أثناء حضوري ورشة تفاعلية للدعم النفسي مخصّصة للأمهات الجديدات، حذّرتنا واحدة من المشاركات بألا نحمل أطفالنا وحدنا طوال الوقت، بل يجب أن "نُجبر" الأزواج على المشاركة في ذلك، فقد قابلت -بحكم عملها كاختصاصية "مَساج"- أمهاتٍ انحنَت ظهورهن بضعة سنتيمتراتٍ بعدما وصل أطفالهن لأربع أو خمس سنوات، إذ اعتبرنَ بقاء الأطفال على أكتافهن جزءاً من بطولتهن الزائفة، حسب قولها.
"لكن زوجي لا يمانع"... أجابت إحدانا، فعادت الخبيرة بالمساج -وبالرجال- لتردّ بحدة: "الندالة درجات، لكن كلهم أندال!"، ثم نصحت بحسم: "لا تكُنَّ أمهات عزباوات!".
ظلت تطاردني تلك الجلسة عدة أشهر، توقفت كثيراً أمام صياغة الأم التي تظن أنها مدعومة من زوجها جملة "زوجي لا يمانع"، فهي لم تقل "زوجي يشارك". هنا بالضبط تكمن الأزمة.
الوعي الجمعي يُثبّت في أذهاننا أن مهمّة الإنجاب بكل فصولها هي مسؤولية الأم وحدها، وبالتالي إذا لم يمانع الزوج، وأسهم بصورة ما يفضّلها، يكون هذا تكرّماً وتطوعاً منه.
فليسأل كل أب نفسه عن مدى مشاركته في تفاصيل حياة أطفاله: هل تُحمّم طفلك؟ هل تعرف نوع صابون الاستحمام المناسب لجلده؟ هل تستطيع تغيير حفاض طفلك؟ هل تعرف جرعات الفيتامينات التي يتناولها ومواعيدها؟ هل تعرف توقيت التطعيم القادم؟
يحاصر وعينا الجمعي واقعٌ غير واقعي وغير متوازن، فإعلانات المواد الغذائية للرُّضَّع تخاطب الأمهات، إعلانات الحفّاضات تخاطب الأمهات، أطباء الأطفال يخاطبون الأمهات، استشاريو التربية يخاطبون الأمهات، إعلانات شيّالات الأطفال وسياراتهم وألعابهم لا يوجد بها موديل واحد مذكّر، حوامل التغيير للرُّضع بالأماكن العامة غير موجودة بحمامات الرجال كحال حمامات النساء، لماذا اعتبر الجميع أنها مهمة الأم وحدها؟ كيف سيمشي الحال إذا احتاجت طفلتي إلى التغيير وهي مع أبيها في الخارج وحدهما؟
لماذا يعتبر هذا المجتمع كل الأمهات عزباوات؟ لماذا هذا التحييد المطلق لدور الأب؟
اشتريت كتب أطفال لصغيرتي من منتج محلي عبر الإنترنت، وفوجئت أن جميعها موجهة للأم، حتى إنها تحمل عناوين كـ "أساعد ماما" و"احكي يا ماما"، وكثيراً من "الماما"، حتى حكْي القصص يراها المجتمع مسؤولية الأم وحدها؟!
هذه واحدة من صفحات أطباء الأطفال على فيسبوك، جميع منشوراتها تبدأ إمّا بـ"بصي يا مامي" وإما "عارفة يا ست ماما؟"، الأغرب أن جميع التعليقات والأسئلة تكون صادرة عن أمهات، رغم أن المواضيع المطروحة لا بد أن تشغل بال الأب والأم معاً، ولا بد أن يطبقا نصائحها معاً، ولا بد أن يعرفا تلك المعلومات معاً، على أقل تقدير حتى يذكِّر أحدهما الآخر حين ينسى أو يخطئ. السهو والخطأ أفعال إنسانية حتمية، خاصة إذا كان شخص واحد يقوم بكل المهمات.
استشارية الرضاعة الطبيعية كانت تشترط حضور زوجي جلسات تدريبي، رغم أن هذا الملف بالذات يخص الأم بحكم الفطرة، لكنها كانت تقول: "الطفل نتاج مشترك لطرفين، لا بد أن يخوضا التجارب ويتفهماها ويهضماها عاطفياً ومادياً معاً"، حتى إنها رسمت لنا في ظهر روشتة الفيتامينات المطلوبة نقطةً تمثل طفلتنا، تحويها دائرة تمثلني كأُم، ومربعاً للأب يحوي النقطة والدائرة معاً، وكلما أديتُ أداءً أعجبها كانت تطلب من زوجي أن يكافئني بـ"عزومة"، وليس بمساعدة في أمور الرضيعة، باعتبار أن ذلك ليس مكافأة إضافية، بل جزءاً من الواجبات.
في جلسة الدعم النفسي تلك، قالت أمّ إن زوجها كان يعمل نهاراً ويخرج لأصدقائه ليلاً ليتخفّف من ضغوطات عمله، وأنها ظلت أسبوعاً كاملاً لا تستطيع ترك رضيعها لتستحم! إذا غفا الرضيع تغفو بجانبه تعباً، فقرّرت الذهاب إلى بيت أهلها بأدوات استحمامها لتجد المساعدة، وفي تلك الليلة اعتزمت ألا تعود إلى بيت الزوجية، واختارت أن تفعّل نظام "أمّ وحيدة/عزباء" بدلاً من حياتها الزوجية الصورية.
أما حكايات مَن تعرضن للاعتداء الجسدي في أثناء فترة الرضاعة بسبب كلمة اعتبرها الزوج "استفزازية" أو وجبة غداء لم تُعدّ، فهي تخص أمهات لسنَ وحيدات فحسب، بل يحاربن أشباحاً تعطّل مهمتهن المستحيلة.
يحاصر وعينا الجمعي واقعٌ غير واقعي وغير متوازن، فإعلانات المواد الغذائية للرُّضَّع تخاطب الأمهات، إعلانات الحفّاضات تخاطب الأمهات، أطباء الأطفال يخاطبون الأمهات، استشاريو التربية يخاطبون الأمهات، إعلانات شيّالات الأطفال وسياراتهم وألعابهم لا يوجد بها موديل واحد مذكّر
في مشهد من مسلسل "الهرشة السابعة"، تنصح نادين صديقتها سلمى بأن تُنجب رغم عدم رغبة زوجها. تقول سلمى بخوف: "مش عاوزة أشيل مسؤوليته لوحدي". ترد نادين بحكم تجربتها: "كده كده الأم اللي بتربي لوحدها".
بضع حلقات ونرى سلمى تواسي نادين بعد طلاقها:
- "عمرك ماضاعش، اتجوزتي اللي بتحبيه وخلّفتي منه ولدين".
- "هو كمان اتجوز وخلف ولدين، لكن ماتعطلش ونجح وكبر في مجاله".
الخلل في هذه العلاقة وما يشبهها يكمن في القاعدة التي فرضتها الأعراف المضللة بأن "الأم هي اللي بتربي".
التربية عملية مشتركة كتخليق هذا الطفل، لا ينتهي إسهام طرف فيها ليؤدي آخر الدورَين، وبما أن واقعنا يقر مشاركة المرأة في دخل الأسرة في غالب الأحيان، فمنطقياً أن يستمر فعل المشاركة في كل خطوة يخطوها الوليد الجديد.
فليسأل كل أب نفسه عن مدى مشاركته في تفاصيل حياة أطفاله: هل تُحمّم طفلك؟ هل تعرف نوع صابون الاستحمام المناسب لجلده؟ هل تستطيع تغيير حفاض طفلك؟ هل تعرف نوع الحفاض ومقاسه أصلاً؟ هل تعرف جرعات الفيتامينات التي يتناولها ومواعيدها؟ هل تعرف توقيت التطعيم القادم؟ هل تقرأ في التربية وأساليبها؟
الأمومة ليست عقاباً للنساء، وإفناء المرأة لا يفيد أحداً، خصوصاً ذلك الأب المحروم من متعة الاتصال بعائلته وترك أثر حقيقي فيها. افرضي المشاركة، فأنتِ لستِ أماً عزباء، وإن أردت أن تكوني كذلك، فليكن هذا خيارك وليس ما يُفرض عليكِ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...