شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كان يا ما كان في قديم الزمان… مملكة تسمّى

كان يا ما كان في قديم الزمان… مملكة تسمّى "الحبّ والإنسان"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الأحد 23 يوليو 202311:34 ص

الذئب الذي قاد الخرفان إلى "المخنق"

كان يا ما كان في قديم الزمان، مملكة من ممالك العربان تسمى "مملكة الحب والإنسان", ظهر فيها رجل نحيف البنيان عبوس الخلقة بنظرة تائهة في بداية الشيخوخة مدمن دخان، اسمه ابن سعدان.

سار في الأرض يركع في كل المساجد والجوامع والخرابات و"البيران" في المقاهي والزوايا. تمسح بالقبور والرموس و"الزنوس" وجالس كبار تجار الأديان، ثم سرح يبيع الكلام ليل نهار في القرى والأحياء والوديان، فإذا ما باغته الماء بال على الحيطان، فشربه أتباعه تبركاً، ثم صار يقول سجعاً كسجع الكهان غامضاً كلامه كالهذيان، فوقع في نفوس الناس موقعاً عروس قيل إنه هو، ذلك المهدي قد جاء بالبيان، تقدم ذو الوجه العبوس بترشحه لقيادة المملكة فبايعته حشود التقوى واليائسين والجائعين من الغربان والمتعطشين للانتقام من الدنيويين ففاز بهم وبالعرش.

هذه ليست قصة ولا خرافة ولا حتى أسطورة حزينة، إنما هي قصة ما جرى لشعب تونس عندما أطل عليه رجل يتقنع بالسعادة في إسمه فسلم الخلق له رقابهم وعقولهم وحقولهم وذنوبهم وجيوبهم وساروا خلفه عراة حفاة بلا بوصلة

ورماهم ببواخر الرخيس من "البانان" فسار الناس خلفه خليفة أينما ضرب بعصاه مهللين، أطل عليهم ذات صيف قائظ انحسر فيه الزرع من الحر قبل أن يجرف الأرض فيضان وأمرهم أن يخرجوا للشوارع وللوهاد والوديان ويمسحوا أثر الماضي القريب ويسقطوا معابد الكلام ويخلعوا أقفال السجون والمحاكم وجمعيات حقوق الإنسان والحجر والحيوان وأمر عسكره بملاحقة المعارضين والمتسائلين والمستغربين والحائرين ليعلن كلامه قرآن؛ الخير العظيم والخبز الوفير قال، وكان ما كان، خرج في الليل بين العسس والف سجان بوجه الذئب يلوح للناس الذين انقلبوا خرفان، صارخاً فيهم على عجل أن اتبعوني إنني آخذكم إلى جنة الجنان، فهتفوا وراءه مهللين وانتشر في الأرض الثغاء.

أخذهم واحداً واحداً بالأحضان، كان الشعب اشتكى من نقص الحنان. ثم استدار إليهم ومزق دستورهم القديم في وجوههم وسحب من جرابه جلد خروف منهم ذبحه في الابان كتب عليه بدمه كلمات تقول إنه القبطان لا شريك له، فتحوا أعينهم لما رأوا من كلام على جلد أخيهم فطلب منهم أن يهبوه عيونهم فانتزعوها وراح عسسه يجمعها منهم، ويجدع أنوف من رفض من الخرفان.

هاموا في الأرض يطاردون أهل السودان يقدموهم لمولاهم قربان تواصل الجفاف وتشققت الأرض وتبخرت مياه السدود وجفت العيون وسقط الظلام وسدت الوديان ونفقت البهائم وحتى "الضربان" وجاع العميان وسقطت أسمالهم عن أجسادهم ومازالوا يسمعون صراخ مولاهم وهو يتوعّد أعداءه المجهولين، وصلهم أنهم صاروا في جزيرة الفقدان فقد تبرّأت منهم الأمم والبلدان، وهم لا يجرؤون على سؤال مولاهم الذي وعدهم بالرخاء حتى وصل الشتاء ورعدت السماء وبرقت وتهاطل عليهم البرد وضربهم البرْد نادوا عن مولاهم، لا أثر، لقد اختفى ابن الحفيان.

