على عكس الصورة المتداولة عن صعيد مصر ونسائه، والتي تدفع بالسيدات إلى صدارة المشهد لتؤكد أن المرأة في الصعيد هي المحرّض الرئيس على الأخذ بالثأر، اختارت صفاء عسران، ابنة محافظة قنا جنوب القاهرة، أن تقف على الجانب الآخر من تلك الصورة، حاملةً إصرارها وطموحها وعزيمةً لا تلين على أن تقضي على فكرة الثأر في الصعيد إلى غير رجعة.
خالفت صفاء (32 عاماً)، الكثير من توقعات غالبية المحيطين بها، فهي لم تختَر النهاية التقليدية في الحصول على لقب ربّة منزل، ولم تقبل بفكرة "السقف المنخفض"، واختارت العمل مع لقب ربّة المنزل، وراحت تقارع الرجال في إنهاء الخصومات الثأرية، وربما تتعجب إذا عرفت أنها نجحت في ما فشل فيه الرجال. كيف؟ دعونا نقلّب معها في حكايتها لنعرف الإجابة.
تحكي صفاء لرصيف22 أن الفكرة بدأت منذ العام 2013. وقتها كان كل شيء بالنسبة لها يبدو تقليداً، حتى عرفت بأن هناك جلسة صلح كبيرةً على وشك الانعقاد.
"سألت نفسي يومها: 'ليه ما أساعدش في حل' لإنهاء قضايا الثأر وأصلح بين الناس المتقاتلة؟ في تلك الأثناء بدأت أدرس النماذج الإيجابية في الصلح والتصالح والعفو، وبدأت أتكلم بشكل إيجابي عن الصلح بحيث يتقبل الناس فكرة المصالحات، ورحت أنشر الفكرة"
تقول: "سمعت بأن جلسة صلح ستُعقد في دشنا، التابعة لمحافظة قنا، فحاولت أن أحضرها، لكن المسؤولين عن الجلسة رفضوا وقالوا لي إن البنات والسيدات ممنوعات من حضور تلك الجلسات، لأن المشهد في العادة يكون مخيفاً ومهيباً، فالحضور يتجاوز 10 آلاف شخص، بخلاف عمداء القرى وكبار المشايخ إلى جانب القيادات الأمنية، وهو ما يصعب معه وجود العنصر النسائي، لكني صممت على الحضور ولا أعرف لماذا، فقلت لهم إني إعلامية وانتهيت للتو من دراسة الإعلام في كلية الآداب، وحالياً أحضّر الماجستير في الإعلام في جامعة القاهرة".
تكمل: "في النهاية دخلت وحضرت الجلسة، ورأيت في عيون كل الحضور سؤالاً واحداً: كيف لبنتٍ أن تحضر جلسات الكبار وسط هذا الحشد الكبير (كان عمري وقتها 23 سنةً)؟ تركوا باقي التفاصيل، وتركوا الرجل الذي سيُقدّم الكفن في جلسة الصلح، وبات الكل يراقبني ويراقب ردة فعلي، ولا أنكر أني كنت مرعوبةً يومها من هذا المشهد المهيب، الذي كان سبباً رئيساً في أن تتغير حياتي 180 درجةً".
تضيف صفاء: "سألت نفسي يومها: 'ليه ما أساعدش في حل' لإنهاء قضايا الثأر وأصلح بين الناس المتقاتلة؟ في تلك الأثناء بدأت أدرس النماذج الإيجابية في الصلح والتصالح والعفو، وبدأت أتكلم بشكل إيجابي عن الصلح بحيث يتقبل الناس فكرة المصالحات، ورحت أنشر الفكرة في الشارع الذي أعيش فيه، ومنه إلى القرى والمدن المجاورة، حتى بدأ البعض يطلبني لحل المشكلات العادية، التي لم تكن لها علاقة بالثأر، وبعد أن نجحت في حلها بتّ مطلوبةً لإنهاء الخصومات الثأرية في محافظتي، ومن بعدها في المحافظات المجاورة لنا، حتى بتّ أول قاضية عرفية في مصر، ومن ثم اتخذت قراري بأن أتفرغ بشكل كامل لإنهاء قضايا الثأر والدم في مصر كلها، وليس في الصعيد فقط".
كيف تقبّل المجتمع الصعيدي فكرة أن تعتلي منصة الصلح، وتكوني الحَكَم برغم أنه رفض في البداية أن تكوني من بين الجمهور العادي؟ تجيب عسران: "طبعاً كان الأمر صعباً عليهم، لكن كما قال لي كثيرون وقتها: 'ربنا إدّاني القبول'، كما لا أنسى الدعم الذي حصلت عليه من المحيطين بي، وتحديداً اللواء مجدي القاضي، مدير أمن قنا".
تُقلّب صفاء في ذاكرتها لتكشف لنا كواليس أول قضية نجحت في حلها وتقول: "كانت هناك مشكلة في قرية في قنا، ولم تصل إلى القتل، وإن شهدت إطلاق أعيرة نارية بين الطرفين، وطلب مني أحد أفراد العائلتين أن أتدخل، وأذكر وقتها أن اللواء مجدي القاضي كان الوحيد المقتنع بي ودعمني بشكل كبير لحل القضية، برغم أن كثيرين هاجموني في تلك الأثناء، لأني بنت أولاً وسنّي صغيرة، وثانياً لأني أتدخل في عمل الرجال، كما يقولون، لكني نجحت والحمد لله في إنهاء تلك الأزمة قبل أن تتعقد".
تكمل: "ذهبت إلى العائلتين، ووضعت الحلول العرفية، وأصلحت بينهم وأخذت تعهداً منهم بألا يعتدي أحد منهم على الآخر، وبعد نجاحي في تلك المهمة بدأت أنتقل من قرية إلى قرية لأحلّ خلافات ثأريةً كبيرةً، وكان أكثر ما يسعدني وقتها أني نجحت في حل قضايا ثأرية بين قرى، بعد أن فشل كثر من الرجال المعروفين بقدرتهم على إنهاء مثل تلك الخصومات في حلها".
هل يختلف الوضع من محافظة إلى محافظة في كيفية إتمام الصلح؟
"بالطبع، لأن هناك محافظات مثل قنا وأسيوط تعدّ متشددةً جداً في مسألة الثأر، وتالياً أحتاج إلى وقت أطول لإنهاء الخصومة فيها".
تضيف صفاء، عن أصعب القضايا التي سعت إلى حلها: "كانت في مدينة أبو قرقاص في محافظة المنيا، وأذكر أني بقيت أذهب إلى المنيا كل يوم لمدة 9 أشهر لإنهاء تلك الخصومة المعقدة، وأذكر أني حين ذهبت إلى والد القتيل، قال إن كثراً من الرجال المتخصصين في إنهاء المصالحات حاولوا معه على مدار 4 سنوات وفشلوا، وهنا سألته: لماذا إذاً استجبت لي أنا؟ فقال: 'شفت فيكي الخير وإنك مش متدخلة لغرض شخصي وبنت ناجحة وبتعمل شغل الرجالة الصعب وجاية من محافظة تانية بينا وبينك 6 ساعات سفر'".
تتابع: "وأذكر أني بعد الانتهاء من عمل المحضر العرفي الخاص بإنهاء تلك الخصومة، اصطحبت أفراداً من العائلتين المتخاصمتين معي إلى قسم الشرطة لإنهاء المحضر الرسمي بالمصالحة. كانت الساعة الواحدة والنصف صباحاً، وكنا في الشتاء القارس، وأصرّ الطرفان على أن يقوم كل منهما بتوصيلي إلى محطة القطار، وكل طرف كان يقول 'مش هنسيبك لحد ما نوصّلك لأنك بنتنا، والطرفين وصّلوني إلى محطة القطار ونسيوا المشكلة اللي بينهم نهائي'، برغم أن عائلتَي القاتل والمقتول في الغالب لا تتلقيان خوفاً من تجدد المشكلة بينهما".
تحتاج المصالحات إلى مجهود كبير ووقت طويل لإقناع الطرفين، وربما ينتهي كل ذلك في اللحظات الأخيرة وبدلاً من إنهاء الأزمة تشتعل الأمور بينهما مجدداً. فهل صادفتِ أمراً كهذا؟
"نعم، كانت هناك قضية تدخلت فيها لجان صلح كثيرة، وفي النهاية وفّقني الله ونجحت في إنهائها بعد أن ذهبت إلى أم القتيل وأقنعتها بقبول الصلح، ويومها قالت لي: 'أنا مش هخلّي إيد ولادي تتلطخ بالدم ومش هخلّي أم تتوجع زي ما أنا اتوجعت'، على عكس أمهات كثيرات يحرّضن على الدم. وفي يوم الصلح الكبير حدثت فتنة كبيرة وكاد الصلح يفشل لحظة تقديم الكفن، وهنا وقفت وأعلنت أمام الآلاف من الحضور عن رحلة عمرة لأم القتيل، بحيث أطيّب جرحها وفي الوقت نفسه أجعل الناس ينسون لحظة الكفن والدم، وفعلاً نجحت وراح الجميع يكبّرون (الله أكبر)، وبقيت معها حتى ودّعتها في المطار لتؤدي العمرة".
موقف آخر تروي صفاء عسران كواليسه: "ذهبت لإنهاء خصومة في محافظة الأقصر، وكان والد القتيل رجلاً مسنّاً، عمره نحو 100 عام، وأقرب إلى الخرس بسبب إصابته بسرطان في الحنجرة، وبعد أن نجحت في إقناعه بقبول الصلح، قلت له إني سوف أساعده للذهاب إلى العمرة، فظل يبكي كما الأطفال، ورفع يده إلى السماء كأنه يريد أن يقول لي 'حق ابني عند ربنا'. بعدها طرقت أبواب الجمعيات وسعيت بالتعاون مع مؤسسة صعيد بلا ثأر، التي أطلقتها منذ 2013، لنقدّم له رحلة عمرة مجاناً، وحين اتصلت به حتى أزفّ له الخبر، وجدت ابنه يخبرني بأنه توفي".
وعن أصعب القضايا التي نجحت في إنهائها بالصلح واصلت عسران: "كانت هناك قضية ثأرية لم يبقَ رجل مصالحات على مستوى مصر كلها لم يتدخل فيها، وكانت صعبةً جداً، راح فيها 16 قتيلاً وعدد كبير من المصابين، وكانت المشكلة أنه كان هناك 'تعادل في الدم بين الطرفين'، بمعنى أن في كل عائلة قتيلاً، وتالياً كان السؤال الذي عطّل المصالحة هو: من سيقدّم الكفن للآخر؟ وهنا لجأت إلى فكرة استبدال الكفن بدرع التسامح، الذي يحمل أسماء وزارات ومفتي الديار المصرية السابق ومؤسسة مصر الخير، وكأن الدولة تُكرّم من قبل الصلح ووافق عليه بهذا الدرع، وفعلاً انتهت القضية في جلسة صلح حضرها 25 ألف شخص ولم يقدّم أحد الكفن إلى الآخر".
أنها البنت الوحيدة في مصر التي تلعب هذا الدور، وأنها تعقد دورات بين فترة وأخرى لتوعية السيدات بأهمية نبذ العنف، كما أنها سبق وقدّمت برنامجاً على الفضائيات لنشر ثقافة التسامح، ولأنها مقتنعة جداً به، قررت أن تضحّي من أجله بأي شيء
وقالت رداً على أنه مَن هو الذي يكون إقناعه أصعب في الصلح: الرجل أم المرأة؟: "'الست" أصعب، لأن الأم تكون مجروحةً في القتيل أكثر من الرجل".
وعن كواليس الجلسات تستكمل صفاء حديثها إلى رصيف22: "قبل أن نصل إلى يوم الصلح الكبير، يمكن عادةً أن أعقد جلسات صلح بين العائلتين تمتد لنحو 50 جلسةً أو أكثر، وحين يتم الاتفاق على الصلح، يتم تحديد موعد لعقد الصلح الكبير، وإذا كان في محافظة أخرى غير محافظتي، أسافر قبل يوم أو اثنين، ولا بد أن يتم الصلح في 'صوان' كبير يقام عند بيت ولي الدم 'القتيل'، على أن يبيت القاتل ليلة الصلح في مركز الشرطة، ويحضر إلى الصوان في الصباح وسط حراسة مشددة، خوفاً من التعرض له، ثم يتقدم إلى ولي الدم حاملاً كفنه ويقدّمه ويقول: 'اعفوا عني لوجه الله'، فيردّ ولي الدم : وأنا قبلت العفو، لتنتهي الجلسة بإتمام الصلح وعادةً ما تكون ليلة أشبه بليلة العيد بالنسبة لي".
تقول صفاء إن معدلات حوادث الثأر في الصعيد تراجعت، مضيفةً أنها البنت الوحيدة في مصر التي تلعب هذا الدور، وإنها تعقد دورات بين فترة وأخرى لتوعية السيدات بأهمية نبذ العنف، كما أنها سبق وقدّمت برنامجاً على الفضائيات لنشر ثقافة التسامح، ولأنها مقتنعة جداً به، قررت أن تضحّي من أجله بأي شيء، حتى وإن بقيت بلا زواج، إذ ترفض أن يقيّدها زوج ويطلب منها التوقف عن العمل، فقد وهبت نفسها وحياتها لرسالتها ومؤسستها "صعيد بلا ثأر"، وسوف تواصل رحلتها حتى تجفّ آخر قطرة دم في خصومات الثأر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين