شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عندما ظنوا أنني أجنبية فمارست اليوغا برائحة الريحان

عندما ظنوا أنني أجنبية فمارست اليوغا برائحة الريحان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في أحد منتجعات البحر الأحمر، وقفت في الصف القصير منتظرةً دوري لأحصل على مشروب لي ولطفلتي المسترخية أمام حمام السباحة. أتى دوري سريعاً، وقبل أن أتحدث كلّمني الموظف بلغة لا أفهمها، فأخبرته بأني مصرية. بدت على ملامحه الدهشة لوهلة، وأسرعت في طلبي حتى أنهي الموقف المرتبك.

بعد ذلك بساعات أتت مسؤولة الترويج عن المنتجع الصحي في الفندق، وهي فتاة نصف محجبة. حدثتني بالإنكليزية فقطعت عليها محاولات إقناعي بخدماتها بلغة هي لا ترتاح في الحديث بها، رادّةً بالعربية. سألتني: "أنت مصرية؟ ما شاء الله تبدين أجنبيةً!"، لم أفهم لماذا يجب إلحاق "ما شاء الله" بالجملة، وهل أن أبدو أجنبيةً نوع من الترقي يستدعي الحسد؟

مصرية بمايوه أصفر في مواجهة العالم

عدت إلى غرفتي ووقفت أمام المرآة، أتأمل وجهي وأبحث فيه عن جَدّة غربية ربما أورثتني بعضاً من ملامحها، ولكن ها هي البشرة نفسها بلون سنابل القمح المحترقة قليلاً من أشعة شمس سيناء، وشعري الداكن المموج بشكل طبيعي بعدما توقفت عن صبغه أو فرده في الحرارة منذ 2020، وأنفي العريض والطويل، وعيوني البنية، مع حاجبين عريضين، وهذا وجه يحمل صفات تتشاركها أغلب سيدات مصر، فلماذا يظنون أني أجنبية؟

هل يظنون أني أشعر بهذا الأمان طوال الوقت؟ لا يعملون أنه رداء مثل بدلة السباحة بالضبط التي لا نرتديها إلا أمام البحر وحول المسابح!

نظرت إلى الأسفل، فوجدت بدلة سباحة صفراء عادية من قطعة واحدة، أكثر من مقبولة في مثل هذه المنتجعات، بالطبع لا تشبه "بوركيني" المحجبات، لكن كذلك من المنطقي أن هناك مصريات غير محجبات أخريات يزرن هذا الفندق وغيره في طول سيناء وعرضها!

داخل "المايوه" جسم وزنه يزيد قليلاً عن المتوسط الطبيعي والصحي لطولي. بالتأكيد لست نحيفةً مثل الغربيات في تخيّل المصريين غير الحقيقي عنهنّ، الذي يمكن إثبات خطئه بجولة واحدة على أحد هذه الشواطئ أو في أي مدينة يزورها الكثير من السياح؛ فالنساء الأجنبيات يأتون بكل الأشكال والأحجام كباقي خلق الله، ويتمددن في كل مكان ليحصلن على حمامات الشمس في بدلات سباحة صغيرة للغاية بلا قلق أو خوف من إظهار أجسادهن كما هي.

ربما كانت هذه هي الإجابة؟

هل يظنون أنني أجنبية لأني لست خجلةً من جسمي بعلامات التمدد على الذراعين والفخذين ودهوني الزائدة في منطقة الذراعين والبطن!

هل أنا أجنبية لأني لا أحمل جسدي عبئاً أحاول إخفاءه أو التملص منه؟

هل أنا أجنبية لأني أشعر بالأمان داخل جسدي وفي تماسي مع العالم؟

هل يظنون أني أشعر بهذا الأمان طوال الوقت؟ لا يعملون أنه رداء مثل بدلة السباحة بالضبط التي لا نرتديها إلا أمام البحر وحول المسابح!

أرتدي أماني الشخصي وأخلعه طبقاً للجغرافيا والمكان والزمان وليس حالتي النفسية أو الجسدية.

