شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
حين أعلنها قيس سعيد صراحة:

حين أعلنها قيس سعيد صراحة: "أنا ربكم الأعلى"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حين كنت طالب ماجستير في القانون الأنجلوسكسوني، في كلية العلوم القانونية والسياسة والاجتماعية بتونس، منذ ثماني سنوات خلت، كان قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري، مدرساً مساعداً في نفس الكلية.

لم يحالفني "الحظ" الاستثنائي الذي حالف طلبة تلك الكلية بالدراسة عنده، لأني كنت طالب ماجستير، ولأنني قمت بدراسة الإجازة في القانون في كلية الحقوق والعلوم السياسية، الكلية الأم التي درس بها قيس سعيد نفسه.

كنتُ أرى دوماً الصور التي ينشرها الطلبة على حساباتهم الافتراضية حين التقاط صورة مع الأستاذ النزيه الطيب، المتواضع، المتصوّف، الزاهد، مع الإطناب الموغل في ذكر مناقبه وتواضعه وسماحته مع الطلبة. لكن للأسف، وقد أحسست بالذنب نوعاً ما حينها، لم أطمئن لذلك الزهد الشديد أبداً، وأحسستُ أن تقيّة كاذبة مبالغاً فيها قد تكون مختبئةً هناك، وكنتُ على حق.

كان الأستاذ قيس يُقبل كل صباح إلى مشربة الكلية الصغيرة في حدود الثامنة، كيف يقوم بطلب كوبي قهوة مركّزة (اسبريسو)، واحدة يشربها مباشرة دفعة واحدة، وثانية يأخذها معه للقسم. دفعني الفضول لسؤال الزملاء والأصدقاء حول أدائه في المحاضرات، كي تكون ردود الجميع ضبابية جداً: كان قيس سعيد كالببغاء تماماً، يكرّر نصوصاً ويجترّها بنفس الطريقة، وحتى نفس النبرة وفترات السكوت والاستدراك على مر السنين. أسلوب لم يغيره أبداً حين أصبح رئيساً/إلهاً.

كنتُ أرى دوماً الصور التي ينشرها الطلبة على حساباتهم الافتراضية مع قيس سعيد، الأستاذ النزيه الطيب، المتواضع، المتصوّف، الزاهد، لكن للأسف، لم أطمئن لذلك أبداً، وأحسستُ أن تقيّة كاذبة قد تكون مختبئةً هناك

أكاد أجزم اليوم أن شخصية قيس سعيد "الأستاذ" و "الأب" هي نفسها التي تتحكّم بدواليب الدولة منذ توليه السلطة. لا يوجد قيس سعيد سياسي، ولا أظن أنه سيوجد، وحتى إن وجد، فسيكون ذلك على حساب الشعب التونسي: يوجد اليوم قيس الأب، والأستاذ الذي يتحكّم بسير الدرس، ولا يستمع للأسئلة، ويغضب فعلاً من النقاش أو التساؤل حول بعض النظريات القانونية، ومثلمَا كانت ردّة فعله الأستاذية إخراجك من قاعة الدرس، تكون ردة فعله السلطوية اليوم إخراجك من الحياة العامة.

باعتباري روائياً قبل أن أكون محامياً، أي أنني شاب نشر روايته الأولى قبل أن يمارس المحاماة في حياته، طالما تخيّلتُ كون قيس سعيد بطل قصة ما، وخاصة حين أردت المرور يوماً ما في بهو الجامعة، إلى قاعة المحاضرات الكبيرة، بينما كان هنالك جمع من أساتذة القانون الجامعيين في مدخل البهو. لم أستطع المرور، وشعرتُ بحرجٍ شديد لأن الأساتذة كانوا في نقاش محتدم بينما لم أستطع طلب الإذن، وكان الوحيد الذي انتبه لوجودي، هو الأستاذ قيس سعيد، فانزاح إلى الركن قائلاً: "تفضل ولدي".

قيس ذكي على مستوى الذكاء الاجتماعي، هو يُحسن جيداً لعب دور الأب، والظاهر أنه لا يحسن لعب غيره، حتى إنه لم يفلح أن يكون رجل دولة وسياسياً ورئيساً ملتزماً بالقانون، بل لم يرتح ضميره إلا عندما أعلن، رسمياً، يوم الخامس والعشرين من تموز/يوليو، أنه "أب" تونس الجديد بعد بورقيبة، كي يعزّز ذلك بإجراءات سبتمبر، ويتحوّل إلى أب تونس "الغاصب" ، أو "أبوك غصباً عنك" والسجن/المنفى هو البديل.

