قبل ظهور المسرح بشكله الحديث في مصر، انتشرت فرق هزلية عُرف أعضاؤها بـ"المُحبوظين"، قدّمت عروضاً مسرحيةً في الشوارع والاحتفالات المختلفة، وانتقدت خلالها السلطة الحاكمة، وهاجمت الفاسدين من موظفي الدولة، ورصدت تجبّر مُلاك الأراضي على الفلاحين، وكانت أبرز هذه الفرق "أولاد رابية".
و"المُحبظون" لفظ يشير إلى جماعة أو فرقة من الممثلين، ومفردها "مُحبظ"، وأغلب الظن أن الاسم منسوب إلى شخص يُدعى بهذا الاسم كان يعمل في مهنة التمثيل، وبمرور الوقت أُطلقت هذه الكلمة على من يمتهن الحرفة نفسها في مختلف الفرق، حسب ما ذكر الدكتور عطية العقاد في دراسته "تأملات جديدة في أوراق قديمة للمسرح العربي، دراسة في المصطلح النقدي".
انتقاد السلطة والموظفين
ويذكر فيليب سادجروف في كتابه "المسرح المصري في القرن التاسع عشر 1779-1882" (ترجمه إلى العربية الدكتور أمين العيوطي)، أن "أولاد رابية" كانت تقدّم عروضها بصفة عامة في الاحتفالات الأسرية، وأيام الأعياد، وحفلات الزفاف التي تكون على نفقة العريس، وتعرض عروضها أيضاً أمام البيت أو في فنائه إذا كان كبيراً بما فيه الكفاية، كونها ترفيهاً للضيوف في أثناء ليلة الحنّاء، وأحياناً في أثناء النصف الأخير من اليوم الذي يسبقها، وكان أعضاء الفرقة يحصلون على أجر من الأعيان والأغنياء، كما كانت الفرقة تقدّم عروضها في الأماكن العامة خلال شهر رمضان، ويحصل أعضاؤها على ما يجود به العامة لهم.
خلال عروضها، تهكمت "أولاد رابية" على الطبقات الحاكمة لسلبها المزارع وسرقتها المواشي، وكذلك على العقوبات الصارمة التي فُرضت على البسطاء من الضرب بالسياط، أو إعدام رجل لأنه سرق مبلغاً ضئيلاً
وخلال عروضها، تهكمت "أولاد رابية" على الطبقات الحاكمة لسلبها المزارع وسرقتها المواشي، وكذلك على العقوبات الصارمة التي فُرضت على البسطاء من الضرب بالسياط، أو إعدام رجل لأنه سرق مبلغاً ضئيلاً، أو شنق شخص ما لأن المدير أو المأمور غضب عليه، وكانوا يسخرون من أولئك الذين فشلوا في الدفاع عن شرفهم، وغالباً ما استهدفت المسرحية الأوروبيين والأقليات الدينية من المسيحيين واليهود.
وكانت تروق للناس من مختلف الطبقات رؤية هذه العروض التي تهاجم الموظفين الفاسدين، والطبقات الحاكمة العليا المتجبرة، والضرائب المفرطة، حتى أن مؤيدي هذه الفئات التي تعرضت لهذا الهجوم والانتقاد من الأغنياء وذوي السلطة والنفوذ أقبلوا على مشاهدة هذه العروض ورأوا في هذا تهكماً مسلّياً غير ضارّ.
والغريب، أن هذه المسرحيات جذبت أنظار مسؤولين أجانب، ربما لأنها تعكس جانباً من الواقع، فبحسب سادجروف، شاهد الموظف البريطاني جون بورنج، هذه العروض، وتطرق إليها في تقاريره التي كان يرفعها إلى وزير الخارجية البريطاني اللورد فيسكونت بالمرستون، عن شؤون مصر عام 1839، فذكر أن هذه المسرحيات ترتبط دائماً بموضوعين أساسيَين، هما الدين وفرض الضرائب.
وقال: "تقدّم الدرامات الدينية عادةً مسيحياً كافراً، تُمارَس عليه عملية الهداية في شكل عمليات ضرب قاسية بالعصا، ودائماً ما تنتهي العملية بانتصار العقيدة المحمدية، ويستسلم المسيحي الذي يعاني شيئاً فشيئاً، وبعد وفرة من الضرب يصل المسيحي إلى وفرة من الإيمان".
