تزايد الاحتقان الشعبي في الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة الموالية لتركيا، بعد حادثة اعتقال ناشط في مدينة الباب في ريف حلب، جرى توقيفه بسبب إزالته لافتةً تحمل اسم ضابط تركي من إحدى مدارس المدينة الابتدائية. وكان الناشط خليل أبو شيخو، قد قال في منشور على حسابه في فيسبوك، إنه كمواطن سوري "يعتزم إزالة الاسم الجديد للمدرسة".
ويأتي ذلك بعد تغيير المجلس المحلي في المدينة لاسم المدرسة من "آمنة بنت وهب" (والدة النبي محمد)، إلى "الشهيد" التركي "دوران كسكين".
الاحتقان الشعبي والدعوة إلى التظاهر أدّيا إلى إطلاق سراح الناشط أبو شيخو بعد ساعات من اعتقاله، لا سيما أن خطوة المجالس المحلية بتغيير أسماء المدارس والأماكن العامة إلى أسماء تركية لم تحظَ بأي قبول شعبي، خاصةً أنها جاءت بالتزامن مع إزالة السلطات التركية لافتات مكتوبةً باللغة العربية في عدد من الولايات التركية التي تديرها المعارضة التركية.
استفزاز... ورفض شعبي
خطوة المجالس المحلية بتغيير أسماء المدارس والأماكن العامة إلى أسماء تركية لم تحظَ بأي قبول شعبي.
الناشط في مدينة الباب معتز ناصر، رأى أن "هذا الموقف الشعبي بالرفض والدعوة إلى التظاهر هو تصرف طبيعي جداً ومتوقع في سياق اللا مسؤولية من قبل المجالس المحلية المعيّنة تركياً، لكن توقيته محل استغراب، وكأنه يراد إشعال فتنة بين السوريين والأتراك داخل تركيا وخارجها"، مضيفاً لرصيف22، أنه "لا يمكن لأحد أن ينكر التضحيات التركية، ولا يمكن نسفها، لكن نرفض وبشدة أي محاولة تحريف لهويتنا، أو لقيمنا الدينية والسياسية، وننظر إلى تركيا على أنها دولة جارة وحليفة، ونتطلع إلى علاقات أفضل معها تقوم على مبدأ الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة".
ويعيش الشمال السوري حالة غليان وتذمّر بسبب سوء أوضاعه السياسية والمعيشية، خاصةً مع وقف تدفق المساعدات الأممية عبر معبر الهوى، وما لحق ذلك من استهلاك المخزون الإستراتيجي الموجود في الداخل السوري واستنزاف كبير لعمل المنظمات الإنسانية.
يُحمّل ناصر السلطات التركية قسماً كبيراً من المسؤولية عما آل إليه الوضع المعيشي في الشمال السوري المتدهور منذ 2017 حتى اليوم، لافتاً إلى أن "انتفاضات السكان فيه بدأت منذ عام 2019، ولم تتوقف حتى اليوم، لأن سياسات تركيا في الملف السوري بالنسبة لكثيرين تأخذ مساراً مستفزاً للشعب السوري بشكل أوضح يوماً بعد آخر، وإلى الآن يحاول عقلاء الطرفين إغلاق الفجوات التي تتسع وتتسع، ويُخشى أن تكبر حتى تبتلع كل الرصيد الإيجابي لتركيا، وتحوّل السوريين من مناصرين لتركيا، إلى معادين لها، وهذا ليس في مصلحة تركيا أو السوريين".
طمس هوية المنطقة
حادثة تغيير لافتات المدارس وغيرها من المراكز العامة، وما سبقها من ممارسات أخرى، يراها كثر من المدنيين محاولات تتريك ممنهجةً، وتغييراً للطابع العام في المنطقة وطمساً لهويتها وإبعاداً لها بشكل كبير عن النسيج الاجتماعي والثقافي السوري، خاصةً أن تلك الممارسات تتزامن مع حملات إزالة السلطات التركية لافتات مكتوبةً باللغة العربية في عدد من الولايات التركية من جهة، وحالة استعصاء سياسي وشلل في الملف السوري، وتهافت تركي للتقارب مع نظام الأسد، الأمر الذي عزّز الاحتقان من أي قرار يستهدف خصوصية انتماء السوريين وهويتهم في الشمال السوري.