لا صوت من قلعته يأتي ولا رسالة. عضهم الجوع والبرد فانقلبوا على بعضهم يتعاضضون ويتناهشون حتى سمعت صراخهم آخر أمم الأرض. أشفقوا عليهم وما آلت إليه مملكة الحب الانسان فأرسوا زوارق النجاة والسفراء فظهر المولى واغرقها جميعاً وأحرقها في اليم. والتفت إلى خرفانه فلمح تململا فاشار عليه أمير العربان ان احشرهم وراء القضبان واقطع السنتهم الباقي فقطع ألسنتهم جميعاً وصاح في السفراء: هذه أرضي وهذه الخرفان خرفاني أفعل بهم ما أريد دون حسبان. إنهم قد بايعوني وإن أردتم اسألوهم. هل تسمعون الآن شكوى رجال او نساء او حتى صبيان؟

ومنذ ذلك الوقت والعميان صاروا خرساناً ولم يعد يصل من الجزيرة في أقصى العالم إلا أنين موجع يستلهم منه فنانو العجمان تراجيديات جماعة قديمة من البشر حلمت بالحرية السهلة فسلمت أعينها وألسنتها لأول قرصان قال لهم: أنا أريكم آخر أيام الشمس انها وراء تلك الوديان.

سقطوا واحداً واحداً وجرفهم السيلان. جن المعتوه وظل يدور وحيداً حول النهر يشتم صورته على الماء بسجع الكهان حتى عمى ومات جوعاناً. صار اليوم مرقده مزاراً ومحجاً للإنس والجان ترجمه رجم الشيطان.

الحق إن هذه ليست قصة ولا خرافة ولا حتى أسطورة حزينة، إنما هي قصة ما جرى لشعب تونس عندما أطل عليه رجل يتقنع بالسعادة في إسمه فسلم الخلق له رقابهم وعقولهم وحقولهم وذنوبهم وجيوبهم وساروا خلفه عراة حفاة بلا بوصلة.

قريب من هذه القصة حد الطابق شيد الكاتب البلجيكي موريس ميترلنك مسرحيته "العميان".

على هامش مسرحية "ما يراوش"

تعرض مسرحية "ما يراوش" للمخرج منير العرقي، منذ أشهر بتونس ولا نرى حديثاً كبيراً حولها رغم اسقاطاتها الواضحة عن الوضع في تونس.

كان منير العرقي قد بدأ العمل عليها ما قبل الانقلاب عندما كان هامش الحرية كبيراً، ويبدو أن الوزارة وجدت نفسها في حرج أن توقف دعم المسرحية أو توقف عروضها لكنها عملت على تهميشها وحتى إعلامياً لا يقع التعاطي مع هذه المسرحية في علاقتها بالواقع التونسي ونادراً ما يقع الحديث عن مضمونها وينحسر الحديث عنها خاصة حول المعالجة الفنية وتطويع المسرحية لفن العرائس أو "الماريونات".

والحق أن زيادة فكرة المعالجة الفنية بفن الماريونات زاد من قيمة الاسقاط الفني على الواقع التونسي الذي جعل شعبا يسير وراء كاهن أوهمهم بأنه سيقودهم إلى الشمس. وفي هذا التقديم وتحت سؤال عن رمزية العمل الفني يقول منير العرقي:

لا ننكر أن العشرية الأخيرة ما بعد الثورة والتخبط الذي صار في تونس كسر الكثير من الأشياء والنظام عندما ينقلب يحدث ذلك الانفلات، وبعد الانفلات تأتي مرحلة الحيرة، أين سنذهب؟ وبعد العام الأول الثاني والثالث ... ولم ننتبه لهذا التخبط، حتى جاء من أفتك الحكم في تونس ولا نستدل بالأسماء ولكن فعلا أخذنا وهو لا يعلم أصلا أين يذهب. يريد أن يأخذنا إلى أماكن قصية هو يؤمن بها ويحاول أن يجعل من الشعب التونسي يؤمن بها، نفس حكاية المسرحية.

هذه المسرحية هي آخر ما بقي من حرية التعبير في تونس زمن ما قبل الانقلاب والتي كان الفنانون وحتى أولئك المنتمون للمؤسسات الرسمية كوزارة الثقافة مثلاً ينتقدون النظام.

فتأتي لضرير وتقول له: هيا معي أريك العالم عند شروق الشمس. إنه آخر يوم للشمس، أصلاً هو لا علاقة له بالشمس، ويقول لك لو تركتني في مكاني أفضل. أقوم بالأشياء التي تعودت على القيام بها أفضل من أن تأخذني إلى أماكن أنت لست متأكد أن فيها الخلاص. يجب أن نقول أن أولئك العميان أعطوا ثقة زائدة لذلك القائد المرشد وتعلقوا به وكم من قائد ومرشد وعدهم بأشياء لم تتحقق ولن تتحقق...".

