شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
كُرد جيايي كورمينج... تاريخ التطويع باللغة بين العثماني والعربي

كُرد جيايي كورمينج... تاريخ التطويع باللغة بين العثماني والعربي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الاثنين 31 يوليو 202302:19 م

لكل منطقة جغرافية اسم هو نتاج إيقاع لغوي لا يمكن فصله عن تركيبة سكانها الثقافية والاجتماعية المتراكمة، ولا يمكن تعليل ماهية أصله إلا من خلال ألسنة أبنائها وأدبياتهم، حتى يصير علامةً لها، ودليلاً على مراحل صيرورتها في الحياة.

لهذا كلما أُحدّث والديّ، تستوقفني كلمتا "عيرفين" و"جيايي كورمينج"، في سياق كلامهما. فالأولى يراد بها مركز مدينة عفرين، والثانية يُشار بها إلى المنطقة عموماً وأهلها. كلمتان تعيدانني إلى جدّي المتوفى، وقصصه المليئة بمآثر أبطال المنطقة عندما كان يصِف بطولاتهم في الجبال قائلاً: "كانوا يتنقلون بين جيايي كورمينج".

إلا أن في العودة إلى أوراق ثبوتية ووثائق تعود إلى مطلع القرن العشرين، تمر كلمة "كرداغ" كدمغة لهذه الجبال والسهول الواسعة في بقعة في ريف حلب الشمالي من الشمال الغربي في دولة سوريا.

"عيرفين"، "عفرين"، "جيايي كورمينج"، "كرداغ"، وجبل الأكراد؛ تعددت الأسماء والجبل واحد. لماذا كل هذه الاختلافات حول هذه الكتلة الجبلية؟

الجغرافيا القلقة

 في العودة إلى أوراق ثبوتية ووثائق تعود إلى مطلع القرن العشرين، تمر كلمة "كرداغ" كدمغة لهذه الجبال والسهول الواسعة

الكتلة الجبلية هذه تمتد على طول المنطقة الواقعة بين الأطراف الجنوبية الغربية من سلسلة جبال طوروس إلى الجهة الشمالية من الساحل الشرقي لبحر الأبيض المتوسط غرباً، شاغلةً الجهة الشمالية الغربية من سوريا بطول 100 كم وعرض يتراوح بين 25 و45 كم، وبمساحة تُقدَّر بنحو 2،075 كم2، على بعد 60 كم من مدينة حلب. وتغطي المرتفعات الممتدة من منابع نهريْ عفرين والأسود غرب مدينة عنتاب داخل الحدود التركية الحالية، حتى غرب بلدة جنديرس في الجهة الجنوبية الغربية في اتجاه الساحل المتوسطي ضمن الأراضي السورية.

يقول المستشرق الفرنسي روجيه ليسكو، الذي زار المنطقة في الثلاثينيات من القرن العشرين، في كتابه "كرداغ وحركة المريدين"، والمطبوع في بيروت عام 1940: "إن سلسلة كرداغ هي جزء من جبال طوروس تتجه من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، ويحدّها من الجنوب وادي آفْرين، تقع نهايتها الجنوبية ضمن الأراضي السورية، وكرداغ السورية أو جبل الأكراد بالعربية، تقع بين وادي كاراسو (نهر الأسود)، وسهل أعزاز، إلى الشرق من نهر آفرين، والحدود الشمالية تمتد من خط ميدان أكبس إلى مدينة كلّس".

وينقل ليسكو مشاهداته عن شعبها: "في كامل المنطقة هم الكرد، ولهذا السبب تمت تسميتها بهذا الاسم، وقد حافظوا على صفاتهم الجسدية واللغوية والثقافية والاجتماعية، ويتقاسمونها مع إخوانهم في الشمال في تركيا".

تقول الباحثة في التراث الشفهي الكردي في المعهد الفرنسي للحضارات واللغات الشرقية في باريس، والمختصة بموضوع "دراسة وتحليل المدلولات الثقافية للهوية والآخر من خلال النصوص الشفهية"، كلستان سيدو، لرصيف22: "من خلال العمل على جمع وأرشفة التراث الشفهي، لاحظت الامتداد الثقافي لجيايي كورمينج مع الكرد في الأجزاء الأربعة الأخرى، وقد وردت لفظة جيايي كورمينج في أكثر من موروث وحكاية شعبية من نصوص سردية وقصص تراثية بلغتهم الأم، أي اللهجة الكرمانجية".