من المدارس والأماكن التي تم تتريك أسمائها: مدرسة آمنة بنت وهب في مدينة الباب وتم تحويل اسمها لتصير مدرسة دوران کسکین، كما أطلق اسم "بولانت آل بيرق" على مدرسة ابتدائية في مدينة الباب، وهو اسم ضابط تركي قُتل خلال العمليات العسكرية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في المدينة شرق حلب، وتم تغيير اسم مدرسة البنات الابتدائية في بزاعة إلى مدرسة أوتدار بينار، ومدرسة الثورة تم تحويل اسمها إلى مدرسة عكاش فراجة، ومدرسة ميسلون إلى فخر الدين باشا، ومدرسة سوسيان الابتدائية إلى کوکنان أوزيك، ودوار ساحة مبنى السرايا وسط مدينة عفرين، أصبح اسمه ساحة رجب طيب أردوغان، وحديقة الشهيد عمار الداديخي في أعزاز تم تحويل اسمها إلى حديقة الأمة العثمانية، كما أطلق المجلس المحلي لأعزاز على روضة أطفال اسم روضة السلطانة عائشة.
بدورها أدانت "نقابة المعلمين السوريين الأحرار" (مقرّها شمال سوريا)، إعادة تسمية المدارس في مناطق ريف حلب الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني السوري المعارض، مشيرةً إلى تغيير أسماء عدد من المدارس في مدينتي الباب وبزاعة من أسماء عربية بمدلولات تاريخية ودينية إلى أسماء تركية.
نرفض وبشدة أي محاولة تحريف لهويتنا، أو لقيمنا الدينية والسياسية، وننظر إلى تركيا على أنها دولة جارة وحليفة، ونتطلع إلى علاقات أفضل معها تقوم على مبدأ الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة
وقالت النقابة في بيانها، إن هذه الخطوة تشير إلى "عدم احترامٍ لثورة ولشعب قدّم أكثر من مليون شهيد ومئات الآلاف من المعتقلين والمصابين والملايين من المهجرين"، مطالبةً الفعاليات المدنية والثورية في الباب بالضغط على مديرية التربية لإعادة أسماء المدارس كما كانت، وفتح تحقيق ومحاسبة المسؤولين عن الإجراء.
يلفت عضو مجلس فرع حلب لنقابة المعلمين الأحرار، عمر ليلى، إلى أن هناك إشرافاً واضحاً من الجانب التركي على قطاع التعليم في شمال سوريا من حيث طباعة المناهج وتعديلاتها والامتحانات والخطة الدراسية التي تفرض تعليم اللغة التركية في المدارس بدءاً من المرحلة الابتدائية، وبعدد حصص موازٍ لحصص اللغة العربية تقريباً، بالإضافة إلى تهميش اللغات الأجنبية بشكل كبير والاهتمام بتعيين مدرّسين للّغة التركية مقابل إهمال تعيين مدرّسين للغات أخرى، و"الجانب التركي لا يدعم القطاع التعليمي لوجستياً ومادياً، لكنه يشرف عليه ويوجهه وفقاً لمصالحه".
وبحسب ليلى، فإن تغيير أسماء المدارس والأماكن والشوارع وغيرها في الشمال السوري، يؤدي إلى ضياع جيل كامل، بالإضافة إلى طمس الهوية التاريخية التي تميّز المنطقة.
ويُعدّ التعليم أولويةً للإدارة التركية في الشمال السوري، إذ تشرف وزارة التعليم التركية على نظام التعليم ككل وعلى مديريات التربية السورية، ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2019، افتتحت تركيا ثلاث كليات في سوريا كجزء من جامعة غازي عنتاب، تديرها هيئة التدريس، وهي كلية العلوم الاقتصادية والإدارية في الباب، ومدرسة الدراسات الإسلامية في أعزاز، وكلية التربية في عفرين، بالإضافة إلى افتتاح مركز "يونس آمره" المعني باللغة التركية وتعليمها، ومركز الأناضول في مدينة عفرين.