هذا المنطق الأبوي البحت هو ما يتحكّم في معظم قرارات وسياسات قيس سعيد، وحتى خطاباته، فهي تتضمن حكايات تاريخية ونصائح وتقريعاً، تماماً مثل ما قد يتصرّف أي أب عربي تقليدي محافظ مع ابنه (أو شعبه، في هاته الحالة).

قام قيس سعيد، الأستاذ الذي كنتُ أنظر له كأب ملهم و"نظيف" قبل سنوات المنفى، بالانقلاب على كل شيء، على البرلمان والدستور والقوانين والحكومة والأحزاب وعلى نفسه.

قيس سعيد ذكي على مستوى الذكاء الاجتماعي، هو يُحسن جيداً لعب دور الأب، والظاهر أنه لا يحسن لعب غيره، حتى إنه لم يفلح أن يكون رجل دولة وسياسياً ورئيساً ملتزماً بالقانون

من الأب إلى الإله

يمرّ قيس سعيد الآن إلى درجة السرعة القصوى في سلطويته، فبعد انقلاب الخامس والعشرين من تموز/يوليو، ثم مرسوم أيلول/سبتمبر، تأتي اعتقالات شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/فبراير من هذه السنة، كي يعلنها قيس صريحة: "أنا ربكم الأعلى".

يبتدأ الأمر بالسياسيين في السلطة، ثم المعارضين الصغار، وينتهي بالإعلام والصحفيين والمجتمع المدني والجميع، بمن فيهم أفراد الشعب البسطاء.

قابلت كاتباً شاباً رائعاً مليئاً بالطاقة مؤخراً، طار من باريس إلى نيويورك في زيارة للحديث عن كتابه، وأخبرني في حزن خفي: "لا استطيع العودة إلى تونس الآن، على الرغم من أنني مواطن أوروبي ايضاً، كتابي ينتقد قيس سعيد وهنالك خطر حقيقي".

استمعت إلى بعض الناشطين في تونس أو في المنفى، وأصبح الاعتقال خبزاً يومياً، مثل أيام خلت.

أيام الجمر، كما كنا نسميها، تعود ببطء. الفحم يشتعل من جديد شيئاً فشيئاً، ولا يكف قيس سعيد عن النفخ على الفحم كل حين، حتى يتحول إلى جمر ملتهب مرة أخرى.

أتذكر جيداً أيام الثورة، أيام الحلم الحقيقي، وأتحسّر الآن على كل شيء، بينما أرى قيساً يدوس علينا، وعلى كل شيء، ويحطم آخر ذرة في أي حلم كنا قد مارسنا خطيئة تخيله يوماً ما. وأرى ان كلمة ثورة قد أصبحت تثير ضحك الجميع، وفي أحسن الأحوال، تحسّرهم، مع القليل من النوستالجيا الساخرة الزائفة.

كم هو مخيف فعلاً تحول الحلم الكبير إلى كابوس بهذه السرعة، والشغف إلى انطفاء، والتوق إلى البحث عن الخلاص الفردي: الجميع يريد الهروب، نخبة وشعباً، فقراءَ وأغنياء، أبرياء ومجرمين، طلبة وعاطلين عن العمل ومهندسين وأطباء وممرضين وعاملي بناء. لم يعد أحد يريد البقاء، يريد الجميع أن يحملوا ذرة من الوطن على ظهورهم والترحال إلى أية ضفة أخرى.

أقف هنا اليوم، في إحدى محطات بروكلين، منتظراً مترو الأنفاق وأنا أدخن سيجارة، متذكراً عبارة أحد الرفاق حين تمّت محاصرتنا ليلاً من قبل الشرطة في سيدي بوزيد، أيام اندلاع الثورة، وأنا أصرخ: ما الذي نريده؟ ما الفائدة من كل هذا؟ فينظر لي غاضباً وهو يقول: أريد أن تصبح سيدي بوزيد مثل نيويورك!

أنفث دخان السيجارة، وأنا أتمنى أن تصبح نيويورك، مدينة الصلب والإسمنت والحديد، سيدي بوزيد، مدينة الجبل والهواء والهدوء والموت البطيء، ولو لساعة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image