّظها، بالحديث عن النشوة النسائية، ولست أعلم ماذا حققت، إنما أقول أنني على الأقل استطعت أن أسمّي الأشياء كما هي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...