"هل لديك علاقات نسائية خارج قطاع غزة؟ لماذا لم تتزوج حتّى الآن!"، قد يبدو السؤال للوهلة الأولى مطروحاً في مقابلة للتعارف أو الارتباط أو على الأقل في إطار العائلة والأصدقاء. لكنه في الحقيقة هو أحد الأسئلة التي طُرحت على الشاب الغزّي إيهاب (32 عاماً) في مقابلة أمنية خلال محاولته السفر عبر معبر رفح، في وقت سابق من العام الجاري، انتهت برفض طلبه وإعادته إلى القطاع المحاصر منذ 2007.
يُعد معبر رفح نافذة غزّة الوحيدة على مصر والعالم. ويتعيّن على الفلسطينيين الراغبين في السفر من خلاله تسجيل أسمائهم لدى السلطات الفلسطينية قبل أسبوعين إلى أربعة أسابيع من الموعد المقرر لسفرهم. ويجوز لهم تقديم طلبات السفر إلى السلطات المصرية مباشرة عبر شركة محلية متخصصة.
لكن إجراءات وقرارات سفر المواطنين الغزّيين عبر المعبر، سواء من ناحية السلطات الفلسطينية أو المصرية، تفتقر إلى "الشفافية"، وفق "أوتشا" - مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية الذي يوضح أنه لا يُسمح إلا بمرور الأشخاص الذين تصدر الموافقة على طلباتهم خلال أيام عمل المعبر الرسمية (من الأحد حتى الخميس) على أن الرحلة إلى القاهرة "غالباً ما تكون طويلة وتشهد التوقف مرات عديدة للفحص من جانب القوات الأمنية المصرية".
بحسب تقرير لمنظمة "چيشاه-مسلك" الحقوقية الإسرائيلية، عَبَر نحو 23,060 فلسطينياً معبر غزّة في كلا الاتجاهين، كمعدل شهري، خلال الأشهر الـ11 الأولى من عام 2022، بمعدل أقل من المتوسط الشهري البالغ أكثر من 40 ألفاً قبل عام 2013. تُشير تقارير متزايدة إلى أن رحلة السفر عبر معبر رفح ازدادت مشقّة وكلفة منذ وصول الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي إلى السلطة حيث استحدثت إدارته نظام "التنسيق الأمني".
وتراوح ساعات رحلة الذهاب من معبر رفح للقاهرة بين 20 و 40 ساعة، بينما رحلة الإياب قد تمتد لثلاثة أيام، بعد أن كانت الرحلة من ست إلى 10 ساعات فقط ذهاباً وإياباً قبل عام 2013. يتعلق التأخير بالتشديدات الأمنية وتكرار التفتيش وتغيير مسار الرحلة في سيناء.
وتتهم منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير حديث مصر بأنها "تقيّد حركة الأشخاص والبضائع عبر معبر رفح مع غزة، وأحياناً تغلق المعبر بالكامل".
"هل لديك علاقات نسائية خارج قطاع غزة؟ لماذا لم تتزوج حتّى الآن!"... لماذا قد تطرح أسئلة كهذه في "مقابلة أمنية" لفحص طلب سفر؟ حدث هذا بالفعل مع شاب من غزّة حاول السفر عبر معبر رفح!
"أحد أسوأ أيام حياتي"
منذ تخرجه في تخصص دراسة الهندسة المدنية عام 2013، لم يجد إيهاب عملاً نظراً لوجود عدد كبير من الخريجين في نفس تخصصه، غالبيتهم متعطلون عن العمل لقلة المشاريع الإنشائية في القطاع. فكّر في السفر إلى تركيا على سبيل السياحة، آملاً أن يجد فرصة عمل ويستقر هناك.
في عام 2005، كانت المرة الأولى التي يغادر فيها إيهاب غزّو عبر معبر رفح إلى مصر لزيارة منزل جدّه لأمه في محافظة الشرقية. كانت تجربة جيدة إلى حد ما. لاحقاً، خاض تجربتين "مكلفتين" للسفر خلال المعبر. الأولى في عام 2018 حين رافق والدته للعلاج في القاهرة واضطر لدفع 800 دولار لمكتب سفريات لتسهيل دخوله معها. والثانية عام 2019 حين قصد الإمارات بحثاً عن عمل. دفع حينها 700 دولار تحت بند "تنسيق السفر" لتيسير وتسريع سفره، على حد قوله.
هذا العام، قرر إيهاب أن "يجرّب حظّه" ويقدم طلباً للسفر وينتظر "دوره" وأن يخضع للإجراءات الروتينية لتفادي دفع مبلغ "التنسيقات" الدولاري الذي يراوح راهناً بين 200 و500 دولار أمريكي، وفق شهادات ما لا يقل عن خمسة مواطنين غزّيين سافروا عبر المعبر أخيراً. علماً أن مبلغ التنسيقات يختلف من "سمسار" لآخر أو شركة سياحة وسفر وأخرى.
يقول إيهاب لرصيف22 إن يوم السفر كان "أحد أسوأ الأيام في حياتي" حيث خضع لمقابلتين أمنيتين مريرتين، واحدة مع ضابط من جهاز الأمن الداخلي التابع لوزارة الداخلية في غزّة والأخرى على الجانب المصري.
في البداية، سأل الضابط الغزّي إيهاب إذا ما كان ينوي العودة إلى غزّة مرة ثانية، فأجابه: "لا أعلم. لا أدري إلى أين قد يقودني نصيبي". ثم ازدادت الأسئلة صعوبة وسخونة إذ شعر إيهاب بالضغط والتوتر، لأنه مضطر للإجابة عن هذه الأسئلة وبأنسب طريقة ممكنة حيث سيعود حتماً للقطاع لرؤية أهله ولا يريد عداوة مع الجهاز الأمني المسؤول عن المعبر.
ومن بين الأسئلة التي وُجِهَت إلى إيهاب في المقابلة الأمنية: هل تلقيت أموالاً من خارج قطاع غزة مسبقاً عبر حوالات بنكية أو مكاتب صرافة؟ ماذا فعلت خلال سفرك السابق إلى الإمارات؟ هل قابلت أي ممثلين لأية جهة أمنية هناك؟ مَن قابلت من الفلسطينيين الغزّيين من أصدقائك في الإمارات؟ من ستقابل في تركيا؟
يضيف أنه خضع لاستجواب مماثل من قبل ضابط مصري، انتهى برفض سفره وإعادته إلى غزّة، وهو ما حثه على دفع "مبلغ التنسيقات" لإنجاز الطلب. يعتقد إيهاب أنه لم يكن هناك سبب لرفض سفره وأن المبرر الوحيد المعقول لديه هو عدم دفعه "مبلغ التنسيقات".
ولا تُبدي السلطات المصرية التي تُدير الجانب الآخر من معبر رفح أسباباً لرفض سفر المواطنين الفلسطينيين الذين تكتنف البعض منهم "شبهات أمنية" من المنظور المصري. وتكتفي وزارة الداخلية في غزّة في المقابل بنشر كشوفات التنسيقات عبر موقعها الإلكتروني اليومية بأسماء الأشخاص الذين صدرت الموافقة على سفرهم (تتراوح أعدادهم بين 80 و200 شخص)، علاوة على تضمين أعداد الممنوعين من السفر الذين يقدرون بالعشرات كل أسبوع.
"السفر في أي مكان آخر خارج أسوار غزّة سهل جداً، غير مرهق نفسياً، ولا مذل بالقدر الذي عشته على معبر رفح"... متى يتمتع سكان غزّة بحرية التنقل أو على أقل تقدير بتجربة سفر "غير مهينة أو مكلفة" عبر معبر رفح؟
من تحيط بهم هذه "الشبهات الأمنية" يضطرون لعمل تنسيق يطلق عليه "دخول دون العرض الأمني" ويكلّف مبلغاً يتراوح بين خمسة إلى ثمانية آلاف دولاراً. في حالة الموافقة، ينتقل الشخص من معبر رفح إلى "باص ترحيلات" ومنه إلى أحد المطارات المصرية رأساً للسفر خارج البلاد. وهو ما حدث مع صديق إيهاب الذي كان يخطط للسفر إلى تركيا ومنها إلى أوروبا براً.
رحلة محفوفة بـ"الخوف"
حتّى مع دفعه مبلغ التنسيقات، كان إيهاب على موعد مع معاناة يعيشها غالبية الفلسطينيين الذين يستخدمون معبر رفح - الانتظار الطويل في ظروف توصف أحياناً بأنها غير آدمية. يقول: "داخل الصالة المصرية، هناك غزّيون من شدة آلام الانتظار يقومون بالتحسبنَّ على معاناتهم المستمرة لكن بصوتٍ خفيض، لأن الخوف من الإهانة يكون حاضراً… ببساطة لا نجرأ على الانتقاد ونستسلم للانتظار حتى مناداة الاسم ثم السفر".
يشكو إيهاب وغزّيون آخرون - جميعهم من الذكور - خضوعهم لما يصفونه بأنه "تفتيش مهين" على الجانب المصري. ويلفتون إلى اضطرارهم إلى دفع 150دولاراً مقابل المواصلات إلى القاهرة، علاوة على مبلغ 35 دولاراً رسوم تأشيرة الدخول. يستدرك بأن سعر التأشيرة هو 25 دولاراً وأنه لا يجرؤ على الاستفسار عن سبب جمع مبلغ أكبر من المفروض.
يقول: "أعرف أن ‘التنسيق‘ عملية غير قانونية وأن الكثير من رسوم السفر المفروضة علينا كغزّيين أيضاً. لكننا نريد أن نخرج من هذا ‘السجن‘، ولا أحد منّا يستطيع الاعتراض باختصار لأننا خائفون وليس أمامنا غير هذا المعبر - نافذة العصفور إلى خارج القفص".
بعد الانتهاء من مرحلة وضع أختام الدخول، والوصول إلى سيارات التنقل، تبدأ المعاناة من الرحلة الشاقة عبر الطرق الصحراوية ونقاط التفتيش الكثيرة. وهنا ينوّه إيهاب أن من يُنقلون عبر "باص الترحيلات" لا يسمح لهم بالوقوف أو الانتظار في أي محطة إلا عند غرفة الترحيلات في مطار القاهرة.
يسرح إيهاب قليلاً بينما يسترجع رحلته الأخيرة من غزّة إلى مصر عبر معبر رفح، ويقارنها برحلته السياحية بين مدينتي أنطاليا وألانيا الشاطئيتين في تركيا في رحلة طيران داخلي. يفترض أنه تخطّى مساحة ربما أكبر من فلسطين نفسها، وهو يتأمّل ويتعجّب: "المطار والميناء والمعبر… جميعها لا تتمتع باستقلال فلسطيني".
"لا أُخفي طموحي في الوقت الحالي للوصول لأحد البلدان الأوروبية وطلب اللجوء هناك، حتّى أحصل على أي حق من حقوقي الإنسانية الأساسية التي لا أتمتّع بها كمواطن في غزّة. تبيّن لي أن السفر في أي مكان آخر خارج أسوار غزّة سهل جداً، غير مرهق نفسياً، ولا مذل بالقدر الذي عشته على معبر رفح"، يختم إيهاب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...