أما المصوّر الفرنسي ماكسيم دوكام، فقد رافق الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير في رحلته إلى مصر عام 1849، وشاهد عرضاً للفرقة في حفل زفاف ابنة خادم حمام الخديوي عباس باشا، وكان في العرض ممثلان، أحدهما يتنكر في زي امرأة غريبة الشكل، والآخر يضع لحيةً طويلةً وقد قوّس ظهره مثل رجل بلغ مئة عام، وكان هذان الشخصان يلعبان نوعاً من التمثيلية البدائية، يدور فيها سؤال مراراً وتكراراً عن العمر والأدوية، وكل كلام يصدر منهما يثير ضحك الجميع. وأمتع هذا العرض النساء داخل البيت، اللواتي كنّ يضحكن ويطلقن الزغاريد ليُظهِرن استمتاعهنّ.
غمز جنسي وأفعال فاضحة
وبحسب سادجروف، تضمنت عروض هذه الفرقة الكثير من الغمز الجنسي، بل حتى أشكالاً من الأفعال الفاضحة، برغم أن الجمهور كان مختلطاً من الرجال والنساء، وإن كان في غالبيته من الشباب.
شارك كثر من المتعلمين العرب الأوروبيين وجهة نظرهم تجاه "أولاد رابية"، فنظروا إليها بوصفها لا تلائم العصر الحديث، ولا تقدّم فناً مسرحياً بالمعنى المعروف آنذاك.
وكان الرجال والصبية يؤدون أدوار النساء منعاً للإساءة إلى الأعراف الاجتماعية في مجتمع يُفصَل فيه بين الجنسين، وكان الممثلون يرتدون أحياناً زياً نسوياً، وقد يستخدمون أيضاً مساحيق التجميل وربما الأقنعة.
ويذكر سادجروف، أن هذه المسرحيات الارتجالية لم تفسح مجالاً كبيراً لتطور الحبكة أو الشخصية، لذا تعرضت لانتقادات كثيرة وهجوم كبير من الراصدين الأوروبيين الذين كانوا يعيشون في مصر آنذاك، ومنهم كلوت بك، المدير الفرنسي لمدرسة الطب المصري من عام 1827 إلى 1849، والذي تطرق في كتابه "لمحة عامة إلى مصر" إلى هذه الفرقة، وقال: "إن التمثيليات التي يعرضونها تخلو من الإثارة وتفتقر إلى الروح، هذه هي الطفولة الأولى للفن في الشكل الأكثر بدائيةً والأقل جاذبيةً".
أعضاء الفرقة
وكان أعضاء هذه الفرقة من المسلمين والمسيحيين واليهود، حسب ما ذكر الرحالة الدنماركي كارستن نيبور، الذي زار مصر عام 1763، ودوّن مشاهداته في كتابه "رحلة إلى شبه الجزية العربية وإلى بلاد أخرى مجاورة" (ترجمته إلى العربية عبير المنذر).
وشاهد نيبور أحد عروض "أولاد رابية"، وذكر أنهم يستعملون باحة المنزل كمسرح، أو يمثلون في الهواء الطلق، وفي جزء من مكان التمثيل هناك ستار يغيّرون ثيابهم خلفه، لكنه قال إن مظهر أعضاء الفرقة يشير إلى أنهم يحصلون على أجور زهيدة.
ويروي: "ولأن عدداً كبيراً من الأوروبيين لم يكن قد شاهد أي مسرحية عربية، اتفقنا مع هؤلاء الممثلين أن يعرضوا لنا تمثيلهم في منزل تاجر إيطالي، إلا أننا لم نُعجب لا بالموسيقى ولا بالممثلين، ولم أكن أجيد اللغة العربية لأفهم كلامهم، ولم أجد ضرورةً في طلب التفسير لأن التمثيلية بكاملها كانت سيئةً".
ويضيف: "جُلّ ما فهمته أن الممثل الأساسي كان امرأةً (بل كان رجلاً في ثياب امرأة وفشل في إخفاء لحيته)، وكانت تدعو المسافرين إلى الدخول إلى خيمتها حيث تسلبهم مالهم بطريقة فائقة التهذيب ثم تطردهم منها".
دعابة سوقية
الأمر ذاته ذهب إليه الإنكليزي إدوارد وليم لاين، الذي عاش في مصر في عشرينيات القرن التاسع عشر وثلاثينياته، ودوّن مشاهداته في كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم... مصر ما بين 1833-1835" (ترجمته إلى العربية سهير دسّوم)، فذكر أن أعضاء "المحبوظين" كانوا "يستقطبون المتجمهرين إلى عروضهم في ساحات القاهرة العامة، ويستدرّون تصفيق الناس من خلال أعمالهم المبتذلة ودعابتهم السوقية".
ووصف لاين، عرضاً شاهده لهذه الفرقة قدّمته أمام محمد علي باشا، خلال احتفال أقامه الوالي بمناسبة ختن أحد أولاده، واقتصرت شخصيات المسرحية على الناظر وشيخ البلد وخادمه وكاتب قبطي وفلاح مَدين للحكومة وزوجته وخمسة أشخاص آخرين، مثَّل اثنان منهما دور طبّالَين، ومثّل الثالث دورَ عازف مزمار، وظهر الاثنان الباقيان في دور راقصَين. وكان هدف هذا العرض تنبيه الباشا إلى انتشار الرشاوى واستغلال الموظفين للفلاحين، والمسلك السيئ للمسؤولين في جمع الضرائب.
موقف المتعلمين المصريين من "أولاد رابية"
وشارك كثر من المتعلمين العرب الأوروبيين وجهة نظرهم تجاه "أولاد رابية"، فنظروا إليها بوصفها لا تلائم العصر الحديث، ولا تقدّم فناً مسرحياً بالمعنى المعروف آنذاك، ومن هؤلاء علي مبارك الذي سافر إلى فرنسا وانبهر بما رآه هناك، فكتب روايته "علم الدين" المنشورة في عام 1882، حسب ما ذكر الدكتور عبد البديع عبد الله في كتابه "التطلع إلى المستقبل بعيون الماضي، دراسة في أدب عصر التنوير".
ويبدو أن مشاهدة علي مبارك لعرض مسرحي في فرنسا أثار في نفسه الإحساس بتخلف الفنون السائدة في مصر عند "أولاد رابية"، فذكر على لسان إحدى شخصيات روايته وهو فرنسي: "لا مناسبة بين الجماعة المعروفة عندكم بأولاد رابية، وبين التياتر الفرنسي، فأولاد رابية إنما هم أشخاص مجردون من حسن الخصال والعلم والكمال، ومجتمعون من طغام الخلق وعوام الناس، لا يحسنون معقولاً ولا منقولاً، بخلاف طائفة التياتر عندنا، فأكثرهم ممن تعلّم وتربى وتهذب وحصل على فنون كثيرة".
وعلى لسان شخصية "الشيخ"، ذكر أن هذا الفن يقوم على لغة صدامية، وضعف عقلي ورذيلة، مما يجعل أي شخص ذي عقل وإحساس ديني، أو لديه مثقال ذرة من الحياء أو الأدب، أن يتجنبها. وانتهى علي مبارك في روايته إلى أن الأتقياء عليهم أن يبتعدوا عن أماكن ترتادها هذه الفرقة.
المسرح الحديث في مصر
وبرغم الجدل الذي أحيط بعروض "أولاد رابية"، إلا أن هذه الفرقة مهّدت لظهور المسرح الحديث في مصر في أثناء الحملة الفرنسية (1798-1801). ويذكر سيد علي إسماعيل في كتابه "تاريخ المسرح في العالم العربي: القرن التاسع عشر"، أن نابليون بونابرت عندما احتل مصر اصطحب معه بعثةً علميةً، وكان من بين أعضائها اثنان من كبار الموسيقيين، يُسمّى أحدهما "ريغل" والثاني "فيلوتو".
بعد أن غادر نابليون مصر لحق به ريغل وبقية رجاله، بعد أن وضعوا اللبنة الأولى للمسرح الحديث في مصر، وفي العالم العربي، لكن ذلك لم يمنع فرقة "أولاد رابية" من تقديم عروضها لسنوات طويلة تالية
وكتب بونابرت إلى حكومة بلاده يومذاك طالباً فرقةً من الممثلين، وبالفعل وصلت الفرقة وبدأت التشخيص في منزل شخص من أعيان القاهرة يُدعى كريم بك في منطقة بولاق.
وبحسب إسماعيل، عثر بعض الباحثين على رسالة كتبها مسيو فيلوتو إلى الجنرال مينو، وكان حينذاك في الإسكندرية، وذكر له أنه كُلّف بإنشاء مسرح لـ"التشخيص"، وطلب منه إرسال الأوتار وآلات موسيقية فرنسية.
وسُمّي المسرح الأول في مصر بـ"مرسح الجمهورية والفنون"، وعُرضت عليه مسرحيتان، هما رواية "الطحانين" ورواية "زايس وفلكور" أو "بونابرت في القاهرة"، واشترك في تشخيص المسرحية الثانية أغلب علماء الحملة الفرنسية، كما ذكر إسماعيل.
وبعد أن غادر نابليون مصر لحق به ريغل وبقية رجاله، بعد أن وضعوا اللبنة الأولى للمسرح الحديث في مصر، وفي العالم العربي، لكن ذلك لم يمنع فرقة "أولاد رابية" من تقديم عروضها لسنوات طويلة تالية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...