أعتقد أن هذه المسرحية هي آخر ما بقي من حرية التعبير في تونس زمن ما قبل الانقلاب والتي كان الفنانون وحتى أولئك المنتمون للمؤسسات الرسمية كوزارة الثقافة مثلاً ينتقدون النظام ويعبرون عن تخوفهم مما يجري في بلادهم من انحرافات سياسية.

ويبقى السؤال كم سيسمح لهذه المسرحية من عرض إذا ما تناثر الحديث عن رمزيتها في تونس تحت نظام المرشد الجديد قيس سعيد؟ هل سيغض النظام الطرف عنها ويوظفها كدعاية له مضادة أنه يسمح بالنقد مع علمه بنخبوية العرض فنياً ورمزياً وأنه لن يؤثر في الشعب ولن يجعل منه جماهيريا وسيظل محصورا في قاعات صغيرة دون دعاية كافية؟

هل كان سيسمح بهذه المسرحية ودعمها لو جاءت من خارج أروقة وزارة الثقافة؟

يجيب عن هذا السؤال واقع اقتباس هذه المسرحية فمن المفارقات أنه وقع اقتباسها في كل الدول العربية تقريباً والتي ترزح تحت الاستبداد (مصر، الإمارات، سوريا...)، إن أنظمة الاستبداد في مقدورها أن توظف كل شيء لصالحها.

تبدأ مسرحية ماترلينك بهذا المشهد من تساؤلات العميان:

"الأكمه الأول: ألم يعد بعد؟

الأكمه الثاني: لقد أيقظتني؟

الأكمه الثالث: أنا أيضا كنت نائماً.

الأكمه الأول: ألم يعد بعد؟

الأكمه الثاني: لا أسمع شيئا مقبلاً.

الأكمه الثالث: آن عودتنا إلى الدار.

الأكمه الأول: ينبغي أن نعرف أين نحن.

الأكمه الثاني: الطقس بارد من ساعة انصرافه.

الأعمى الأكبر سنا: هل يعرف أحد أين نحن؟

العمياء الأكبر سناً: لقد سرنا سيراً طويلاً. لا بد أن نكون بعيدين جداً عن الدار".

ربما سيكتشف التونسيون يوماً كما اكتشف الشعب في نهاية المسرحية أنه كان يقاد بكاهن أعمى وأن الديكتاتور الذي كان يحكمهم بالحديد والنار منذ زمن قد مات وتعفن على كرسيه

هذا العمى الذي تتناوله المسرحية مع الصبي الوحيد الذي يرى الذي كتبه الكاتب البلجيكي موريس ماترلينك وأعاده روائياً خوزيه ساراماغو في روايته "العمى" أصبح واقعاً تونسياً  شديد الوضوح فهل يعود هذا الشعب من تيهه بعد أن فقد الكاهن عقله؟ وهل يمكن للمسرح اليوم فعلاً أن يشكل وعي نقدياً للشعوب تجعلها تتبنى أفكاره وتنتفض من جديد أم أن هذه الشعوب لم تعد تتعامل مع هذه الأعمال الرمزية إلا باعتبارها مرثيات للوعي وللماضي وللأحلام بينما ترزح هي في أوحال اليأس الأبدي والرضا بالإخفاق المزمن؟

هل صار جماهير المسرح أيضاً أثناء الفرجة "مايراوش" ولا يسمعون؟

ألم تعد تلك الشعوب تنتظر حتى غودو وتركت صاموئيل بيكيت لتلوذ بتشاؤم سيوران ويردد خلفه عبارته السوداوية" أنا شبيه بالدمية المتحركة المكسورة التي سقطت عيناها إلى الداخل".

ربما سيكتشف التونسيون يوماً كما اكتشف الشعب في نهاية المسرحية أنه كان يقاد بكاهن أعمى وأن الديكتاتور الذي كان يحكمهم بالحديد والنار منذ زمن قد مات وتعفن على كرسيه كما كان الحال مع الديكتاتور في رواية "خريف البطريرك" غابرييل غارسيا ماركيز ولعلهم اليوم قد اشتموا تلك الرائحة الخارجة من القصر بعد أن باع بلادهم وخان الأمانة ليحولها شرطي جمارك لسلطة الشمال الفاشي مقابل إنقاذه عاماً آخر والاستمرار في التنكيل بالتونسيين وتوسيع حالة الدياسبورا التونسية في العالم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard