يجتمع الشابان اللبنانيان، محمد دايخ وحسين قاووق، مجدداً على خشبة المسرح ليقدما عملاً مميزاً ومفعماً بالطاقة والنباهة والظرف. فيقدم الاثنان عرضاً ينتمي إلى فن الكوميديا، والكوميديا السوداء إلى حد ما، بعنوان "عم بيقولو إسماعيل انتحر" وهو نصّ، كتابة وإخراج محمد دايخ، وتمثيل دايخ وقاووق معاً. ويتم عرض هذا العمل حالياً في بيروت، على خشبة مسرح المدينة الذي شهد أعمالاً أخرى لمحمد دايخ، إخراجاً وكتابة وتمثيلاً، منها مسرحيته "لعلّ وعسى" أو "كل شيء طبيعي يا عبد الله".
ويحمل محمد دايخ جمهوره إلى غرفة مهجورة في أحد أحياء المدينة، ليتوقّف عند حالة إسماعيل (حسين قاووق) الشاب الذي يريد الانتحار ولكنه يعجز عن ذلك. فيرافق الجمهور إسماعيل في محاولاته المتعددة، المضحكة والعبثية في الوقت نفسه، كما يسترق السمع إلى حديثه مع الله وتوقفه عند بؤسه ويأسه ورغبته في الانتقال إلى مكان أفضل. يرافق الجمهور إسماعيل في كل "خططه الفاشلة" كما يصفها هو بنفسه، إلى أن يدخل الغرفة المهجورة شاب يحمل مسدّساً وحقيبة سوداء اسمه عبده، وليس سوى محمد دايخ.
ورغبة إسماعيل في الانتحار يبقى سببها الأساسي مجهولاً إنما غير بعيد عن التكهنات، فتتخلل النص بأكمله "لطشات" واقعية اجتماعية تحيلنا إلى الوضع السياسي اللبناني الداخلي المتأزم، وإلى الانهيار الاقتصادي الذي تعاني منه الدولة. رغبة في الانتحار نجهل سببها المحدد لكن النص يوحي بأنها نتيجة أسباب معيشية صعبة، وفقر وحرمان يقبع فيهما إسماعيل، شأنه في ذلك شأن عدد كبير من شبابنا اليوم. فإسماعيل هو كل شاب لبناني تعب من الوضع الحالي ومن طريقة سير الأمور وقرر الانتهاء من المسألة برمتها. وعلى الرغم من أن الانتحار موضوع دقيق وحساس، وقد يثير جدلاً بيزنطياً، بخاصة مع حالات الانتحار التي وقعت مؤخراً في بيروت، إلا أن دايخ يتناوله ببساطة وسلاسة لا تخدش الجو العام الموغل في الطرافة والكوميديا السوداء.
فيدخل عبده ويرتمي مباشرة في حبال قصة إسماعيل لتبدأ الأحداث بالتسلسل والتقدم بشكل عفوي مضحك، وبخاصة عندما يقع سوء تفاهم رائع quiproquo بين إسماعيل وعبده، سوء تفاهم يستمتع به الجمهور بطريقة لافتة وغير متوقعة. أما أساس سوء التفاهم هذا فهو أن إسماعيل يظن أن الغريب الآتي إنما هو ملاك من عند الله أتى ليساعده، بينما عبده في الواقع هو أبعد ما يكون عن ذلك.
حوار متوهج طريف فيه من المهارة التأليفية والحنكة الأسلوبية ما لا يتوقعه المرء، فيأتي تسلسل الأحاديث منطقياً ومترابطاً، تضيف إلى طرافته لهجة إسماعيل وعبده اللذين يبتعدان كل الابتعاد عن التكلف والابتذال. وما يرسخ تعلق الجمهور بالشخصيتين الموجودتين على الخشبة هو التمثيل المتين والمتماسك والذي يملأ الزمان والمكان، فما من دقيقة ملل واحدة، وما من زاوية قصية أو بعيدة عن الضوء.
"عم بقولو إسماعيل انتحر" قصة شاب لبناني يئس من دوامة الحياة الراقد فيها وحاول الانتحار، قصة كل شاب لبناني اليوم يعجز عن إيجاد فرصة عمل أو مصدر دخل دائم، ويحاول الهرب إلى المجهول
حركة ممتازة على المسرح وعفوية مدروسة في التصرف وتمكن من المسرح والجسد والصوت مثير للإعجاب من الشخصيتين كلتيهما، وذلك من حيث الحديث والنبرة والانفعالات وتسلسل ردود الفعل.
ولا يخلو نص دايخ إذن من "لطشات" سياسية واجتماعية مأخوذة من المشهد اللبناني والواقع الذي يعيشه المئات بل الآلاف في يومنا هذا. فكل متفرج هو إسماعيل، وكل لبناني هو إنسان سئم من انتظار ما يحمله له المستقبل وفقد الأمل ذات يوم أو آخر. وما يلفت الانتباه أيضاً هو سرعة بديهة الشخصيتين، سرعة بديهة في الإجابة والتصرف تمنح النص جذالة وظرفاً وخفة لا تخلو من حنكة وبعض الدهاء السياسي والاجتماعي، وتشكل صدى لما يجري على أرض الواقع.
ولا بد من التحدث عن ديكور المسرح، ديكور بسيط وفي الوقت نفسه يُشبع نظر المتفرج، فالغرفة التي تدور فيها الأحداث، والمؤلفة من سرير، طاولة، كرسي، سجادة وأمور حياتية قليلة، إنما ضرورية، هي غرفة دافئة حميمة يدخلها الجمهور مع إسماعيل وينصهر في أثاثها وجوها الهادئ المهجور، لينسى تماماً ما هو خارجها وينقطع عن العالم الخارجي من دون أية صعوبة. وتشكل هذه الغرفة نوعاً من الـ stereotype، فهي قد تكون غرفة أي شخص من الجمهور، غرفة عادية فيها ما فيها من أساسيات الحياة التي يحتاج إليها كل شخص، لتتحول الغرفة إلى كل غرفة، والبيت إلى كل بيت لبناني، ورغبة إسماعيل في الانتحار إلى رغبة دفينة مختبئة في كل شاب يائس.
"عم بقولو إسماعيل انتحر" قصة شاب لبناني يئس من دوامة الحياة الراقد فيها وحاول الانتحار، قصة كل شاب لبناني اليوم يعجز عن إيجاد فرصة عمل أو مصدر دخل دائم، ويحاول الهرب إلى المجهول، قصة كل إنسان لبناني انتحر خلال ثورة تشرين الأول المستمرة لأنه لم يعرف كيف يكمل. وكما يقول الكاتب والمخرج اللبناني-الكندي المقيم في فرنسا، وجدي معوّض، في أحد أعماله: "لا تكمن المشكلة في التوقف، تكمن المشكلة الحقيقية في كيفية الإكمال"، فكيف نكمل يا إسماعيل؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...