تتحدثها المعبودات، مثلما لم يخامر اليهود شك بأن العبرية "لغة الرب والملائكة". وبالحماسة نفسها، يجزم العرب المسلمون بأن العربية لغة أهل الجنة.
وثمة اعتقاد عند المسلمين بأن العربية هي اللغة التي سيتحدث بها الله يوم القيامة، بل وذهب بعضهم إلى أنها لغة الله نفسه، ما يعني أن التعصب اللغوي آفة يكاد لا يبرأ منها شعب من شعوب العالم.
وهم البلاغة
مثلما أضفت الشعوب مسحة من القداسة على لغاتها، فقد تذرعت بشتى السبل لإضفاء سمة البلاغة عليها كذلك. ثمة اعتقاد شائع لدى العرب، حتى بين الأكادميين، بأن العربية تتميز بأنها لغة فصيحة، نتيجة إيمان العرب بالإعجاز البلاغي للقرآن، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء – 195].
وسبق أن حاول أبو حيان التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة" أن يتذرع بشتى السبل لبرهنة ذلك بمنطق لا يخلو من التعسف. يقول: "وقد سمعنا لغات كثيرة – وإنْ لم نستوعبها – من جميع الأمم، كلغة أصحابنا العجم والروم والهند والترك وخوارزم وصِقلاب وأندلس والزنج، فما وجدنا لشيء من هذه اللغات نصوعَ العربية، أعني الفُرج التي في كلماتها، والفضاء الذي نجده بين حروفها، والمسافة بين مخارجها، والمعادلة التي نذوقها في أمثلتها، والمساواة التي لا تُجحد في أبنيتها".
وعندما حاول أن يقسم الفضائل على شعوب العالم، جعل فضيلة العرب "الخطابة والبيان".
والعرب يعدّون العربية لغة معربة أي واضحة، ويطلقون على ما سواها لغة أعجمية أي لغة غير مبينة. سبق لهذا الظن أن توطد لدى الإغريق الذين توهموا أن اليونانية أكمل اللغات وأرقاها، وكل ما عاداها لغات همجية أو غير مفهومة ومن هنا جاء لفظ "بربريكوس" أي همجي أو أعجمي الذي أطلقوه على الشعوب الأخرى ولغاتها، وهو ما نجده لدى العرب الذين أطلقوا على ما سواهم "أعاجم" ولغاتهم "عُجمة" أي كلام غير مفهوم.
وذهب الإنكليز إلى شيء من ذلك، فهم يستخدمون تعبيرIn plain English، أي "بالإنكليزية المبينة"، بل وكذلك الألمان، وكان نيتشه كثيراً ما يستخدم تعبير Auf Deutsch أو "بالألمانية" عندما يريد توضيح معنى ما، وكأن الألمانية هي مرادف للفصاحة. وكان فولتير يرى أن الفرنسية تتميز عن غيرها بالوضوح والإبانة والتنظيم. كما اعترف الناقد المصري محمد مندور (1907 – 1965م) بأن اللغة الفرنسية جعلته قادراً على التفكير بدقة أكثر من العربية.
في واقع الأمر، لا توجد لغة بليغة في حد ذاتها، فاللغة التي تفصح عن تعبير ما ضمن ثقافتها بكلمة واحدة، يمكن أن تضطر إلى الإفصاح عن تعبير آخر من ثقافة أخرى بنصف سطر. فالبيان والفصاحة إذاً أمران نسبيان، ولا يوجد لغة أفصح من أخرى، ولكن يوجد شخص أفصح من غيره عندما يتحدث أو يكتب بلغتهم.
وبالمثل، لا توجد لغة أكثر موافقة من غيرها في التعبير عن الأفكار مهما كانت عميقة. وفي هذا الصدد يقول اللغوي غاي دويتشر في كتابه "عبر منظار اللغة": "ليس هناك أي لغة غير مؤهلة للتعبير عن أعمق الأفكار، مهما اتصفت قبائل متحدثيها بالبدائية"، معتبراً أنه يمكن التحاور حتى بلغة الزولو في بعض الموضوعات الفلسفية المعقدة.
عيوب العربية
خلافاً للنرجسية اللغوية المسيطرة على أذهان كثيرين من متحدثي العربية، فإن الأخيرة لغة مثل أي لغة تتميز ببعض الإيجابيات ويشوبها بعض العيوب. وثمة طائفة من العيوب التي تعاني منها لغة القرآن، أولها وأظهرها الترهل اللفظي، والجمود الصرفي، وإهمال الأصوات، وتشابه الحروف، وتعقيد القواعد، وسمة الإعراب، وأسماء الأضداد، وكثرة المعاني للفظ الواحد، وغيرها.
الترهل اللفظي
يعيب العربية الترهل اللغوي في مفرداتها، إذ تحفل هذه اللغة السامية الكبرى بعشرات المرادفات والأسماء للشيء نفسه، على حساب الأفعال. وربما يعزى ذلك، لولوع العرب بالشعر الذي يفرض صك الكثير من المرادفات لتوافق القافية المرجوة.
وقد يكون هذا الترهل اللغوي على حساب ألفاظ أخرى لم تجد لها مقابلاً في العربية، فلغة القرآن تشتمل على أكثر من 80 مرادفاً للسيف ولا يوجد بها لفظة واحدة تعبر عن "الهندسة" التي اقترضتها العربية من الفارسية، أو فعل بمعنى "ترجم" الذي استعارته من السريانية، أو مصطلح بمعنى السخرية اللاذعة الخالية من القيم مثل Cynicism في الإنكليزية، إلخ.
في كتابه "حصاد الهشيم"، عاب الأديب المصري إبراهيم المازني (1889 – 1949م) على العربية كثرة المترادفات، في بعض الأشياء مثل النياق والخمر والسيف، لكنه استدرك وحاول تسويغ ذلك العيب بالقول إن المترادفات "أوصاف شتى للشيء". وعدّ الجهل بالعبرية واللغات السامية الأخرى، أحد أسباب تأخر الباحثين العرب عن ركاب الغربيين في دراسة اللغة العربية قبل أن تتخم بالترادف.
كثرة المعاني
ومن مثالب العربية كذلك كثرة المعاني التي يدل عليها اللفظ الواحد. ويذكر جرجي زيدان في كتابه "تاريخ اللغة العربية" أن العربية بها "نيف ومئتا لفظ يدل كل منها على ثلاثة معانٍ. ونيف ومئة لفظ يدل الواحد منها على أربعة. وكذلك التي تدل على خمسة معان".
وأضاف زيدان "وقس على ذلك ما يدل على ستة معان فسبعة معان فتسعة إلى خمسة وعشرين معنى كالحميم والفن والطيس. ومما تزيد مدلولاته على ذلك ‘الخل’ فإنها تدل على 27 معنى ولفظ ‘العين’ 35 معنى وللفظ ‘العجوز’ 60 معنىً".
ومثل هذه الكثرة في المعاني على حساب الألفاظ قد تُعَدّ ضعفاً في لغة من المفترض أنها ثرية المترادفات، لولا أن هذا الثراء الظاهر، مجرد ثراء وهمي، نتيجة ظاهرة الترهل اللفظي المذكورة آنفاً.
أسماء الأضداد
ومما يقدح في العربية اشتمالها على ما يسمى بـ"أسماء الأضداد"، بل إن هذه السمة مما يميّزها عما سواها من اللغات، وهذه الأسماء ألفاظ يدل كل منها على معنيين متضادين في الآن ذاته. وقد ذكر ابن قتيبة في "أدب الكاتب" بعض أسماء الأضداد مثل "الجون" وهو للأسود والأبيض، و"الصريم" لليل والصبح، و"السُدفة" للضوء والظلمة، و"الناهل" للعطشان والريّان، و"الجلل" للكبير والصغير، إلخ.
كما ذكر جرجي زيدان في كتابه المذكور سابقاً بعض أسماء الأضداد، مثل: "قعد" التي تدل على القيام والجلوس، و"نضح" للعطش والري، و"ذاب" للسيولة والجمود، و"أفسد" للإسراع والإبطاء، و"أقوى" للافتقار والاستغناء، و"مأتم" للفرح والترح.
ومثل هذه الخاصية تجعل العربية لغة غير مضبوطة، تفتقد للدقة، بل وتجعل النص الوارد فيه مثل هذه الألفاظ نصاً غامضاً عرضة للتأويل والاختلاف في معناه لدرجة تصل حد النقيض.
الجمود الصرفي
تفتقد العربية للمرونة الصرفية، بعكس اللغات الهندوأوروبية سواء الرومانية، المتحدرة من اللاتينية، مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية، والجرمانية مثل الألمانية والهولندية والإنكليزية، والتي تتميز بالسوابق واللواحق لاشتقاق كلمة جديدة. ففي العربية، نجد أن الاشتقاق الصرفي يعتمد على تعديل وزن الكلمة أو تغيير حركاتها، وهو ما يقتضي تغيّر بنيتها بالكامل، بدلاً من إضافة بعض الحروف إليها أو حذفها منها.
في الإنكليزية مثلاً إذا أردنا الحصول على اسم الفاعل من فعل مثل يقتل Kill لا نحتاج إلا إلى إضافة er للكلمة، فنحصل على قاتل Killer، وإذا أردنا الحصول على اسم المفعول نضيف ed فقط، فنحصل على مقتول Killed، وإذا أردنا الحصول على المصدر نضيف ing فحسب، فنحصل على قتْل Killing. أما في العربية فتركيب الجملة يخضع لتغيير كلي في وزنها (بنيتها) أو شكلها (نطقها).
يؤدي هذا الأمر إلى صعوبة صك كلمات جديدة في العربية، مقارنة بمرونة غيرها من اللغات الجرمانية والرومانية، كما يجعل قواعد الصرف فيها على قدر غير قليل من التعقيد بالنسبة إلى غير المتحدثين بها، والناطقين بها على السواء، وهو ما يقودنا إلى العيب الخامس: تعقيد القواعد.
آمن الإغريق بأن اليونانية لغة الآلهة، والهندوس بأن السنسكريتية لسان الأرباب، والمصريون القدماء بأن لغتهم تتحدثها المعبودات، واليهود بأن العبرية "لغة الرب والملائكة". وبالحماسة نفسها، يجزم العرب المسلمون بأن العربية لغة أهل الجنة
تعقيد القواعد
تحتل اللغة العربية المرتبة الثانية ضمن أكثر لغات العالم صعوبة، بعد اللغة الصينية، بحسب موقع شركة "بابل" المتخصصة في تعليم اللغات. يُعزى ذلك إلى عوامل كثيرة، ربما يأتي في مقدمتها التعقيد الزائد على الحد في قواعدها النحوية.
تعج كتب النحو العربية بالكثير من القواعد التي تجعل من إتقان الكتابة العربية ونطقها بصورة صحيحة، أمراً يتطلب جهداً كبيراً مقارنة بباقي لغات العالم، ولما كانت اللغة في الأساس منظومة اتصال بين البشر، فإن هذا العيب يُعَدّ تقصيراً وظيفياً كبيراً في اللغة العربية.
بعض قواعد اللغة العربية قياسي، يمكن التمرس عليه بمجرد حفظ القاعدة، ويكون بمنزل منطق اللغة، وعقلها المفكر، لكن بعضها الآخر سمعي، يعتمد على حفظ ما تواتر عن العرب القدماء كما هو، وهو ما يمثل شذوذاً قاعدياً يقتضي حفظاً أعمى، وترديداً ببغائياً دون أي منطق.
ضخامة النحو العربي وتعقيده يمكن عزوه إلى الجمود الصرفي في اللغة العربية، المذكورة سابقاً، ناهيك عن سمة الإعراب التي أرهقت اللغة العربية بمئات - إن لم يكن آلاف - الحالات النحوية.
إهمال الأصوات
بحسب أستاذ اللغات السامية إسرائيل ولفنسون (1899 – 1980م)، في كتابه "تاريخ اللغات السامية"، تعتمد العربية مثل باقي اللغات السامية على الحروف الساكنة دون المتحركة (الأصوات) ولذلك لم يوجد بين الحروف علامات للأصوات، كما هو الحال في اللغات الآرية، وهذا الإهمال الشنيع للأصوات تسبب في إفراط الاهتمام بالحروف فزادت في عددها عن المألوف في اللغات الآرية، وأوجدت حروفاً للتفخيم والتضخيم والترقيق وإبراز الأسنان والضغط على الحلق إلخ.
اعتماد العربية على الحروف دون الأصوات، يطرح مشكلة أخرى تتمثل في صعوبة قراءة النص العربي إذا لم يكن مشكولاً لغير المتمرسين، وهو الخطأ الذي تداركته شقيقتها السامية: الجعزية (اللغة الإثيوبية القديمة) التي تتشكل حروفها من مقاطع صوتية جاهزة مثل (با بو بي إلخ) لا تحتاج معها إلى علامات التشكيل.
كما تفتقد العربية كثيراً من الأصوات التي تتميز بها اللغات الأخرى أيضاً، مثل حرف الفاء المثلثة أو "ڤيڤ" الموجود في كثير من شقيقاتها السامية مثل العبرية والجعزية، وهو في اللغات الهندوأوروبية كالفارسية والكردية واللغات الرومانية والجرمانية ولا ينطق في العربية، وكذلك حرف "الجاف" أو الجيم القاهرية، وغيره الكثير من الحروف والأصوات التي لم تعرفها العربية، وهذا يُعَدّ فقراً فيها مقارنة بلغة سامية أخرى مثل الجعزية.
ثمة مشكلات أخرى تصعّب نطق العربية، منها السمة الإعرابية التي تجعل نطق الحرف الأخير مرهوناً بموقع اللفظ من الجملة، فضلاً عن تشابه كثير من الكلمات، واختلاف نطق الكلمة الواحدة في بعض الأحيان بحسب بنيتها الصرفية، مثل الماضي والمصدر في كثير من الأفعال الماضية، مثل: فعل "لعب" والمصدر منه "لعب" كذلك.
سمة الإعراب
تُعَدّ سمة الإعراب، أو تغيّر نطق الحرف الأخير من الكلمة بحسب موقع الكلمة من الجملة، من العلامات المميزة للغة العربية، وهي لا تقتصر عليها، ورغم أن المتعصبين للعربية يرون في الإعراب ميزة، لكنه قد لا يكون كذلك للراغبين في تعلمها، إذ تعد سمة الإعراب إحدى مثالب العربية التي تجعلها من أصعب لغات العالم.
يرى بعض الباحثين مثل علي فهمي خشيم، أن الإعراب ظاهرة قديمة في اللغات السامية، وأن العبرية عرفت الإعراب في ماضيها القديم لكنها تخلت عنه مع تطور اللغة، بيد أن العربية أبقت على الإعراب، الذي يجعل من عملية التحدث السليم بها دون لحن (خطأ في الإعراب)، أمراً عسيراً حتى على أهلها، حتى وإنْ كانوا من خريجي كليات اللغة العربية أو ما يسمى بكليات "العلوم الشرعية" التي تعنى بها، بل وصلت إلى حد اتهام القرآن نفسه ببعض اللحن.
وهذه السمة الإعرابية التي كبّلت العربية بكثير من القيود، وأثقلتها بقواعد لا حصر لها، تشق على دارسيها لا سيما من غير أهلها، كما جعلت من التحدث بها بلباقة أمراً عسيراً، وهو ما دفع اللهجات العامية خلال تطورها للتخلص منها.
في الواقع، الضاد والظاء والحاء ليست حكراً على العربية، فالضاد موجود في اللغة الجعزية وكذلك القبائلية الأمازيغية والنيبالية، والظاء موجود في اللغة الألبانية، والحاء موجودة في جميع اللغات السامية تقريباً
تشابه الحروف
الحروف العربية ليست عربية في الأساس، وإنما مأخوذة عن الخط النبطي المتطور عن الخط السرياني، ويُعَدّ رسم الحروف العربية إحدى نقاط ضعفها، لتشابه حروف كثيرة منها، وهو ما تسبب في حدوث نزاع عند تدوين القرآن بسبب الاختلاف في قراءة الآيات، ما اقتضى في ما بعد إضافة النقط على يد التابعي أبي الأسود الدؤلي (ت. 688م).
وحتى اليوم يعاني غير المتحدثين بالعربية، والذين يرغبون في تعلم هذه اللغة التي يتحدث بها نحو 310 ملايين شخص في العالم، من صعوبة التمييز بين الحروف العربية المتشابهة مثل الحاء والخاء والجيم، والراء والزاي (الزين)، والدال والذال، إلخ.
تغير شكل الحرف العربي حسب موقعه في الكلمة يضيف صعوبة أخرى على مشكلة تشابه الحروف، ويجعل من تمييز الحروف بالنسبة لمتعلمي هذه اللغة أمراً غير هين.
اللغة الأم
هناك قصة مصرية عن الفرعون "بسماتيك" الذي أراد معرفة اللغة البشرية الأم، فجاء بوليد منع أي شخص من أن يكلمه، فكان أول كلمة نطق بها "تا" التي تعني في المصرية "الخبز" فاستنتج أن هذه اللغة أقدم اللغات. وظل هاجس أصالة للغة من أبرز سمات التعصب اللغوي، فكان أحبار اليهود يظنون أن العبرية أقدم لغات العالم، بحسب ولفنسون، وكذلك اللغة العربية لم تعدم مَن يصفها بذلك.
خلافاً لرأي المتعصبين للعربية – وما أكثرهم - فإن العربية هي أحدث اللغات السامية وليست أقدمها، فضلاً عن أن تكون أقدم اللغات طراً، وهو رأي غير علمي يستند إلى فكرة رجوع الأصل البشري إلى شخصين فقط.
وظهر مَن يعد العربية السلف القديم للغات الهندوأوروبية بل وأقدم اللغات البشرية طراً، مثل الكاتب عبد الرحمن أحمد البوريني في كتابه "اللغة العربية أصل اللغات كلها" والباحثة تحية عبد العزيز إسماعيل في كتابها "اللغة العربية الفصحى كسلف للغات الهندو-أوروبية وأصل للكلام" Classic Arabic as The Ancestor of Indo-Europian Languages and Origin of Speech، والطبيب المصري مصطفى محمود في كتابه "عالم الأسرار" وهي مزاعم لا تنهض على أي دليل علمي، ولا تتعدى حدود التعصب اللغوي الساذج، فالعربية لغة سامية تنتمي إلى عائلة اللغات الأفروآسيوية وهي بذلك لا علاقة لها على الإطلاق بعائلة اللغات الهندوأوروبية.
وهناك باحثون آخرون حاولوا رد كثير من اللغات إلى العربية، أو على الأقل بعض ألفاظها، مثل علي فهمي خشيم (1936 – 2011م) في كتابه "العربية اللاتينية" والذي عزا فيه ثلة من الألفاظ اللاتينية للعربية، ومن قبله أحمد كمال باشا (1951 – 1923م) الذي قارب بين ألفاظ المصرية القديمة والعربية، رغم أن هاتين اللغتين، سواء المصرية أو اللاتينية، تنتميان إلى شجرتين لغويتين مختلفتين عن الدوحة السامية التي تنتمي لها العربية، وهو أمر يتحفظ فقهاء اللغة في قبوله، حتى وإنْ أيده عالم مصريات مخضرم مثل أدولف إيرمان (1854 – 1937م).
وتعيين أصل اللفظ لإلحاقه باللغة المأخوذ منها يحتاج إلى نظر لا يكفي فيه المشابهة اللفظية إذ كثيراً ما تتفق كلمتان من لغتين في لفظ واحد ومعنى واحد ولا تكون بينهما علاقة وإنما يقع ذلك على سبيل التوارد بالاتفاق كما يقول جرجي زيدان، وثمة مثال على هذا الأمر يسوقه فقيه اللغات السامية، إسرائيل ولفنسون، ويتمثل بكلمة "شيش" التي تعني "ستة" في العبرية والفارسية ولا تعدو أن تكون مصادفة.
الشقيقة الصغرى
الاعتقاد بأن اللغة العربية مرادف للغة السامية إحدى أكثر الأكاذيب ذيوعاً في دوائر المثقفين العرب والمستعربين، فهناك طائفة غير قليلة من الكتاب والمفكرين الذين طغى حماسهم الديني على بحثهم اللساني، فزعموا أن العربية أقدم اللغات السامية، وأن الأخيرة مشتقة منها، أو أن الشعوب السامية من العرب، مثل علي فهمي خشيم الذي ذكر أن اللغة الأكادية ما هي إلا لهجة عربية، وأن الأكاديين "عرب أصلاً".
والواقع أن علم الساميات وأبحاث فقهاء اللغة وعلماء الآثار تشير إلى عكس ذلك، إذ تعد العربية من أحدث اللغات السامية، فهي الشقيقة الصغرى بين اللغات السامية، إذ يسبقها الآرامية أو السريانية ثم الكنعانية الحديثة والعبرية ثم اللغة البابلية الآشورية، بحسب فقيه اللغات السامية، إسرائيل ولفنسون.
وكان خشيم يستخدم تركيب "لغات عروبية" بدلاً من "لغات سامية" ولا يخفى ما في هذه التسمية من عصبية للعرب والعربية التي لا تعدو أن تكون الشقيقة الصغرى للغات السامية سواء البائدة أو الباقية.
وبلغ التعصب اللغوي بخشيم أن جعل الأمم "العروبية" أكثر تحضراً من لغة الفرس. يقول: "كانت لغة الفرس، بحكم ظروفهم البدائية، فقيرة في مجال الحياة المدنية الحضارية، وكان من الطبيعي أن يتأثر الغالب بلغة المغلوب"، معتبراً أن الألفاظ الدخيلة على العربية من الفارسية ما هي إلا ألفاظ "بابلية عروبية" عادت للعربية مرة أخرى.
الأفكار المجردة
خلو العرب القدماء من مظاهر الحضارة نجم عنه افتقار لغتهم لكثير من المفردات التي تعبر عن أفكار مجردة، وهو ما حتم على اللغة العربية استعارة كثير من الألفاظ من لغات الشعوب المتحضرة الأخرى كالسريان والروم والفرس، وهو ما يسمى بالاقتراض اللغوي، وتعج المعاجم العربية بعشرات المئات من الألفاظ المعربة عن أصل أعجمي، لا سيما في الفنون والعلوم والحرف التي لم يكن يعرفها العرب.
ويذكر جرجي زيدان أن العرب اقتبسوا من لغة الفرس أكثر مما اقتبسوا من سواها، وأن الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية أكثر ما تكون في أسماء العقاقير أو الأدوات أو المصنوعات أو المعادن مما يحمل إلى بلاد العرب من بلاد الفرس أو الروم أو الهند أو غيرها ولم يكن للعرب معرفة به من قبل.
نشأة العربية في بيئة بدوية فقيرة غير متحضرة حرمها من الكثير من المرونة والثراء اللغوي، وجعلها لا تعرف مقابلاً موضوعياً لكثير من الألفاظ والمصطلحات المجردة في اللغات الأخرى مثل لفظ "أقنوم" السرياني، أو لفظ "استراتيجية" اليوناني الأصل. ويرى جرجي زيدان أن أكثر الاصطلاحات الدينية والأدبية في العربية منقول عن العبرانية أو الحبشية، لأن اليهود والأحباش من أهل الكتاب.
ويشير غاي دويتشر إلى أن بعض اللغات تعجز عن التعبير عن أفكار معقدة لفقدانها قواعد نحو منطقية بما فيه الكفاية". وكان الأديب الألماني يوهان غوتفريد هردر (1744 – 1803) يرى أن "فكر الشعوب يتجلى في شكل لغتها أكثر منه في أي مكان آخر".
اللغة الشاعرة
كان الكاتب عباس العقاد من أشد المتعصبين للغة العربية، وهو يعدها "لغة شاعرة" وله كتاب بهذا الاسم في هذا المعنى، يقول فيه إن "اللغة الشاعرة تصنع مادة الشعر وتماثله في قوامه وبنيانه، إذ كان قوامها الوزن والحركة، وليس لفن العروض ولا للفن الموسيقي كله قوام غيرها" وهو هنا يردد رأي الجاحظ الذي ذهب إلى أن العربية تنفرد عما سواها بفن العروض.
وللأديب إبراهيم المازني رأي في كتابه "حصاد الهشيم" دحض زعم صديقه العقاد، وعده من ضروب العصبية، ورفض فكرة تفوق العرب في الشعر، أو سمو مكانة لغتهم فيه، إذ قال: "لسنا نحاول الزراية على العرب أو الغض من شعرهم، وإنما نقول إن العرب ليسوا أشعر الأمم!". مضيفاً: "وما ينكر أن الشعوب الآرية أفطن لمفاتن الطبيعة وجلالة النفس الإنسانية وجمال الحق والفضيلة إلا كل مكابر ضعيف البصيرة أو رجل أعمته العصبية الباطلة".
ولا يخفى ما في رأي العقاد أو المازني من تعصب لغوي، وهذا التحيز ناجم عن تعريف مضمر مسبق للشعر يقيس عليه كل كاتب رأيه في شعرية كل لغة، فالعقاد ينطلق من قاعدة الوزن والإيقاع، والمازني ينطلق من قاعدة البيان، في حين لا تخلو أي لغة في العالم من هاتين السمتين، سواء كانت سامية أو آرية أو غير ذلك.
لغة الضاد
ومن علائم العصبية اللغوية كذلك، التباهي ببعض الحروف التي يُزعم قصرها على العربية. وتسمى العربية بلغة الضاد، أي حرف الضاد، الذي يتفاخر العرب بأنه غير موجود في لغة من اللغات غير العربية، حتى نظم أحمد شوقي (1868 – 1932م) قائلاً: "إن الذي ملأ اللغات محاسناً/ جعل الجمال وسره في الضاد". بيد أن هذا الزعم يقتضي دراسة جميع لغات البشر (7 آلاف تقريباً) دراسة صوتية مقارنة للتأكد من صحته.
وربما تعود هذه الأسطورة إلى حديث منسوب للنبي محمد يقول فيه: "أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش" وبحسب إبراهيم أنيس في كتابه "الأصوات اللغوية" كان النطق القديم بالضاد إحدى خصائص لهجة قريش. وربما تعود هذه الخرافة لأبي الطيب المتنبي (915 – 965م) الذي نظم: "وبهم فخر كل من نطق الضاد/ وعوذ الجاني وغوث الطريد".
وتختلف كتب اللغويين القدماء في تحديد طريقة نطق هذا الحرف اختلافاً كبيراً، حتى ليؤكد محمود عكاشة في دراسته "أصوات اللغة: دراسة في الأصوات ومخارجها وصفاتها وتماثلها وتخالفها بين القدماء والمحدثين" على أن "الضاد التي نطق بها القدماء، ليست هي الضاد التي ننطق بها اليوم، فالضاد الحديثة تطورت في النطق عن الضاد القديمة التي وصفت بها العربية بأنها لغة الضاد".
وقد انقسم اللغويون القدماء بشأن نظرية اقتصار الضاد على العربية، فقد أيدتها طائفة مثل: ابن دريد (837 – 933م) في "جمهرة اللغة" والجواليقي (1073 – 1144م) في "المعرب من الكلام الأعجمي" والفيروزآبادي (1329 -1414م) في "القاموس المحيط".
وفي المقابل عارض قصر الضاد على العربية لغويون كبار مثل الخليل بن أحمد (718 – 791م) الذي كان يرى أن "الظاء" وليس "الضاد" هو الحرف الذي تتميز به العربية عما سواها، بحسب رواية ابن منظور في "لسان العرب" وهو الرأي الذي تبناه ابن فارس (941 – 1004م) في كتابه "الصاحبي في فقه اللغة" وزاد عليه "الحاء"، كما عارضها ابن جني (934 – 1002م) في "سر صناعة الإعراب" وعبد الملك الأصمعي (740 – 831م) بحسب رواية الجاحظ في "البيان والتبيين".
وفي الواقع، الضاد والظاء والحاء ليست حكراً على العربية، فالضاد موجود في اللغة الجعزية (الإثيوبية السامية القديمة) وكذلك القبائلية الأمازيغية والنيبالية، والظاء موجود في اللغة الألبانية، والحاء موجودة في جميع اللغات السامية تقريباً.
تفوق مزعوم
هذه العيوب لا تعني أنها مقصورة على العربية دون غيرها، مع عصمة باقي اللغات منها، كما لا يقصد منها أن العربية لغة منحطة، أو جامدة وفقيرة ومتخلفة، بل على العكس، هي لغة عريقة وثرية ومرنة، ولكن مثل هذه العيوب وغيرها تجردها من التفوق المزعوم الذي أساء إليها به المتعصبون.
اللغة العربية لا تعدو أن تكون واحدة من نحو 7 آلاف لغة يتحدثها البشر في الوقت الراهن، بحسب عالم اللغة إدوارد فاينغان في كتابه "اللغة: بنيتها واستخدامها" Language: its structure and use، وهي إحدى لغات الأمم المتحدة الست، وخامس أكبر لغة في العالم من حيث عدد المتحدثين بها، بعد الصينية والإسبانية والإنكليزية والهندية، ويكفيها أنها نجحت في توحيد دول وشعوب تنتمي إلى حضارات وثقافات وأعراق مختلفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...