أقدم ذِكر لـ"جيايي كورمينج"

عند الحديث مع سكان المنطقة الكرد، فإنهم يشيرون إلى منطقتهم بـ"جيايي كورمينج" Kurmênc / Kurmanc، أي جبل الكرد، ولا تُعرف لديهم بغير هذا الاسم، وعلى هذا تُعلّق كلستان سيدو: "إن تسمية جيايي كورمينج هي تسمية أصيلة للمنطقة، وتشير إلى سكانها الذين ينتمون إليها، وشكّلوا على مر الزمن مجتمعاً يتمتع بصفات ثقافية ولغوية واجتماعية تميّزهم عن الجماعات المجاورة. إنها منطقة جبلية مغطاة ببساتين الزيتون".

وتضيف: "ربما جاءت التسمية من اللهجة التي يتحدثون بها، وهي أكثر لهجة كردية منتشرة، وإحدى اللهجات الكردية الأربع، بدليل أن أسماء جبالها وقراها هي تسميات من اللهجة الكورمانجية، علماً أنه لا يوجد تاريخ محدّد للتراث الشفهي لأنه تراكمي وهو ما يثبت الهوية الكردية وقِدمها في المنطقة".

في الجزء الثاني لكتاب "ظهور الكورد في التأريخ"، يقول مؤلفه الدكتور جمال رشيد أحمد، من جامعة أربيل في كردستان العراق، بعد تفصيل دقيق جداً عن معنى اسم كورمينج: "اج هي لاحقة الانتماء، وهكذا فالانتماء إلى الماه (الماد) أصبح بشكل "ماهنج"، وبإبدال الدال إلى هاء أو حتى باختفاء الهاء، حوّل الكورد تسميتهم القومية من صيغتها الإيرانية كورت ماج Kurtmadj 'الكورد الميديون' إلى كورت مانج ← كورمانج". بمعنى أن اسم كورمانج مذكور في الوثائق التاريخية العائدة إلى فترة ما قبل الميلاد في إشارة إلى قبائل كورد من شعب ماد.

في القرن الـ12، قام صلاح الدين الأيوبي بإعادة تأسيسٍ للمنطقة، وجاءت أغلب العشائر الكردية إليها، وكانت أقدمها عشيرة آمكا, وقاتلت معه ودافعت عن الجبال، لكن مرّ على المنطقة الكثير... فما الذي حصل؟  

وبهذا فإن المؤلفات التاريخية تشير إلى أن أول من سكن المنطقة هم الكرد، وكان لهم دور عسكري وسياسي خلال عهد الدولة الأيوبية خلال القرن الـ12 الميلادي، حيث شكّل الملك صلاح الدين الأيوبي فرقاً عسكريةً خفيفةً وسريعة الحركة منهم، لحماية المنطقة. وأشهرهم الأمير مند، الذي عُيّن حاكماً على قلعة كلس، وأسس الإمارة المندية (إمارة كلس وأعزاز) التي شكّلت منطقة جيايي كورمينج جزءاً أساسياً منها.

كرداغ عثمانياً

مع توسّع الإمبراطورية العثمانية، وسيطرتها على بلاد الشام في أوائل القرن السادس عشر، قامت السلطات العثمانية بترجمة التسمية المحلية جيايي كورمينج إلى كرداغ، أي جبل الكرد، لأن داغ تعني الجبل باللغة التركية، واعتمدتها في وثائقها الرسمية، حيث يذكر المؤرخ العثماني أحمد جودت باشا، المتوفى عام 1895، في كتابه "تاريخ جودت" اسم "كرداغ" للدلالة على المنطقة المعنية.

وعند العودة إلى موسوعة حلب المقارنة لمؤلفها خير الدين الأسدي، يتحدث فيها الملحق التجاري الفرنسي في حلب تحت عنوان "ذكرياتي عن بلاد ألف ليلة وليلة"، والعائد إلى فترة ما بين 1548 و1556، فيقول: "بحكم مهنتي في استيراد الحرير كنت أسافر إلى كلس وعنتاب وأعزاز وجبل الأكراد وما إليها". ولربما وردت في الأصل الفرنسي كرداغ، وترجمها الأسدي إلى العربية بجبل الأكراد، ذلك أن المستشرقين الفرنسيين روجيه ليسكو وبيير روندو اللذين زارا هذه الجبال في ثلاثينيات القرن العشرين، يذكران المنطقة بلغتهم الفرنسية باسم "كرداغ".

يقول المؤرخ الكردي عبد الله شكاكي، لموقع رصيف22، وهو مؤلّف الأجزاء الثلاثة من كتاب "وطن الشمس تاريخ كردستان": "في القرن الـ12، قام صلاح الدين الأيوبي بإعادة تأسيسٍ للمنطقة، وجاءت أغلب العشائر الكردية إليها، وكانت أقدمها عشيرة آمكا التي يرد ذكر أسلافها في الوثائق الآشورية عام 880 ق.م، تحت اسم زامو، وقد تم تهجيرهم من منطقة في محافظة السليمانية بجنوبي كردستان تُسمى منطقة 'زام وا'، وسكنت في سهل يُعرف محلياً الآن باسم سهل حمقي، أي اما/ حمكا/ حمقا/ والذي يُعرف باللغة العربية بسهل العمق".

