انتشر بين مختلف الباحثين وغير الباحثين أن العرب هم سُكان الصحراء، أو البدو، وأصبح هذا هو الرأي السائد لدى المستشرقين على وجه الخصوص منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، وذلك لوجود إشارة إلى كلمة "عرب" في التوراة بمعنى قاطني الصحراء، وارتباط ذكرهم بتربية الجِمَال. وأشارت الكلمة أيضاً إلى كل الشعوب القاطنة بين البحر الميت ونهر الفرات، وهذا المعنى التوراتي كان له أثر بالغ التأثير على الباحثين، إذ شكّل صورة العرب التي نقلها اللاهوتيون إلى الاستشراق الغربي.
لم تتفق الأدلة التاريخية على أن العرب سكنوا الصحراء فقط، إذ عُثر على العديد من الشواهد التاريخية التي تدلّ على أن العرب سكنوا الصحراء والواحات وبين الجبال، والمدن والقرى، كما أشار الباحث في تاريخ حضارات ما بين النهرين "غريغ فيشر" في كتابه "Between Empires: Arabs, Roman and Sasanian in late antiquity".
جاءت نظرية أن العرب هم من يتكلمون العربية، تحت تأثير التيارات القومية الحديثة، وأن عروبة المكان تتأتى من المتحدثين بالعربية فيه، فتواجُد المتحدثين بالعربية في مكان ما دليل على عروبته
وعلى الرغم من حضورهم التاريخي في المصادر المكتوبة القديمة في حضارات الشرق الأدنى القديم منذ القرن التاسع قبل الميلاد، إلا أن العرب لم يقدّموا أنفسهم كعرب، أينما كانت أماكن تواجدهم في الشرق الأدنى القديم، فإن الجذور التاريخية لمصطلح كلمة "عرب" وتطوره وإطاره الجغرافي حتى ظهور الإسلام، يظل غامضاً. وكمحاولة لإزالة هذا الغموض ظهرت العديد من النظريات التي حاولت تأصيله، ومعرفة من هم العرب حقاً وأين سكنوا.
العرب الأوائل قبل الإسلام
من هم الذين سُمّوا عرباً قبل الإسلام؟ طرح هذا السؤال باحث الآثار الفلسطيني في جامعة مونستر في ألمانيا، محمد مرقطن، في بحث بعنوان "حول أصول مصطلح عرب والعربية"، فأشار إلى أن كلمة "عرب" كانت تُطلَق على عدد كبير من الأفراد والشعوب والقبائل المختلفة ذات الأنماط الحياتية المختلفة من البدو والحضر، وكانت تتواجد في الجزيرة العربية حتى الأردن، ثم حدث تطور دلالي منذ القرن التاسع قبل الميلاد، بحيث أصبح لاحقاً ذا دلالة خاصة ويطلَق على مجموعة بشرية بعينها، أصبحت تُسمي نفسها "العرب" بدايةً من القرن الرابع الميلادي، وشمل المصطلح بعد ذلك كُلاً من سكان الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق ومصر.
يرصد لنا الباحثان جاكوب هوفتيجيزر وكارل يونجلينج، وهما باحثان في اللغات السامية في معجم باسم "Dictionary of the semitic Inscriptions (2 vols)"، أن المعنى الاشتقاقي لكلمة "عرب" يرد في لغات سامية، وبشكل خاص في نقوش اللغات السامية الغربية، والجذر "ع ر ب" في الآرامية والبابلية والآشورية وعبرية التوراة، بمعنى "ضَمن أو أعطى ضمانةً أو أعطى عربوناً".
ويوضح لنا كُلّ من جيرمي بلاك وأندرو جيورج ونيكولاس بوستجيت، في معجم باسم "a concise dictionary of Akkadian"، أن الجذر "ع ر ب" ورد في النقوش الأكادية (erēbu)، بمعانٍ مختلفة، خاصةً بمعنى دَخل، والمصادر المسمارية هي أقدم المصادر المكتوبة التي أشارت إلى العرب كمجموعة بشرية. ويرد مصطلح عرب لأول مرة في حوليات الملك الآشوري شلمناصر الثالث (859 -825 ق.م)؛ فيذكر الملك جنديبو العربي Gindibu، الذي شارك في تحالف مع ممالك بلاد الشام في معركة "قرقر" ضد الآشوريين، على رأس ألف من الفرسان الذين كانوا يمتطون الجمال في أثناء المعركة.
وهذه أول إشارة إلى مجموعة إثنية بعينها هي العرب، كجماعة تسكن غرب الفرات، ووردت بصيغة Lū Arabāya. بعد هذه الفترة، يستمر ظهورها تحت اسم "Arbu"، "Araba"، "Aribi" في المصادر المسمارية الآشورية والبابلية كإشارة إلى مجموعة أو مجموعات تقطن في وسط الجزيرة العربية وبادية الشام وتخوم بلاد ما بين النهرين والمناطق الداخلية لبلاد الشام، كما ورد في كتاب "The Ancient Arabs, nomads on the borders of the fertile crescent (9 Th – 5 Th) The Arabs in antiquity, their history from Assyrians to the Umayyads، للمستشرق وباحث التاريخ إسرائيل إيفال.
استمر الباحثان في محاولة البحث عن تاريخ بدء استعمال كلمة عرب في المصادر القديمة المكتوبة كافة؛ ففي معجم "Hebräisches und aramäisches Lexicon zum Alten Testament"، يذكر الباحثان لودفيج كوهلر ووالتر باومجرتنير، أن جذر العرب ورد في العهد القديم بمعنى (دَخل–غَرُب)، وكثيراً ما ارتبط ببدو الصحراء الساكنين في بادية الشام وأجزاء أخرى من فلسطين وشمال الجزيرة.
لم تتفق الأدلة التاريخية على أن العرب سكنوا الصحراء فقط، إذ عُثر على العديد من الشواهد التاريخية التي تدلّ على أن العرب سكنوا الصحراء والواحات وبين الجبال، والمدن والقرى.
بينما لم تشِر الكتابات الهيروغليفية إلى العرب بأي اسم في الكتابات المصرية القديمة، كما أشار البروفسور جونر سبيرفيسلسج، أستاذ علم المصريات في جامعة كولن في ألمانيا، في بحثٍ له بعنوان: "Ägypten und Arabien. Ein Beitrag zu den interkulturellen Beziehungen Altägyptens, Alter Orient und Altes Testament (AOAT) 420, 2019". ولكن نلاحظ ذكرهم في وثائق يونانية من العصر البطلمي، في أماكن متعددة من مصر، ويظهرون كأصحاب مهن وتجّار، بالإضافة إلى وجود العديد من أسماء الأعلام العربية في المصادر المصرية في العصر البطلمي، وفقاً لما أشار إليه الباحث محمود عبد الحميد، في كتابه "الهجرات العربية القديمة من شبة الجزيرة العربية وبلاد الرافدين والشام إلى مصر".
والجدير بالذكر أن علماء الآثار وجدوا شاهداً من النقوش الآرامية يشير إلى وجود العرب في القرن السابع قبل الميلاد في منطقة بلاد الشام، فجاء في أحد حِكم "أحيقار الحكيم"، وهو حكيم من حكماء الشرق الأدنى القديم، لفظ (ع ر ب ي) كإشارة إلى العرب، ويذكر الكاتب اللبناني أنيس فريحة، في كتابه "أحيقار الحكيم من الشرق الأدنى القديم" الحكمة التالية: "لا يرى العربي البحر ولا الصيداوي (نسبة إلى الصيداء أو الفينيقي) الصحراء؛ لأن نمط حياة كلّ منهما مختلف".
أما في المصادر العربية، فقد ورد في "معجم الدوحة التاريخي للّغة العربية"، تعريف كلمة العرب، كما يلي: "العرب أمة من الناس من نسل يَعرُب بن قحطان، ويكاد يجتمع الإخباريون العرب على أن العرب ينقسمون إلى طبقات من حيث القِدم، ويسمونهم إلى طبقات، وهما العرب البائدة والباقية، والعرب البائدة هم العرب الذين انقرضوا واختفت أخبارهم قبل الإسلام، والعرب الباقية هم العرب العاربة والمستعربة، وهم القحطانيون على حسب الرواية اليمنية والعرب المستعربة هم العدنانيون"، ويبدو أن الرواية الأخيرة تم اختراعها في العصر العباسي، كما ورد في كتاب "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" للباحث والمؤرخ جواد علي.
يرى العديد من الباحثين أن "العرب" لفظ مرادف للساميين، وهو مفهوم توراتي نسبةً إلى ما ورد في جداول الأنساب في سِفر التكوين، ويوضح الباحث فلتر دوستال في كتابه "Die Araber in Vorislamischer zeit (Der Islam)"، أن الدراسات الأنثروبولوجية والأثرية التي ركزت على العلاقة بين سكان الصحراء والمراكز الحضرية أفادت بأنه ليس من الضروري أن يكون مصطلح "بدو" يعني سكان الصحراء، فقد سكن البدو مناطق جبليةً أيضاً، وظهرت معضلة أخرى واجهت الباحثين، هي أن الكثير من سكان البادية مارسوا الزراعة والتجارة ومهناً مختلفةً أخرى، مارسها أيضاً سكان الحضر.