أمتلك في خزانة ملابسي مجموعةً كاملةً من الملابس المحرّمة إلا في أماكن محدودة من بلادي. يظن أصدقائي أني أحب الصيف لأني أحب الحرارة. أحب الصيف لأنه يجعلني أهجر مدينتي التي تفقدني شعوري بالأمان مع جسدي، المدينة التي علمتني كل طرق الاختفاء.

يوغا برائحة الريحان

في اليوم التالي، قررت استغلال فرصة هذا التخفي الرائع وتحقيق واحد من أنشطتي المفضلة والمحرومة منها في القاهرة وهي ممارسة اليوغا في الهواء الطلق.

أخذت سجادة التمرين الخاصة بي، قبل نصف ساعة من غروب الشمس، ووضعتها في الحديقة أمام غرفتي، وجعلت البحر قبلتي، وبدأت بالتمرين. لاحظت في البداية مرور بعض العاملين. نظروا إليّ بفضول ثم غادروا إلى عملهم الذي لا ينتهي. كنت بالنسبة لهم أجنبيةً غريبة الأطوار تتمتع بالجرأة الشديدة مثل غيرها، وهو تخفٍّ مثالي لمصرية سمراء لا تعلم لماذا تم تنميطها هكذا، ولكن ترغب في الاستفادة من التجربة قدر الإمكان.

اندمجت مع حركات اليوغا، وانفصلت عن العالم بالتدريج؛ أغمضت عينيّ، ونسيت وجود الناس خاصةً أن حركتهم بدأت تهدأ في استعدادات ما قبل العشاء.

يظن أصدقائي أني أحب الصيف لأني أحب الحرارة. أحب الصيف لأنه يجعلني أهجر مدينتي التي تفقدني شعوري بالأمان مع جسدي، المدينة التي علمتني كل طرق الاختفاء.

أخذ جسدي يتصل بعقلي، وحواسي تنشط بالتدريج. عزلت نفسي عن الأصوات البعيدة، وركزت فقط مع صوت مدربتي عبر الهاتف المحمول وهي تقود حركاتي بكلماتها الهادئة، وفي الخلفية أمواج البحر الأكثر هدوءاً، بينما أنفي الذي يعاني دوماً بسبب عوادم السيارات والدخان انفتحت جيوبه المسدودة، وتسللت إليه رائحة قوية، منعشة وجميلة، ترجمها عقلي بعد ذلك إلى رائحة الريحان. لم أمارس من قبل يوغا برائحة، اليوم جربت اليوغا برائحة الريحان.

في ذلك اليوم، كانت الحركة النهائية في تمريني، النوم على الأرض في وضع الـ"Savasana" الذي يطلقون عليه أحياناً "وضع الجثة" (corpse pose). نمت على ظهري وفردت ذراعيّ على جانبي جسدي بعيداً عن نطاق الـ"يوغا مات" الخاصة بي، وقلبت كفَّي يدي لتلمس كل منهما العشب، وفتحت عينيّ على السماء بألوانها التي تميل إلى الأزرق الداكن في اللحظات الأخيرة قبل الغروب.

شعرت بأن هذه السماء قد تقع عليّ لتجعلني أنا والأرض سواءً. لم تكن فكرةً مخيفةً إلى هذه الدرجة لأن ما أراه ليست سماء عنيفةً أو قاتلةً، بل كانت حضناً عملاقاً يربت على جسدي بالكامل بهواء منعش يحمل برودةً خفيفةً. في هذه اللحظة كنت ابنةً لهذه السماء وهذه الأرض بعشبها الناعم، وحمدت أني أجنبية وهو التنكّر الذي سمح لي بواحدة من أكثر لحظات حياتي صفاءً.

مشي برائحة القلق

اليوم، وقبل ساعتين من كتابة هذه الكلمات، خضت التجربة المعاكسة تماماً لممارسة اليوغا في الهواء الطلق. أسكن في إحدى ضواحي القاهرة، في حي غير مزدحم، ورائحة العوادم تُعدّ في الحدود الدنيا بالنسبة إلى مدينة شديدة التلوث، ولكن بالتأكيد لا يُسمح لنسائه بالتمرين في الهواء الطلق، لذلك تمريني المثالي هنا هو المشي حول منطقتي السكنية لمدة نصف ساعة.

لممارسة رياضة المشي في القاهرة، أقوم بتخفٍّ معاكس لما فعلته في سيناء. هنا أرتدي ملابس متسعةً، ومع شعري شديد القصر أصبح كائناً بلا جنس ولا هوية جندرية أغلب الوقت. نزلت اليوم لأبدأ دورتي المعتادة حول الحي، محددةً مساراتي بدقة حتى أمرّ قبل وصولي إلى المنزل بالمتجر القريب لشراء حبوب القهوة وثمار التمر لوجبتي الخفيفة قبل بدء العمل.

كل شيء مثالي؛ الطقس دافئ مع هواء بارد خفيف، والشوارع بكثافة سكانية معقولة بالنسبة إلى العاشرة صباحاً، وبضع نساء يشترين الخضروات لبدء يومهنّ الطويل، وأطفال خرجوا من الامتحانات مبكراً يحتفلون بانتهاء فصل أخير من سنتهم الدراسية، وأنا أسمع كتاباً صوتياً له علاقة بالصحة النفسية... حتى أفسد كل هذا السلام رجل بسيارة زرقاء متهالكة مكتوب عليها باللغة الإنكليزية: "نجم" (NEGMM).

كنت بالنسبة لهم أجنبيةً غريبة الأطوار تتمتع بالجرأة الشديدة مثل غيرها، وهو تخفٍّ مثالي لمصرية سمراء لا تعلم لماذا تم تنميطها هكذا، ولكن ترغب في الاستفادة من التجربة قدر الإمكان

أخذ الأربعيني يتتبّعني بسيارته لمدة عشر دقائق. كان يسبقني من شارع إلى شارع أو يمشي خلفي، ولا يحاول الحديث معي، أو لمسي، هي فقط متابعة لصيقة كما لو أننا في أحد أفلام الجاسوسية الرديئة. بدأ شعور بعدم الراحة يتصاعد داخلي، وقررت الدخول إلى المتجر في نصف رحلتي. وقفت لعشر دقائق أختار حبات التمر وأرمق بطرف عيني هذا الرجل الذي قرر إفساد يومي وهو يدخل المتجر وينظر إليّ ثم يعود إلى سيارته لينتظرني. أخذت وقتاً أطول في دفع الحساب. خرجت من المتجر ولم أجد سيارته فقررت إكمال مساري المعتاد.

بعد أقل من دقيقة، وجدت السيارة مرةً أخرى تسبقني بخطوات كما لو أنه يخبرني بأننا سنعود إلى لعبة القط والفأر. في هذه اللحظة لم أشعر سوى بصوتي يعلو وأنا أصرخ به: "ماذا تريد؟". خفف من سرعته إلى الحدود الدنيا وهو يدّعي أنه لا يفهم. صرخت بصوت أعلى: "انزل من السيارة وتعال لمواجهتي، أم تحب أن أصوّرك وأرسل الصورة لزوجتك وأفضحك في غروبات *** (ذكرت اسم المدينة)". في هذه اللحظة قرر هذا الفأر مدّعي الشجاعة الهرب بسرعة شديدة.

أكملت تمريني الرياضي ولكن ليس من شارعي المفضل حول شركة المياه. لم أشعر بالأمان لدخول شارع هادئ إلى هذه الدرجة، واخترت شوارع أكثر ازدحاماً لأني هنا لست في سيناء. هنا أنا لست أجنبيةً لها حق ممارسة اليوغا في حديقة مسكنها. هنا ليس لي الحق حتى في المشي لمدة نصف ساعة حول منزلي أو شراء بضع تمرات وكيس من القهوة لوجبتي الخفيفة القادمة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image