للشعوذة أسرار وللمحبة شيوخ، يعتقدون أن في إمكانهم شراء المحبة من أي شخص، بمجرد أن يحصلوا على خصلة من شعره أو بقايا من أظافره!
العوالم الخفية في مجاهيل السودان
في تصور عدد كبير من الناس، أن السودان بلد غابيّ واستوائي خطير، قد يصادفنا فيه عدد من الأفيال، أو قطيع من الزرافات أو قد يلتهمنا فيه وحشٌ ضارٍ. وبغض النظر عن مدى صحة هذا الأمر، يظل أغلب السودانيين أيضاً أنهم يعيشون على ماضٍ أكاديمي يصوّر بلادهم على أنها البلاد التي تحتوي على كل شيء.
ولكن من استفاد فعلاً من تلك "الخيالات" هم الشيوخ. وكلمة "شيخ" في السودان تُطلق على جميع من له لحية طويلة، بغض النظر عن ديانته وشكله، كما تطلَق على كل من يتمتع بحكمة ووقار، وأيضاً على المشعوذين والدجالين الذين يساعدون المحبين والعشاق في الارتباط.
قد يقنعكم الشيخ (كرجال) بأنه يمكنه أن يجعل بيونسيه نولز مثلاً تقع في غرامكم، أو أن تتزوجكم، وبالطبع سيأخذ منكم مبلغاً محترماً يساوي آلافاً عدة من الدولارات،
وبين هؤلاء يوجد تباين كبير، فبعضهم قد يقنعكم (كرجال) بأنه يمكنه أن يجعل بيونسيه نولز مثلاً، تقع في غرامكم، أو أن تتزوجكم، وبالطبع سيأخذ منكم مبلغاً محترماً يساوي آلافاً عدة من الدولارات، والبعض الآخر قد يستخدم ما يُسمى محلياً بـ"العرق"، وهو تميمة تجعل صاحبها يتمتع بقوى نوعية، فمثلاً توجد عروق تجعلكم محبوباً وسط الناس، وأخرى تجعل الرصاص الحي لا يخترق جسدكم، وأخرى خاصة بالسيطرة على شخص معيّن.
مواقف وأحداث
كان من الشائع أن تذهب الفرق الرياضية الكبيرة في السودان، مثل "الهلال" و"المريخ"، إلى مشعوذ معروف بغرض تعاويذ الفوز، وانتقلت هذه العادة إلى بعض الفرق العربية، ومن المشاهير العرب الذين ارتادوا هؤلاء الشيوخ الممثل المصري نور الشريف، والعديد من مواطني دول الخليج العربي.
بعض الشيوخ يقومون بكتابة تعويذة على بيضة دجاجة فاسدة، وقد راج فعلها في إيقاف القدرة الجنسية لدى الرجل، وهي تعويذة تعمل على جعل الرجل "المكتوب له"، غير قادر على ممارسة الجنس مع أي امرأة غير صاحبة الكتاب، وهي ممارسة قد تكون غريبة.
يطلب الشيخ أن تأتيه المرأة خلال دورتها الشهرية ثم يقوم بمضاجعتها، ومن ثم يجمع دم الحيض مع السائل المنوي ويقوم باستخدام الخليط كحبر يدوّن به بعض الآيات القرآنية والطلاسم على تلك البيضة، ومن ثم يضع إحدى الحاجات الخاصة في المكتوب مع البيضة -مثل خصلة شعر أو قطعة صغيرة من ملابسه- ثم يقوم بكسوتها وإحاطة البيضة بالجلد، ويخيطه جيداً، وعلى تلك المرأة أن تقوم بدفنها في مكان يرتاده الشخص المقصود من وقت إلى آخر، ويظلّ مفعول هذا العمل سارياً حتى اكتشاف المدفون.
ماذا كان سيفعل رجال مثل كارل يونغ وفرويد، لو شاهدوا شيئاً من هذا القبيل؟ وبالمثل يعترض المثقفون السودانيون على هذه الأفعال ويرفضون الاعتراف بها.
والبعض الآخر يخطّ على الرمل اسم المحبوب، ويحيط بقلبه حتى لا يؤثر عليه شخص آخر، وأيضاً هناك التمائم التي تُذوَّب في الشراب أو تُضاف إلى الأكل، وجميع تلك التعاويذ يتم استخدامها في نطاق اجتماعي خالص، وتقف وراءها نساء عاجزات عن المحافظة على أزواجهن أو شباب يطمحون إلى الزواج من فتيات يرفضنهم.
وفي المقابل، نشأ تيار آخر لعلاج وفك تلك الطلاسم والتعاويذ بمختلف جذورها، وظهر رجال الدين من السنّة، ومن الطرق المتصوفة، والأدعياء، وأخذ رجال السنّة المحمدية برقي المكتوب لهم وتخليصهم من تلك الأعمال في عملية سحرية كنت شاهداً على العديد منها، حيث يقوم الشيخ بتلاوة آيات معيّنة من سور معيّنة، بحيث يستلقي المكتوب له وعليه أن يقوم بالتسبيح وترديد أوراد معيّنة يقوم الشيخ بتحفيظها له، ثم عليه أن يكون مغتسلاً وطاهراً على الطريقة الإسلامية.
يسأله الشيخ كل بضع قراءات: "من هناك؟"، وعلى المقروء أن يجيب باسمه. يستمر ذلك حتى يتفوه المقروء باسم آخر، وبصوت آخر، وفي بعض الأحيان يكون بلغة أخرى قد يكون الشخص لا يعلمها حقاً -شاهدت في إحدى المرات سائق شاحنة غير متعلم يتحدث الفرنسية بطلاقة- ثم يبدأ الاستجواب الديني:
- من أنت؟
- من أدخلك في هذا الشخص؟
- كيف دخلت؟
- ماذا تريد منه؟
- من أرسلك؟ من هو شيخك؟
- من المستفيد من هذا العمل؟
وهكذا، يحدد الشيخ المكان الذي ينزل فيه المبعوث الجنّي، فإذا كان في البطن مثلاً قرأ عليه من آيات المبطون "إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون، كغلي الحميم"، ومن ثم يفضح مكان العمل، ويرسل الشيخ بعض أتباعه للبحث عن التعويذة وإحضارها، ويتم وضعها في حوض ماء مع أوراق شجرة السدر والقراءة عليها حتى يتحلل الحبر وتعود بيضاء، إلى حدٍ ما، ثم يقوم أحدهم بكسرها في المرحاض وصرفها.
كلمة شيخ في السودان تُطلق على جميع من له لحية طويلة، بغض النظر عن ديانته وشكله، وأيضاً على المشعوذين والدجالين الذين يساعدون المحبين والعشاق في الارتباط.
ماذا كان سيفعل رجال مثل كارل يونغ وفرويد لو شاهدوا شيئاً من هذا القبيل؟ وبالمثل يعترض المثقفون السودانيون على هذه الأفعال ويرفضون الاعتراف بها، وقليلون جداً من الفنانين والكتاب تناولوا هذه الأمور في أعمالهم مثل رواية "عرق محبة" للروائي الحسن بكري، كما غنّى الفنان طه سليمان أغنية "كاتبني وين؟ عند ياتوا شيخ".
ولعل أشهر الأعمال التي تناولتها فيلم "بركة الشيخ"، الذي أخرجه المخرج الكبير جاد الله جبارة، وهو فيلم روائي طويل يستعرض قصة أحد الشيوخ المشعوذين وقد استخدم شفرة "مورس" لمعرفة تفاصيل الزوار. تحديات تسليط الضوء على هذا الأمر مكلفة للغاية، وقد تودي بحياتك أو على الأقل بتقليص قدراتك العقلية أو الجنسية.
يُستخدم أيضاً السحر والشعوذة في مجالات العلاج والتعافي، وهنا أتذكر حادثتين، الأولى أن أحد زملاء دراستي أُصيب بمرض "الصرع"، وكان عندما تباغته تلك النوبة ينكفئ على وجهه ويسقط من طوله على الأرض، يلتوي بهيستريا ويخرج الزبد من فمه وأحياناً يطبق على لسانه ويكاد يقطعه بأسنانه. إنه بلا شك مشهد مخيف لطلاب في المرحلة الابتدائية والمتوسطة.
كبر ذلك الشخص ورافقه المرض ذاته، وأصبح يتلقى علاجاً مسكناً ولكن تلك الحبوب الصغيرة يجب استخدامها وقت النوبة، لذلك كان يضع ورقةً في جيبه تحتوي على تعليمات، تحسباً في حال فاجأته النوبة في مكان عام. لكنه سقط لاحقاً في الشارع السريع، ولم يتمكن أحد من إسعافه لأن سيارةً صدمته وسببت له العديد من الكسور ولم ينتبه رجال الإسعاف إلى مرضه الأساسي.
بعدها منعته أسرته من التعليم وأصبح يعمل في فرن، وبسبب وظيفته رفضته فتاته وتزوجت بآخر. حينها، جمع مالاً وذهب إلى أحد شيوخ الطرق الصوفية، ليصنع له تميمةً تمنع الشيطان من تسيّد جسده -كما صوّر له الشيخ حالته- وقضى عند الشيخ شهوراً عدة وهو مربوط على شجرة شوكية، ولم يكن يأكل أو يشرب سوى مرة واحدة كل يوم.
من الشائع أن تذهب الفرق الرياضية الكبيرة في السودان، مثل "الهلال" و"المريخ"، إلى مشعوذ معروف بغرض تعاويذ الفوز، وانتقلت هذه العادة إلى بعض الفرق العربية
في تلك الفترة توفي الشيخ، وورث أخوه المشيخة وزميلي المربوط على الشجرة من دون معلومات كافية، وبسبب ذلك أطلق سراحه. عندما عاد إلى أسرته، ذهبوا به إلى أحد شيوخ أنصار السنّة -الاسم المحلي للإخوان المسلمين- فقام برقيه وجلده لفترة طويلة، وانتهى أمره بالموت بعد أن أصيب بفشل كلوي، وكل ذلك ولم يتجاوز الثلاثين من عمره.
لم يقدّم والده بلاغاً في أحد الشيخين، ولم ينتهِ بهم الحال إلى أي مساءلة قانونية. الحادثة الثانية تخص لاعب كرة قدم، تم تشخصيه بالسرطان، ولم يقبل بالعلاج الذي يجعله أصلع، فذهب إلى أحد الشيوخ الذي اعتنى به لفترة، وبعد مرور عام كان شخصاً سليماً وأعاد التشخيص ولم يكن هناك شيء. كان العلاج يعتمد بشكل أساسي على ممارسات غريبة وأنواع من البخور وشرب بول الإبل.
كل ذلك التعليم والترقي الحضاري والمدني لم يساعد الكثيرين في اختيار الوسائل المناسبة أو تخطّي أولئك الشيوخ. لم تتغير تلك الحالة الشعبية والمكانة التي يحظى بها أولئك الرجال، طوال أكثر من مئة عام، بل أصبح الشيوخ يواكبون التغيير المجتمعي والمعرفي ويرتقون بلغتهم ونمط حياتهم حتى يكونوا مقبولين لدى الجميع، من المزارع الأمّي وعامل المياومة إلى الطبيب والمهندس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون