شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
اعتراف رجل سوري لابنته الوحيدة

اعتراف رجل سوري لابنته الوحيدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحريات الشخصية

الجمعة 11 أغسطس 202312:55 م

هل تعرفين يا ابنتي، وقد تجاوزتِ عامك الخامس، مصاعبَ كتابة رسالة لا أعرف كيف ستصلك؟ وفي أي حال ستكونين وأكون وقتَها؟ يا لها من رقابة هائلة أمارسها على بدايتي هنا، وقد جئت بك وأمك إلى عالمٍ ووطنٍ ومجتمعٍ ستكون ياء نسبتك إليه من ياء أمك ويائي.

لا أذكر اليوم الذي تمنيت فيه أن تكون لدي ابنة. ما أعرفه أنه ما تملّكتني هذه الأمنية إلا رغبةً في بنت، وليس في صبي! لا أعرف سبب هذا الاختيار المنحاز مسبقاً إلى جنسك! هل لأنني كنت البكر بين ثلاثة ذكور في عائلة لم يحالفها الحظ بأنثى؟ أم هو ذلك التعاطف مع حال المرأة المؤلم في مجتمعنا الذي ورثته من حبي لأمي ومسؤوليتها في تربيتي؟ أصدقك القول إنها قضية لم أكترث يوماً للإجابة عن جانبها الشخصي.

ستكبرين يا ابنتي وسوف تجدين أن الإنسانية بمعظمها دونك في الخيال والتعاطف والحب والتفاؤل. ستجدين أن العدوانية والتحاسد وكراهية المختلف والحلول التدميرية هي للأسف دين البشرية الجديد

نتحدث بفخر يا ابنتي عن أننا في القرن الواحد والعشرين، وبحكم تقدّم العلم والمعرفة تجاوزنا قروناً نصِف فيها أجدادنا بالتأخر واللا عقلانية، فندرس دهشتهم المعرفية أمام بيئتهم والكواكب والحياة ومظاهرها، بل نكون على مستوى من الوقاحة المعيبة حدَّ أننا نصف تلك الدهشة في كلمات وأسطر نطلق عليها تاريخ الإنسان أو الأديان، فالكثير مما كان يدهشهم لم يعد يثير فينا أدنى حس أو رغبة، وفي أقصى الأحوال نحسبها مشاعر خفيةً مجهولةً، فكيف أصف لك ذلك الإحساس بالدهشة عندما عرفت من الطبيبة أن أمك حامل! يا لجبروت تلك القدرة الطاغية على الخلق! يا لطغيان ذلك الإحساس الهائل الذي يبرر الغيبيات والآلهة والقوى الغامضة التي ركع أجدادنا أمامها ضامّين أيديهم إلى صدورهم باستسلام مطمئن. أمك حامل بك! وأنا السبب وراء ذلك الحدث! كم كان أجدادنا محقين في كل محاولاتهم لأنسنة الله وتأليه الإنسان منطلقين من حكمة أوغاريتية؛ "نهاية الزهو مخافة الآلهة".

يكتب الذكور يا ابنتي أن لذة الكتابة تشبه لذة الولادة! ولكن لذة الكتابة يتبعها ذلك الخواء المدوّي عندما ننتهي من كتابة ما نفكر فيه، ويفعل هذا الخواء فينا إلى درجة انعدام الرغبة في إعادة مطالعة ما كتبناه، أو إعادة مطالعته حتى الممل. اعترفت لأمك وأعترف لك، بأننا الحاسدون الأبديون للمرأة على مقدرتها على الإنجاب، وأن لذتنا التي تتوقف في الإنجاب عند التلقيح، تستمر عند المرأة في الحمل والولادة والإرضاع والتربية وإلى اليوم الأخير في حياتها كأمّ وجدّة.

عندما أخبرتنا الطبيبة في الشهور الأولى بأنك قد تكونين صبياً بسبب طولك غير المعتاد في عالم الأجنّة، أصابني الإحباط وتصنعت السعادة أمام الطبيبة وأمك. ولأن أمك تعرف أمنيتي، ولأنك أمنيتها أيضاً، اتفقنا على القبول بك وعلى ألا نترك أنانيتنا الخاصة تضطهد إنساناً لا إرادة له في القدوم إلى هذا العالم. وعندما عرفنا في الشهر الخامس أننا موعودون بفتاة، أترك لك أن تتخيلي السعادة وما فعلت فيّ نفساً وجسداً (وأنت ستشاهدينها)، وكيف غدوت عبيطاً ومنفعلاً إلى حد ما.

قرأت كثيراً في الروايات عن تلك الدموع التي تهطل من العينين دون تشنج في عضلات الوجه، وهي حال أصابتني مرةً واحدةً في حياتي، عندما حملتك بعد خروجك من غرفة العمليات. كنتِ ضعيفةً وهشةً بلا حول ولا قوة، وكان بكاؤك خافتاً ونظراتك باحثةً ومبهمة. وبين مراقبتي إياك من خلف الزجاج وانتظاري خروج أمك وقلقي عليها، عرفت تلك اللذة الأمومية في نفسي، وفهمت كيف حُرم الذكور منها. نعم، إن المرأة أمٌّ بحكم القوة، ولكن الرجل أبٌ بحكم التربية فقط.

هل تريدين أن أبرّر لك اختيارنا لاسمك أرمايا؟ لقد وُلدتِ في الوطن الذي حطمت أساطيره وآثاره المعجزة اليونانية والتوراة كوثيقة تاريخية للعالم. لقد وُلدتِ في الأمة التي أبدعت منطلقات الخيال والعلوم والحكمة. لذا كان اختيارنا أنا وأمك لاسمك من وجداننا وعقلنا معترفين للأجداد السوريين بفضلهم النفسي والمادي. كان الخلاف بيننا على الاسم؛ كنت أريد أمارجي، وهي كلمة سومرية تعني بمقاطعها الحرفية العودة إلى الأم واصطلاحاً الحرية، أما أمك فكانت تريد أرمايا الكلمة الأشورية للصياغة العبرية لكلمة آرام، والتي تقابلها في الأكدية أريمو وفي البابلية أريمي والتي تعني العلو والسمو. أردت أن يتذكر السوريون مع اسمك، المعنى الحقيقي للحرية في الحياة، وأنها العودة إلى احترام كل مؤنث ورحم وحضن في وجودهم. وأمك أرادت علواً سماوياً يؤنث المكان. فأصبحنا الابنة أرمايا، والأم أنانا، والأب محمد. يا لها من تركيبة.

تكتب أمك، منذ يوم ولادتك، على دفتر خاص مذكراتك اليومية، وكيف واجهت مصاعب الحياة وتحدياتها واكتشافاتها، وستعطيك هذا الدفتر في مراهقتك لتعرفي كما تقول زوجتي "كم استطاع الإنسان في طفولته مواجهة آلام الحياة ومصاعبها والمشكلات، وكم أبدع في ابتكار الحلول، ولكنه عندما يكبر ينسى كم كان بطلاً، ويشعر بضعفه ويصنع عجزه على أشكال تبريرات وأوهام". دفتر أمك الذي أصبح دفاتر، جعلني أخشع أمام عبقرية الأمهات في صناعة مستقبل أولادهنّ. أليس هذا الدفتر هو الألواح التي جاءتنا من أجدادنا منذ آلاف الاسنين؟

لقد جئت يا ابنتي إلى إنسانية تنظر إلى الأنثى نظرةً لا تمت إلى التقدير بصلة، وهو لا تقدير يزداد باطّراد مع ضياع معركة المرأة والرجل حول العالم. 

أما أنا، فمنذ أشهر بدأت بتدوين قصصك التي تشبه تكونات الأساطير القديمة، غثها وثمينها، وأتعلم منك القرابات العائلية بين الأشجار، وأسباب قرار الحيوانات المفترسة أن تصبح نباتيةً وتداعياته، ورؤيتك الخاصة لكيفية قدومك إلى العالم كفتاة وليس كصبي، والكم الهائل من أصدقائك الخياليين الذين تخبرينني عن حواراتك وألعابك معهم.

لقد جئت يا ابنتي إلى إنسانية تنظر إلى الأنثى نظرةً لا تمت إلى التقدير بصلة، وهو لا تقدير يزداد باطّراد مع ضياع معركة المرأة والرجل حول العالم. في وطننا يا ابنتي تسمع الأم الحامل بصبي، عبارات المباركة المترعة بألقاب الله والدعوات بالخلقة التامة، أما الأم الحامل بأنثى، فتسمع الدعاء بالقيام بالسلامة والخلقة التامة لابنتها، وأحياناً تكون قلة الحياء اللا واعية مختصرةً بعبارة "المهم الخلقة التامة"، كنوع من المواساة لخبر يفترض المبارك من تلقاء نفسه أنه خبر دون توقعات الوالدين. إنها كراهية الذات والنظرة الدونية التي تلقّاها الإنسان لذاته في طفولة بائسة. تذكّري يا ابنتي أن الإنسان عندما يحتقر ذاته ويكرّم الآخر أو المختلف، يحتقر الآخر حكماً.

ستكبرين يا ابنتي وستلمسين النتائج السلبية لعقلية الأهل الذين يقارنون، سلباً أو إيجاباً، بين أولادهم وأولاد الآخرين، وستتأكدين من الجوانب البائسة لهذا السلوك الذي يبتكر روح التنافس عند الأطفال، وتشاهدين مساوئ الحلول القسرية والعنيفة أمام تصرفات الأطفال بين أصدقائك وزملائك عندما تكبرين. ستشاهدين يا ابنتي كيف توجد الخيبة وانعدام الرضا في حياة شباب غير سعيد وقلق بمشاعر الاضطهاد والتنافس في مجتمعات بكاملها، كانت هكذا وهكذا ستستمر. فإذا لم تكن الطفولة يا ابنتي المدماك الأول لبناء الثقة بالنفس وتقدير الذات وحبها، فمهمة الأطباء النفسيين ستكون صعبةً جداً.

ستكبرين يا ابنتي وسوف تجدين أن الإنسانية بمعظمها دونك في الخيال والتعاطف والحب والتفاؤل. ستجدين أن العدوانية والتحاسد وكراهية المختلف والحلول التدميرية هي للأسف دين البشرية الجديد، ولا هم اسم الإله الذي أسبغ عليه هذا الدين، الله أو العلم أو الجنس أو الفن أو المال.

لقد تعلمت في الكتب يا ابنتي أن الطفولة هي المرحلة الأولى والحساسة لبناء النفس الإنسانية، ولكنني معك بدأت ألمس أبعاد هذه الفكرة القاسية، فالتعاطف واحترام كرامة الإنسان وخصوصيته ضعفاً وقوةً، والحب غير المشروط والإصغاء، هي كيفيات تربوية تنتج إنساناً متصالحاً مع نفسه ومحباً لها، وتالياً متصالحاً مع محيطه ومحباً له. وأصدقك القول يا ابنتي، بأن لا عبرة في كل ثقافة وعلم يكتسبهما الإنسان بعد تربية الأب والأم، في المدرسة والجامعة أو العمل، في تغيير تلك الدونية الكامنة البائسة في نفس صاحبها بسبب تربية الأب والأم إلا في قشور تنمق صورة صاحبها وتخدع من يحيطون به.

الأب والأم... العائلة إنها دين الإنسانية الأزلي التي ستجدينها في أسفل سلم أولويات أي إله سيكون حياً في زمانك.

لا أستطيع أن أنصحك يا ابنتي، فقد وُلدتِ لزمانٍ لا يشبه زماننا، وستحيين أحوالاً وأهوالاً لم نعرفها في حياتنا ولا تخطر لنا على بال. ستجدين حكمة القدماء تعجّ بالنواهي والتحذيرات المبتسرة، لا تفعلي ولا تفعلي، ولكن قبل ولادتي وأمك، كبرت الحكمة وأصبحت تقول: افعل كذا وافعل كذا. وستعثرين على قلة قليلة صالحة تقول لك لماذا وكيف يجب أن تفعلي. إن تَينك الـ"لماذا" والـ"كيف"، هما بصمتك الخاصة وهما بمثابة نواة الذرة الفاعلة في محيطها القريب والبعيد. إن تينك اللماذا والكيف هما ما توليه أمك بالتحديد وأنا، جل اهتمامنا لتكون أسئلتك متحررةً من الأوهام التي ستسمعينها وتلمسينها وستؤلمك، ولا هم في أي وطنٍ أو مجتمع كنت.

لا أستطيع أن أنصحك ولكني أستطيع ان أقدّم لك ملمحاً لنواميس الكون كما عرفتها ولمست فعلها، وقد تكون أكاذيب أو ترهات ساذجةً، ولكنها المحرّك الجبار الذي لطالما صوّب جنون البشرية بعد حفلات من فقدان العقل العام.

نحيا يا ابنتي على كوكب له ثورتان حاضرتان دائماً. الثورة الأولى: الطبيعة بتفاعلاتها وتقلباتها بين السماء والأرض على شكل فصول سنوية بتبدلات هادئة أو عنيفة تفرض نفسها على طبيعة الوجود الإنساني. فهي في ثورة دائمةٍ ومنذ مليارات السنين.

الثورة الثانية: وجود الإنسان على سطح الأرض وتفاعله مع المادة الماثلة أمامه، وهنا يختلف المفكرون في بداية هذه الثورة، فمن قائلٍ إن منطلقها انقسام الخلية الأولى أو اكتشاف النار أو ظهور الإنسان المنتصب أو الكتابة الأولى أو الأبجدية الأولى أو ركوب البحر أو الطيران أو ظهور دينٍ ما أو انتقال الصناعة من البيت إلى المصانع الكبيرة أو أو... إلى أي قفزة صنعتها البشرية في مادتها أو ستصنعها.

عندما قرأت وتأملت جبروت تاريخ هاتين الثورتين، وما بينهما من علة ومعلول، تعلمت أن آخر ما يحتاجه هذا الكوكب البائس، ثورة ثالثة من أي نوع ولأي غاية. أصبحت كلمات مثل الإصلاح والتغيير تقترب مما أشعر به تجاه ما نحياه في هذا العالم الذي لم يعد يطاق من ناحية، والثورات فيه لم تنتج إلا واقعاً أشد قبحاً من حاضرٍ تغنّت بانتصارها عليه. وفي مصادفة ما في حياتي الجامعية، تغاوت أمامي كلمة تُدعى النهضة! إننا نحتاج إلى النهضة التي هي المقدرة على إبداع وابتكار الحل أو البديل للمجتمع الإنساني أمام كل وضعٍ يستبدّ قائلاً: إنني والثبات من نواميس الحياة وأحكامها.

أحاول يا ابنتي أن أكون البديل أمام حقيقة وأوهام مجتمعي وبأي جزئية كانت، زوجاً أو أباً أو كاتباً أو صديقاً أو جاراً أو مواطناً في بلدٍ أنهكته الحرب

عندما يكون هذا البديل يا ابنتي واصلاً بين قدم الحياة وديمومة الحاضر بأصالته، سيكون هو الأمل والحلم، ولكن بشرط وحيد كان لعنةً قديمةً على حامله وسبباً لكل الشرور الخفية، وهو أن يكون صاحب هذا البديل قائلاً ما يفعل ويفعل ما يقول إلى حدود الحتف. إن هذا البديل هو الثورة الحقيقة التي تحتاجها الإنسانية لأنه سيتوافق مع تبدل داخلي ولا يمكن النجاة من دونه من دولاب التكرار وإلزاميته.

أحاول يا ابنتي أن أكون البديل أمام حقيقة وأوهام مجتمعي وبأي جزئية كانت، زوجاً أو أباً أو كاتباً أو صديقاً أو جاراً أو مواطناً في بلدٍ أنهكته الحرب... ويا له من جهاد مع النفس يلذّ لي ولأمك أمام طبيعتنا الإنسانية التي تعشق كرامتها وتغض النظر عن الأثمان لأجلها.

نربيك يا ابنتي، أنا وأمك، لتكوني البديل الجديد والإنسان الحلّ لهذا العالم المتراكم البؤس، فأنت الشاهدة الحية على بساطة الحل ومعجزته. ستجدين منا عندما تكبرين كل الدعم أمام كل إخفاق أو نجاح، فحياتك هي قراراتك التي يتخذها الإنسان سعياً إلى سعادة وشغف داخليين وكرامة يخلقها. أنت نعمتنا وبركتنا يا ابنتي كجميع أطفال العالم، ونتمنى أنا وأمك أن تكون مصادفة ولادتك لنا حظك السعيد، وهو ما حُرم منه الكثير من أطفال عالمنا المجنون والضائع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image