هم مَن يتكلمون العربية
جاءت نظرية أن العرب هم من يتكلمون العربية، تحت تأثير التيارات القومية الحديثة، وأن عروبة المكان تتأتى من المتحدثين بالعربية فيه، فتواجُد المتحدثين بالعربية في مكان ما دليل على عروبته، كما أشار الباحث محمد مرقطن، في بحثه سالف الذكر، بينما ظهرت نظرية أخرى تشير إلى أن العرب هم طبقة من الفرسان والمحاربين كما ذكر الباحث يان رتسو في كتابه "The arbs in antiquity"، الذي ينفي فيه أن العرب هم سكان الصحراء أو البدو، وينطلق من تلك النقطة ليصل إلى أنهم طبقة من الفرسان والمحاربين في عصر الدولة البيزنطية. ويقول إن كلمة عرب تعني "جيش"، وعملوا كقوات خفر وحرس، وقدّموا خدماتهم لحراسة المناطق الحضرية.
يتضح أن الربط بين العرب والصحراء هو ربط غير صحيح، فالعرب لم يرتبط وجودهم بحياة البدو أو الصحراء فقط، بل اتسع ليشمل أماكن أخرى، ولكن ظلت تجمعهم برغم ذلك ثقافة واحدة مشتركة وأسلوب حياة واحد وربما لغة واحدة تعددت لهجاتها
بينما اقترح المستشرق النمساوي غوستاف فون غرونه باوم، أن العرب هم مجموعة بشرية ذات سمات خاصة، برغم ممارستهم أشكالاً مختلفةً من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويصفهم بأنهم قومية ثقافية ذات روابط مشتركة، وأنهم يشكلون بأنفسهم دولةً. وأوضح الباحث الفلسطيني محمد مرقطن، أنه من الصعب إقحام التعريفات الحديثة القومية والإثنية وإسقاطها على شعوب قديمة، ويمكن القول إن مصطلح "العرب" هو مصطلح عام أُطلق على مجموعة من الشعوب والقبائل التي تجمعها روابط لغوية وثقافية ودينية وتشريعية ومنطقة جغرافية مركزية إلى حد ما، من نجران إلى تدمر، ويظهر اسم هذه المجموعة البشرية تحت مسمى العرب لأول مرة في أواسط القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ونجده بشكل واضح في إشارة إلى العرب منذ القرن الرابع الميلادي وحتى اليوم.
اللغة التي تحدّث بها العرب
يذكر لنا فولفديتريش فيش، في كتابه "دراسات في العربية، أصولها ومراحلها التاريخية وعلاقتها بأخواتها السامية"، أنه يمكن القول إن معرفتنا بتاريخ اللغة العربية المبكر، تشكلت من مدونات العرب القديمة، أي النقوش العربية الشمالية، كـ"الصئبية" والنقوش الجنوبية كـ"السبئية" التي تم العثور عليها في أنحاء الجزيرة كافة من عصور ما قبل الإسلام. وبالرغم من أننا نجهل بداية نشأة العربية، إلا أننا ابتداءً من القرن التاسع قبل الميلاد، نلاحظ انتشارها في المناطق الشاسعة من الجزيرة العربية، من جوف اليمن جنوباً إلى الفرات شمالاً.
وتبدو الخريطة اللغوية للجزيرة العربية موحدةً منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وإن كانت تنقصنا الأدلة اللسانية الدالّة على ذلك في ما يخص الألف الثالث والثاني قبل الميلاد، والدراسة التي قدّمها مايكل مكدونالد، عن الخريطة اللغوية للجزيرة اعتمدت بالدرجة الأولى على أنواع الخطوط، وليس على الخصائص اللغوية، في كتابه "Reflections on the Linguistic map of pre-Islamic Arabia".
وجدير بالذكر أن هناك مجموعةً من النقوش المكتوبة بالعربية القديمة ما قبل الفصحى، منها نقش "أم الجمّال" الأول ويعود إلى 250-270 م، ونقش أم الجمّال الثاني ويعود إلى ما بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين في الأردن، ونقشان من سكاكا شمال غرب المملكة العربية السعودية؛ الأول يؤرخ بالقرنين 4-5 م، والثاني 5-6 م، كما أوضح باحث الآثار روبرت هولاند، في كتابه "Epigraphy and the Emergence of Arab Identity"، ويتضح أن الربط بين العرب والصحراء هو ربط غير صحيح، فالعرب لم يرتبط وجودهم بحياة البدو أو الصحراء فقط، بل اتسع ليشمل أماكن أخرى، ولكن ظلت تجمعهم برغم ذلك ثقافة واحدة مشتركة وأسلوب حياة واحد وربما لغة واحدة تعددت لهجاتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...