وتذكر الوثائق العثمانية العديد من العائلات الكردية التي حكمت منطقة كرداغ، باسم الدولة العثمانية، وأشهرها عائلة جان بولات، التي حكمت المنطقة لأجيال عدة، وكانت كرداغ تتمتع بإدارة كردية مستقلة مركزها مدينة كلس وخاضعة وفق نظام السناجق (الألوية) لسيادة حلب حتى عشرينيات القرن العشرين، حيث انفصلت عن كلس وأصبحت تتبع لمحافظة حلب عقب الحرب العالمية الأولى وما تبعها من تقسيم للتركة العثمانية إثر سقوطها، حيث قسمت تركيا الكمالية وفرنسا منطقة كرداغ إلى قسمين؛ قسم شمالي ضُمّ إلى تركيا وقسم جنوبي ضُمّ إلى سوريا، بعد رسم الحدود في عهد الانتداب الفرنسي على سوريا.

في أيار/ مايو عام 1977، أطلقت السلطات السورية على الجبل اسم جبل العروبة، وفق المرسوم 15801 الذي حظر الأسماء الكردية

فرْنَسَة فتعريب

إلا أن تسمية كرداغ بقيت في التداول الرسمي في فترة الانتداب الفرنسي، إلى أن تمت ترجمتها في السجلات السورية بعد انتهاء الانتداب عام 1946، عربياً، إلى جبل الأكراد أو جبل الكرد.

"على هوية جدّي كان مكتوباً قضاء جبل الأكراد، لكن في سنوات التعريب في ستينيات القرن الماضي أزالوا كلمة الأكراد وقاموا بتغييرها إلى منطقة عفرين، وفي القسم التركي تم التتريك، وإجراء تغيير ديمغرافي لمناطق جيايي كورمينج"، يشرح المؤرخ السبعيني عبد الله شكاكي.

ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "اسم عفرين جاء من اسم نهر عفرين، وأصل الكلمة هي آب ري، وتأسس مركز مدينة عفرين على يد الفرنسيين الذين وضعوا أساسات سرايا عفرين عام 1923، وانتهى البناء فيه عام 1927، وتأسست بلدية عفرين عام 1932، وخلال معاهدات 1921 و1926 و1931 بين تركيا وفرنسا ضموا قسماً من جيايي كورمينج، منها ولاية أنطاكية ومدينتا كلس وإصلاحية في جنوب عينتاب إلى الأراضي التركية، كما أن القرى التابعة لمحافظة هاتاي الحالية المقابلة للحدود السورية هي جزء من جيايي كورمينج. وتم ضمّ قرى يازي باغ ومعرين وسيجراز ومزرعة إلى منطقة أعزاز".

وفي أيار/ مايو عام 1977، أطلقت السلطات السورية على الجبل اسم جبل العروبة، وفق المرسوم 15801 الذي حظر الأسماء الكردية، ومن ثم سُمّي بجبل حلب.

"بدأ التعريب زمن الرئيس جمال عبد الناصر، وجاءت عشيرة عميرات آنذاك. وفي 1965، جاءت عشيرة بوبني وبعض من عشيرة البكارة كانت نسبتهم 3 في المئة، لكن التعريب الكلّي حدث في عام 1985، حيث تم تعريب أغلب أسماء قرى وبلدات المنطقة، مثل قرى محمدية ورحمانية وفريرية وشيخ الحديد وغيرها، بينما هناك أسماء حافظت على تركيتها التي جاءت في فترة التتريك، مثل أوشاغي وأوباسي، وتعني الأولى أولاد فلان، والثانية تعني جماعة فلان، وبعض القرى مرت بالمراحل الثلاثة مثل قرية درويش، بالكرديّة: Gundî Dêwrîş، بالتركية دوريش أوبه سي، بالعربية الدرويشيّة، وهكذا أكثر القرى".

في آخر المطاف، خلال الحديث مع أي كردي من أهل المنطقة، يقول لك إنه من "جيايي كورمينج" ومدينتها عفرين أو كما يلفظها أهل القرى عيفرين، وهذه خاصية في اللغة الكردية، تتعلق بإمالة الأحرف حيث يتم استبدال الحرف الصوتي a بالحرف الصوتي ȇ، وقد تسمعها عيرفين، وهنا يقوم القائل بتغيير الأحرف في الكلمة بالتقديم أو التأخير وهي ظاهرة شائعة جداً في اللغة الكردية.

ولا يخفى أن المنطقة، منذ ما بعد وقوعها تحت الاحتلال التركي، عام 2018، بات مصيرها على المحك نتيجةً لما تتعرض له من تغيير ديمغرافي وثقافي ضمن سياسة التتريك للمرة الثانية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard