حينما كانت التطورات في ساحة الفن العالمي على وشك الحدوث منذ ستينيات القرن المنصرم، كانت إيران قد دخلت بعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، حقبةً من الابتعاد والإهمال الفني والمواكبة العالمية.
وبعد عقدين من هذه القطيعة التي فرضها النظام الجديد على الساحة الفنية وأصحابها، جاءت حكومة التيار الإصلاحي (1997-2005)، لإنهاء الانقطاع، والالتحاق بالعالم، فتُرجمت الكتب الفنية ودخلت المجلات الفنية العالمية البلاد، وأقيمت المعارض الفنية الدولية في الداخل، وذهب الفنانون الإيرانيون للمشاركة في الأحداث والمهرجانات حول العالم.
تم تحديث النشاط الفني الإيراني عبر الجهود المبذولة، وبعد مرور السنوات انتبه المعنيون إلى أن سوق الفن متواضع جداً ولا قيمة للأعمال الفنية الإيرانية في الداخل، فجاءت مبادرة مزاد طهران (Tehran Auction).
أنهت دار طهران للمزاد، الدورةَ السابعة عشرة من مزادها العلني للأعمال الفنية الحديثة والمعاصرة الإيرانية عام 2023، حيث تم بيع مئة من أصل 110 أعمال فنية مشاركة.
وبإمكانكم مشاهدة الأعمال الإيرانية التي بيعت في المزاد خلال الدورات المتعاقبة في هذا الرابط.
كان أصحاب الأعمال الفنية يعرضون بضائعهم في مزادات العالم، قبل أن يتم إنشاء دار طهران للمزاد عام 2012. وساهم المزاد منذ انطلاقه في إنعاش اقتصاد الفن الإيراني وإضفاء رصيد اجتماعي واقتصادي إلى أصحاب المجموعات الأثرية الفنية
سجل مزاد هذا العام، رقماً قياسياً في المبيعات بالنسبة إلى الأعوام الماضية، حيث تخطى 213 مليار تومان، أي ما يعادل نحو 4.2 مليون دولار، وبما أن العملة المحلية تعيش أسوء أيامها مقابل الدولار، يُعدّ الرقم هذا جيداً لمزاد محلي.
كانت أعمال هذا العام التي عُرضت في الشهر الحالي تموز/ يوليو، قد وصلت من مئة فنان إيراني من داخل البلاد وخارجها، هم من الشخصيات المعتبرة المعاصرة في السوق الفني، وفي طليعتهم الشاعر والرسّام الإيراني الشهير سُهراب سِبهري (Sohrab Sepehri)، وهو صاحب اللوحات الأغلى في تاريخ المزاد.
وكالعادة كانت لوحاته تحتل الصدارة في المبيعات، إذ حصدت هذا العام لوحته غير المعنونة ذات المناظر الطبيعية المجردة، والمكونة من بركة مياه واثنتين من أزهار شقائق النعمان الحمراء ونصف جذع شجرة، أعلى رقم في المزاد. كما نالت لوحة أخرى له من مجموعة لوحاته حول جذوع الأشجار، المرتبة الثالثة.
عرض مزاد طهران في المحصلة نحو 86 لوحة رسم و9 تماثيل و4 صور و11 لوحة رسم الخط (كاليغرافي). ولم تقف الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي تعصف بالبلاد، عقبةً أمام ازدهار تجارة القطع الفنية، ومانعاً أمام إنفاق الأغنياء على عدد صغير وثمين من الأعمال الفنية الإيرانية.
تاريخ المزاد
كان أصحاب الأعمال الفنية يعرضون بضائعهم في مزادات العالم، قبل أن يتم إنشاء دار طهران للمزاد عام 2012. وساهم المزاد منذ انطلاقه في إنعاش اقتصاد الفن الإيراني وإضفاء رصيد اجتماعي واقتصادي إلى أصحاب المجموعات الأثرية الفنية، كما تمكّن من جمع الأعمال الفنية الإيرانية في مزاد وطني داخل البلاد، حتى ولو كان أصحابها مغتربين.
تأسست شركة دار مزاد طهران، من قبل القطاع الخاص، وأخذت الشركة على عاتقها التسويق لأشهر وأفضل النماذج من الأعمال الفنية الحديثة والمعاصرة وأحياناً الكلاسيكية الإيرانية.
وإلى جانب اهتمام الدار بلوحات نجوم الفن وأعمالهم، إلا أنها أخذت تسوّق للفنانين الشباب بغية جلب اهتمام هواة الفن الإيراني المعاصر من داخل البلاد وخارجها، وإتاحة الفرصة لشراء أجود الأعمال في أنواع مختلفة منها.
وتمكّنت الدار في دورتها الأولى عام 2012، من بيع 73 عملاً بتكلفة لم تصل إلى مليون دولار وقتذاك، لكنها كانت بدايةً ناجحةً في فتح باب المزاد العلني كي تصل اليوم بعد 11 عاماً إلى مكانة مرموقة وسط الأوساط المهتمة بالفن.
ماذا يباع؟
يقدّم مزاد طهران أعمال الفنون البصرية الحديثة والمعاصرة، بما في ذلك اللوحات والمنحوتات والصور الفوتوغرافية والخط، وكذلك بعض الأعمال لأساتذة الفن الإيراني الكلاسيكي، كالرسام الأسطوري كمال المُلك وطلابه ومعاصريه، وأمثلة على الرسم من تلك الفترة. وعلى هذا الغرار لم يتم تقديم أي أعمال فنية أو أشياء تراثية خارج هذا التعريف في المزاد.
والمقصود بالفن الكلاسيكي في دار مزاد طهران هو أعمال الفنان الشهير كمال الملك (1847-1940)، وطلابه من الصف الأول وأتباع مدرسته، الذين قدموا أسباباً للتخلي عن تقليد الرسم الإيراني القديم، والانتقال إلى الفن الحديث.
يعود الفن الحديث إلى التطور في الفن الإيراني خلال القرن الماضي، والذي اندلعت شراراته الأولى في أربعينيات القرن العشرين، حيث حاول الفنانون الإيرانيون إيجاد فهم جديد للفن والتعبير الفني في عصر الحداثة عبر تلقّي مفاهيم جديدةً من الفن الحديث.
تنظم دار طهران للمزادات الفنية، معرضاً ومزاداً علنياً مرتين في العام الواحد، ويختص المزاد الأول بالأعمال الفنية الحديثة والكلاسيكية في موسم الصيف، والمزاد الثاني بالأعمال الفنية المعاصرة في موسم الشتاء.
ومن خصال دار طهران للمزاد الفني، أنها حذفت عمولة المشتري من المبيعات كي تشجع أفراداً كثيرين على ابتياع الأعمال الفنية.
"لسنا بمعزل عن العالم"
أسس مزاد طهران الفنان علي رضا سميع آذر، وهو شخصية أكاديمية فنية، كما كان مديراً لمتحف طهران للفنون المعاصرة، وما زال خبيراً في مزاد "كريستيز" دبي، في شؤون الأعمال الفنية الشرق أوسطية.
"لقد دخلنا عالم ما بعد الحداثة، وكل شيء بما في ذلك الفن، مرتبط إلى حد ما بالقضايا الاقتصادية؛ من المستحيل الحديث عن تطور الثقافة والفن بينما القيمة المادية للفن منخفضة. لقد توصل عالم اليوم إلى استنتاج مفاده أن قيمة الفن تتبلور بوضوح في سوقه. يعكس سوق الفن إلى حد كبير القيمة التي يعطيها تاريخ الفن للفنان، وهذه القيمة تظهر نفسها كسجل. لقد كانت هذه تجربةً عالميةً، ونحن لسنا بمعزل عن العالم، وتالياً فإن تطور الفن في إيران يمر أيضاً من خلال التقييم المادي للفن الذي يحدث في هذه المزادات والمعارض"؛ هكذا جاء ردّه على منتقدي ظاهرة مزاد طهران، خاصةً الفئة المحافظة من الفنانين والمجتمع.
"الكثير ممن دخلوا المزاد لشراء الأعمال، أنهوا فترة التباهي بسياراتهم في الشوارع. إنهم أدركوا أن ما كانوا يتباهون به أصبح أمراً مخجلاً وطفولياً. والشيء الذي يمكن أن يعتزوا به هو العمل الفني والثقافي والروحي"
خلال سنوات إنشاء دار المزاد، اهتمت الحكومة المعتدلة في عهد الرئيس حسن روحاني، بدعم الفن عبر زيادة عدد صالات العرض وتأسيس كليات الفنون وزيادة مبيعات المجلات الفنية. كما ازداد فهم المجتمع وإدراكه بأن البعد المادي يضاهي البعد المعنوي في الفن، فشدد علي رضا على قوله: "اليوم قلّ من يفكر في أن الفنان الجيد هو الفنان الفقير".
لم يخلُ مزاد طهران من بعض المترفين والأغنياء، الذين يشترون اللوحات للتفاخر والتباهي دون معرفة بالفن والفنانين، لكن مدير المزاد يقول: "الكثير ممن دخلوا المزاد لشراء الأعمال، أنهوا فترة التباهي بسياراتهم في الشوارع. إنهم أدركوا أن ما كانوا يتباهون به أصبح أمراً مخجلاً وطفولياً. والشيء الذي يمكن أن يعتزوا به هو العمل الفني والثقافي والروحي، والاعتزاز بالفن هو الاعتزاز بالإبداع والجمال والتعبير الجيد عن المشاعر الإنسانية".
وعن فكرة تأسيس مزاد طهران، شرح مديره كيف أن الأعمال الإيرانية كانت تُعرض في مزاد "كريستيز" دبي، بسعر مرتفع ولكنها في الداخل كانت رخيصةً، فتهافت الزبائن الأجانب على طهران كي يشتروا الأعمال الفنية بأسعار منخفضة ثم بيعها في مزاد دبي أو مزادات العالم، وكان هذا تهديداً لسوق الفن الإيراني، وكان حافزاً لإنشاء المزاد دعماً للسوق المحلي وارتفاع أسعار اللوحات في الداخل للوصول إلى مستوى الأسعار العالمية. أما اليوم فقد تجاوزت أسعار الأعمال الفنية في مزاد طهران، أسعارها في مزادات الدول الأخرى.
نجح مزاد طهران في إيصال رسالته إلى هواة الفن حول العالم بأن الفن الإيراني داخل البلاد، له جمهور خاص ومتمكن، فبإمكانهم أن يعوّلوا على سوق فنّي إيراني موثوق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.