"المجالس المحلية"... سياسة موجهة
لا يمكن إنكار أن منطقة شمال سوريا الخاضعة للإدارة التركية تأخذ طابعاً تركياً على المستويات المدنية والخدمية والأمنية، إذ يرى بعض الأهالي أن الواقع القائم ما زال يشكل حالة أمان من نظام الأسد، كما ينظرون بعين الارتياح إلى النشاط التركي الذي بات يشكل حالةً إيجابيةً وعاملاً مطوِّراً للمناطق النائية، خاصةً أنه ساهم بشكل ملاحظ في توفير الوسائل لإنجاز مشاريع إستراتيجية.
يعيش الشمال السوري حالة غليان وتذمّر بسبب سوء أوضاعه السياسية والمعيشية، خاصةً مع وقف تدفق المساعدات الأممية.
من جهة أخرى، يلاحَظ العمل على إجراءات اقتصادية وتجارية وإدارية كالتداول بالعملة التركية بدلاً من العملة السورية، وافتتاح مراكز لمؤسسة البريد التركي (PTT)، ودعم تشكيل المجالس المحلية التي لعبت دوراً خدمياً كبيراً في تأمين متطلبات الأهالي في مجالات مختلفة، مثل الصحة والإغاثة والتعليم، بدعم مباشر من الولايات التركية الجنوبية، المقابلة لكل مجلس على الطرف الآخر من الحدود، مثل ولايات كلّس وهاتاي وغازي عينتاب، في ظل غياب أي دور للحكومة السورية المؤقتة، والتي يقتصر ظهورها على الدور الفخري فقط، وهو ما يفسر سرعة قيام المجلس المحلي المرتبط ارتباطاً عضوياً تاماً بولاية عينتاب بتقديم شكوى بحق الناشط شيخو، بتهمة إنزال اليافطة التي وُضعت بشكل رسمي.
تواصل رصيف22، مع وزارة التربية والتعليم في الحكومة المؤقتة المعارضة للسؤال عن حيثيات القصة، إلا أن وزير التربية والتعليم جهاد حجازي، اعتذر عن الرد بسبب ما أسماه "الانشغال"، مشيراً إلى أنه يمكننا التوجه بالاستفسار عما يخص القضية إلى المجالس المحلية، فقمنا بالتواصل مع المجلس المحلي في مدينة الباب، إلا أننا لم نتلقَّ منه أي تعليق على أسئلتنا لغاية تاريخ نشر هذا التقرير.
يقول يحيى العريضي، وهو كاتب وسياسي سوري شغل سابقاً مناصب عدة في المعارضة السورية، إن تركيا لا تهتم إلا بتراثها وتاريخها ولغتها، وإنه غير مطلوب منها الاهتمام بلغة أخرى أو احترام تضحيات دولة أخرى، وفي المقابل فإن "المعارضة السورية الحالية باتت منبطحةً ومرتهنةً للقرار التركي ولا حول ولا قوة لها، معللاً السبب بوجود مصالح فردية وأن الثورة والمعارضة ليستا أكثر من وظيفة فقط، والحقوق باتت قضية شأن عام يتم الالتفات إليها موسمياً وللاستعراض".
ويشترك عضو مجلس فرع حلب لنقابة المعلمين، عمر ليلى، مع العريضي في موقفه من المعارضة، إذ يشير إلى أن إصرار المجالس المحلية المدعومة تركياً على هذا التصرف يأتي كتقديم خدمات مجانية لها، وهو ما سيخلق صدامات بينها وبين الرافضين لهذه المنهجية.
من جهته، يرى الناشط ناصر، أن قرار المجالس المحلية بتغيير أسماء المدارس إلى التركية لا تجرؤ على اتخاذه من ذاتها دون إيعاز من الجانب التركي، ومع ذلك فهذا لا ينفي مسؤوليتها عن تمريره دون أدنى اعتراض، مضيفاً أننا "كسوريين نتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية لسببين، أولهما فشلنا الداخلي في إيجاد جسم مركزي يمثل الثورة، ويفرض أجنداتها، والثاني أننا وثقنا بتركيا أكثر من اللازم بكثير، وحمّلناها فوق طاقتها، لكن ذلك لا يعفي الأتراك من مسؤوليتهم، ومن أخطائهم في الملف السوري، التي قد تكون تماهياً مع إرادات أطراف أقوى كروسيا والصين وإيران، أكثر منها أخطاء عفوية".
المعارضة التركية وحملاتها ضد اللغة العربية
اشتدت حملة السلطات التركية المحلية مؤخراً على اللغة العربية في الولايات المختلفة، عبر إزالتها كل اللافتات المكتوبة باللغة العربية وتجاهلها اللافتات المكتوبة باللغات الأخرى، ويمكن ملاحظة أن البلديات الموالية لحزب "الشعب الجمهوري" العلماني المعارض، كبلديات إسطنبول وبورصة ومرسين وغيرها، تلعب الدور الأبرز في هذه الحملة، ما يعني تسعير الخطاب العنصري والتحريض الممنهج على العنصر العربي ومن ضمنه اللاجئون، ليس هذا فحسب بل تعدى الأمر إلى إطلاق إيلاي أقصوي، نائبة رئيس الحزب الديمقراطي لشؤون الهجرة والسياسات الاجتماعية، لقب الإرهابي على الناشط أبو شيخو، محتجةً على إطلاق سراحه، بعد إعادته لافتة المدرسة التي تحمل اسم آمنة بنت وهب، وسبق لها في آذار/ مارس 2019، أن انتقدت عبر مقطع فيديو في تويتر، وجود كتابة باللغة العربية على واجهات المحال في حي الفاتح في إسطنبول، قائلةً: "لن أسلّم الفاتح للسوريين".
تقوم المجالس المحلية بتغيير أسماء المدراس والشوارع، من العربية إلى التركية. تبحث عن شخصيات تركية تاريخية لتسقطها على مدرسة أو دوّار. فلماذا كُل هذه التبعية وما دوافعها؟
لا شك في أن هذه الخطوة مع ما تحمله من إشارات استفهام عديدة، تهدف وفق الحزب المعارض إلى الحفاظ على الهوية التركية، برغم ما يعتري ذلك من تساؤلات حول إزالة اللافتات المكتوبة بالعربية دون غيرها من اللغات، وهو ما يعزز وبشكل أكبر تنامي المشاعر القومية والاتجاهات الفكرية التي تبنّاها حزب الاتحاد والترقي التركي بعد سقوط الدولة العثمانية في دعوته الأتراك إلى توحيد ذوي الأصل التركي، ومحاولة فرض التتريك على رعايا الدولة من قوميات أخرى، والمطالبة بتنقية اللغة التركية من الشوائب التي أدخلتها القوميات غير التركية، خاصةً العرب والفرس.
يرى الباحث التاريخي عبد الله قويدر، أن "العلمانيين بشكل عام يعدّون الصراع الفكري مسألةً جوهريةً وخطاً أحمر، لذلك يقفون بحزم وشدة تجاه بعض النقاط"، مرجحاً "تنامي الخطاب العنصري الموجود اليوم وتعدد أشكاله بسبب الوضع الاقتصادي والتضخم، لأن وجود المهاجرين واللاجئين ليس بجديد، فهم انغمسوا في الحياة والروتين الإنتاجي ولا ضرر في وجودهم أو أثرهم، خاصةً العرب. في المقابل فإن الحكومة لم تقُم بسنّ قوانين تجرّم العنصرية، ولا بإدارة ملف الأجانب بحِرفية".
ويوضح قويدر لرصيف22، أن "الأحداث العنصرية لا يمكن النظر إليها تاريخياً، ولا يمكن وضع اللوم على فئة حزبية، أو شريحة اجتماعية محددة، فالأتراك العثمانيون خلال حكمهم للبلدان العربية لم تكن لديهم القوة الثقافية المؤثرة ولم يتركوا الكثير من الأثر كعنصر تركي".
ويبدو أن الكل يستثمر في ملف العرب واللجوء، إذ بات الخطاب العنصري أداةً حزبيةً تستخدمها الأطراف كلها في الصراع البرلماني أو الحزبي، فالممارسات العنصرية تعرّض لها أيضاً الأتراك المحافظون لأن جوهر القضية العداء الفكري بين تيارين؛ إسلامي عثماني محافظ، وتغريبي تنويري، والاستثمار السياسي والتضخم الاقتصادي الحاصل.
يختم قويدر حديثه بالإشارة إلى أن "الشعوب التي تقف وراءها حكوماتها وتحفظ كرامتها لا يمكن أن تكون لقمةً سائغةً أو بلا قيمة أو احترام، إذ نلاحظ أن الخطاب موجه بشكل خاص نحو السوريين والأفغان، لأن دولهم لديها مشكلات، وضعف الدولة ينعكس على شعوبها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...