شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رسالة إلى ابنتي يُفترَض أن تقرأها في العام 2043

رسالة إلى ابنتي يُفترَض أن تقرأها في العام 2043

مدونة نحن والتاريخ

الاثنين 12 يونيو 202302:04 م

عزيزتي (x) وحبيبة قلبي

أرجو أن تكوني غير منزعجة مني في هذه اللحظة التي أدركتِ فيها أن أباك لم يطلق عليك اسماً حتى لحظة كتابته هذه الرسالة. ولكن بعملية حسابية بسيطة ستدركين أنني في هذا الوقت لم أكن قد تزوجت والدتك الحبيبة بعد، وإن كنت تظنين بأن هذه الأسطر القليلة فيها كمّ كبير من العبثية، فأرجو منك ألا تستعجلي لأن القادم في الرسالة سيدهشك من حيث العبث.

أما بعد،

وجب أن تدركي أن أباك يكتب بضع مقالات، وينشرها، والواضح أنه "مفضوح" لكي ينشر رسالةً لك يشرح فيها بعض الأمور، لا لشيء بل لأنه قرر أن يكون "creative" في هذه اللحظة تحديداً، حيث أردت أن أشرح فيها حقيقة ما يجري اليوم من نقاش مجتمعي لا أدري كيف سيصل إليكم وإلى جيلكم في الأيام المقبلة.

يا عزيزتي، نحن في العام 2023، والمجتمع العربي اليوم يحاول أن يصوّر أننا مقبلون على كارثة ضخمة جداً، فيرعبنا بكل الوسائل المتاحة لديه. قد تظنين أنه التضخم أو شكل النظام الاقتصادي الجديد الذي بالتأكيد سيكون قد تغيّر إلى حين قراءتك هذه الرسالة، ولكن لأننا مجتمع "لا يمكن توقعه"، فقد قرر أن ينقسم ويحذر من الذكاء الاصطناعي الذي كان قد أُطلق حديثاً، أو يبرر بعض التصرفات لمستخدمي تطبيق اسمه "تيكتوك" كان رائجاً جداً بين الجيل الشاب لحظة كتابة النص.

ولكيلا تظني بأنني أحكم على النقاش بطريقة متعالية، فتعالي لأروي لك ما مشكلتي الحقيقة مع النقاش المجتمعي القائم (نعم منذ ذلك الوقت أحب اللعب على الكلام متعالٍ وتعالٍ).

أدري أو دعيني أُخمن أنك في هذه اللحظة تتساءلين ما الذي دفع أباك، للكتابة عن هذا الموضوع دون سواه من حقبات قد سبقتك، وفي الحقيقة أنت محقة في هذا التساؤل، ولكن دعيني أقول لك إن ما أراه من مقالات ودراسات تغزو الفضاء الإلكتروني، حول التخوف من الذكاء الاصطناعي والتهميش الواضح خلال هذه الفترة لأي مقالات عن تصرفات الناس أمام كاميرات هواتفها خلال استخدامهم تطبيق تيكتوك، هو ما دفعني لكتابة هذه الرسالة إليك، كوني لا أثق بما قد يصل إلى جيلكم إلا ما نُشر في وقتنا الحالي الذي سيكون كارثياً إذا ما راجعتم أرشيفنا.

قرر من سبقونا أن يريحوا عضلات أفخاذهم فامتطوا "الدواب"، ثم قرروا أن يريحوا أفخاذهم وأفخاذ الدواب، فربطوا العربة بالأحصنة، إلى أن تم اختراع "العربة" الكاملة ذات الموتور الآلي، فتم الاستغناء عن الدواب

الآن دعيني أبدأ بالتخوف المبرر والمتكرر من الذكاء الاصطناعي، أو من كل ثورة تكنولوجية تظهر من شأنها أن تغير مفاهيم عدة كنا قد اعتدنا عليها، لا بل يمكن أن تغيّر وظائف بكاملها وتشقلب حالها، فمنها ما قد يختفي تدريجياً ومنها ما قد يُستحدث، وهذا حاله حال كل تطور شهدته البشرية.

لتبسيط الأمر عليك يا عزيزتي، سأشرح لك قصةً قصيرةً حول تطوّر وسائل النقل وكيف تفاعلت معه الناس. في البداية، قرر من سبقونا أن يريحوا عضلات أفخاذهم فامتطوا "الدواب"، ثم قرروا أن يريحوا أفخاذهم وأفخاذ الدواب، فربطوا العربة التي تم اكتشافها بالأحصنة على سبيل المثال، إلى أن تم اختراع "العربة" الكاملة ذات الموتور الآلي، فتم الاستغناء عن الدواب وعن بعض العمال الذي كانوا يجرّون العربة، ولكن ظهرت وظائف جديدة كالميكانيكيين الذين ستجدين صوراً على باب محالهم مكتوب عليها "أشكمان" وظهرت وظيفة "كالسايس"، الذي كانت وظيفته أن يساعد في ركن السيارة وأنت في الأصل لا تحتاجين إلى مساعدته، ولكن يأخذ منك مالاً مقابل خدمة لم تطلبيها... في البداية هناك من عدّ السيارات عملاً سفلياً أو سحراً وحاربوها، إلى أن أيقنوا أن هذا الاختراع سيكون مفيداً ومريحاً، وهكذا الحال في كل اكتشاف نوعي.

وبالعودة إلى الذكاء الاصطناعي الذي يشكل اليوم حدثاً مبهراً لكل من يحاول استخدامه، فهو بالتأكيد سيشكل حالةً جديدةً ستؤثر على الكثير من الأشغال الرائجة اليوم، خصوصاً الفكرية منها، حيث بات هناك منافس للعديد من الوظائف، وهو حتماً، إذا كان سينهي الكثير من الوظائف، سيكون كل متضرر اليوم غير قابل للتأقلم وسيعترض وسيعلو صوته وطبعاً هذا حقه، وفي المقابل ستظهر وظائف جديدة ربما ستخبرينني عنها أنت في المستقبل.

وهذا الاكتشاف يكون قد بهت عندما تقرأين هذه الرسالة. خلاصة قولي إن التخوف مبرر ولكن، إذا نظرنا إلى الذكاء الاصطناعي كمنافس سنكون قد أنهينا أنفسنا، وأما إذا اعتمدنا عليه لمساعدتنا في إنجاز المطلوب منا في ظل الرأسمالية القذرة التي تلقي على عاتقنا كمّاً كبيراً من الـTASKS غير المبررة من مديرنا في العمل، سنجده هديةً من السماء أو مبتكراً، وسيكون شيئاً أساسياً في حياتنا تماماً كالقهوة وأغاني عمرو دياب التي كما ستعرفين لاحقاً عندما تأتين إلى هذه الحياة، بأنها طقوسي الثابتة في العمل.

عزيزتي (X) أرجو منك أن تتحملي ما هو قادم لأن فيه كمّاً كبيراً من العبث على ما أظن، حتى لا تقولي إن أباكِ الذي يحبك لم يحذرك من الأسوأ المفترض.

التيكتوك...

في ظل الأزمة الاقتصادية، ظهر تطبيق يسمح للناس بالحصول على المال من خلال البث المباشر، وكانت أفضل طريقة لكسب المال السريع الذي كان يشحّ في ظل اضمحلال الفرص الحقيقية، ولكن المفارقة تكمن في الإجابة عن السؤال التالي: كيف كانت الناس تحصل على هذه الأموال؟ من خلال تحديات خلال البث المباشر.

لماذا أقول لك هذا؟ حتى لا يشتبه عليك الأمر عندما ترين الصور. الناس لم تكن تصنع قالب "الكايك" على أجسادها المزينة ببعض "الشباشب"، بل هذا كان هو التحدي.

ألا تظنين أن الأمر غريب؟

تخيّلي يا عزيزتي، أن آباء أبناء جيلك كانوا يضعون البيض والطحين على أجسادهم في حال خسارتهم التحدي في البث المباشر، ويصرخون لأكثر الشخصيات شهرةً وقتها بعبارة: "كبس كبس أبو صدام"، وهو الذي يمكن أن يرسل إليهم "إيموجي" على شكل أسد، فتنهال عليهم الأموال بسبب ذلك.

تخيّلي يا عزيزتي، أن آباء أبناء جيلك كانوا يضعون البيض والطحين على أجسادهم في حال خسارتهم التحدي في البث المباشر، ويصرخون لأكثر الشخصيات شهرةً وقتها بعبارة: "كبس كبس أبو صدام"

وطبعاً أقول هذا لأن لكل شخص الحرية في القيام بما يستهويه، ولكيلا تظني بأنني أحاكم الناس على ما قد يعدّه البعض هوايةً أو طريقةً جديةً للحصول على المال بطريقة سهلة.

ولكي أثبت لك ذلك، تعمقت في هذه التصرفات التي كنت أرى نفسي غير قادر على القيام بها، فاكتشفت أن أغلبهم يرونها طريقةً غير صحيحة وأحياناً يصفونها بأنها مهينة، ولكن يبررون ذلك بعبارة إنكليزية ربما كانت سبب ما يجري، وهي There is no bad publicity. ولكن إن كنت تظنين بأن هذا السلوك كان حديثاً على البشر، فدعيني أنفي لك هذا الأمر، لا بل إنه يمكن أن يكون من ضمن تمسك البشر بالعادات التي كنا نظن أنها انقرضت، فسوف تظنين بأنهم يحيون العادات الرومانية في المعابد قبل آلاف السنين من تحديات وتجمهر وهتافات للفائز وهو تشبيه عظيم قاله الممثل المصري الشهير أحمد مكي في مسلسل اسمه "الكبير أوي الجزء الثامن". أنصحك يا صغيرتي بأن تشاهدي هذا المسلسل فهو لطيف جداً.

فهل البشر يتمسكون بالعبودية بشكلها الجديد ويرفضون الحداثة؟ لست أدري ولا أستطيع أن أملي عليك تقييمي الشخصي، ولكن صدّقي أو لا تصدّقي، في هذه الحقبة هذا هو النقاش المجتمعي الرائج.

إذا سألتني حقيقةً عما إذا كان يجب أن نخاف ونحذر بشكل حقيقي؟ فسأقول لك بشكل خاص لا أمام الناس، فتصرفات الناس على تيكتوك بالنسبة لي ربما هي من الذكاء الاصطناعي.

وهنا اسمحي لي في الختام بأن أعدك بأمرين، وبأن أفضح لك سرّاً:

الوعد الأول، هو أنك لن تجدي لي أي فيديو تحدٍ على ذلك التطبيق. أما عن الوعد الثاني، فهو أنني سأحاول أن أتعلم وأستفيد من الذكاء الاصطناعي بشكل يفيدني في حياتي المستقبلية كثيراً، حتى أستطيع أن أتزوج وأنجبك، وحتى بالتبعية تستطيعين أن تقرئي مقالي هذا.

أما عن السرّ، ففي المستقبل إذا رأيت مقطع فيديو أو قالوا لك: خلال فترة شباب جيلنا كانت العقارات رخيصةً بينما كنا منشغلين في الرقص على أنغام وديع الشيخ بدلاً من شراء العقارات، فتأكدي من أن ذلك عارٍ من الصحة لسببين؛ أولاً لأن ثمن العقارات كانت تقارب 100 ضعف أفضل راتب تقاضيته، وثانياً والأهم لأنني لم أكن أحب وديع الشيخ...

ملاحظة: لا تبحثي عن وديع الشيخ من أجل سلامتك النفسية يا حبيبة والدك العزيزة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard