قام الرئيس الصيني شي جين بينغ، بزيارة السعودية في نهاية العام الماضي 2022، واستمرت زيارته ثلاثة أيام، وهي الزيارة الثانية بعد زيارة عام 2016، بعد دعوة من الملك سلمان بن عبد العزيز، وعُقدت قمتان خليجية-صينية، وخليجية-عربية، حضرها قادة من دول المنطقة.
في حينها، أكد البيت الأبيض في بيان في تاريخ 7 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أن زيارة الرئيس الصيني مثال على محاولات الصين بسط نفوذها في أنحاء العالم، وأنها "لن تغيّر سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط".
جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، قال في تصريحات صحافية بالتزامن مع وصول الرئيس الصيني إلى السعودية، إنه "من المؤكد أن جولات الرئيس شي ليست مفاجئةً، لكن الولايات المتحدة تركز على شراكتها في المنطقة".
ولطالما شهدت العلاقات الأمريكية-الصينية تنافساً يتصاعد حيناً ويتراجع حيناً آخر، إلا أنه في خلال السنوات الأخيرة، زادت حدته، وساهم في ذلك لاحقاً الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي، ولكن البارز الآن أن الصين دخلت إلى العمق الإستراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أي السعودية والخليج العربي، وذلك بعد أن مدّت أذرعها في مناطق كإفريقيا وآسيا، بعد مبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقها الرئيس الصيني في 2013 في كازخستان، والتي تهدف إلى إحياء طريقي الحرير البحري "الحزام" والبري "الطريق"، اللذين كانا يربطان الصين بالعالم قبل نحو 3000 سنة.
تهدف مبادرة "الحزام والطريق" إلى إحياء طريقي الحرير البحري "الحزام" والبري "الطريق" لربط الصين بالعالم
كان يُنظر إلى المنطقة على أنها مساحة نفوذ حصري للولايات المتحدة، خاصةً عبر التواجد العسكري الأمريكي فيها، لكن بعد التوترات الأخيرة التي شهدتها العلاقات السعودية-الأمريكية، باتت هناك صورة مختلفة لهذه العلاقات، ومن هنا فإن زيارة الرئيس الصيني تعطي مؤشراً واضحاً على التغير في العلاقات الدولية التي تحاول الصين فيها مع روسيا، بناء عالم متعدد الأقطاب.
كيف ستتحرك واشنطن؟
كان الرئيس الأمريكي جو بايدن، واضحاً عندما زار السعودية الصيف الماضي، إذ قال إن "الولايات المتحدة لا تنوي الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط وترك فراغ تحتله الصين أو روسيا أو إيران، وللصين طبعاً منزلة خاصة بين تلك الدول المنافسة للولايات المتحدة، فهي الأقوى اقتصادياً بفارق كبير، والاقتصاد الصيني هو ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي".
تقول إليزابيث ستكني، المتحدثة الإقليمية باسم وزارة الخارجية الأمريكية، في حديث خاص إلى رصيف22: "نعلم أن لدى حلفائنا وشركائنا في المنطقة علاقات معقدة، خاصة بهم، مع جمهورية الصين الشعبية، ونحن نحترم إرادة هذه الدول في اتخاذ قرارات سيادية لما فيها مصلحة شعوبها، فكما قال الوزير بلينكن: الولايات المتحدة لن تجبر حلفاءها أو شركاءها على خيار معنا أو معهم؟".
لكن هناك مخاوف أمنيةً من الإقبال الصيني على المنطقة، تقول ستكني، وتضيف: "نريد أن نضمن ألا يكون نفوذ بكين ونشاطاتها في الشرق الأوسط على حساب ازدهار المنطقة واستقرارها وعلاقاتها طويلة الأمد مع شركائها العالميين، بما في ذلك الولايات المتحدة. بالنسبة لنا لا تفرّق جمهورية الصين الشعبية بين الاقتصاد أو السياسة أو الأمن، الأمر الذي غالباً ما يخلق مخاوف أمنيةً للولايات المتحدة وشركائها".
وتعود العلاقات بين الصين والسعودية، إلى نحو ثمانين سنةً خلت، لكنها اتخذت شكلها الدبلوماسي الرسمي عام 1990، بعد تبادل السفراء بين البلدين، ومنذ ذلك الوقت تطورت العلاقات لترتبط الدولتان بشكل قوي، خاصةً في مجال الطاقة، إذ تُعدّ السعودية المصدر الأول للنفط إلى الصين وتتفوق في ذلك على روسيا، كما أسهم هذا التعاون في وصول حجم التبادل التجاري بين السعودية والصين إلى 87.3 مليار دولار في 2021.
يشير الدكتور اسماعيل تركي، الباحث في العلاقات الدولية، خلال حديثه لرصيف22، إلى أن "الصين كقوة صاعدة في مختلف المجالات، خاصةً الاقتصادية والعسكرية، تريد أن تقتطع لها مجالاً متزايداً من حرية الحركة على الساحة الدولية، ومن هنا تشكل المنطقة العربية بما تحتويه من ثروات الطاقة محط أنظار الدول الكبرى، بما فيها الصين، خاصةً بعد الحرب الروسية-الأوكرانية وما خلّفته من أزمة طاقة عالمية".
إدارة بايدن لا تطالب دول المنطقة بعدم إقامة علاقات مع الصين، لكنها تحذر من أنه إذا تجاوز التعاون الأمني مع الصين العتبة فسيخلق تهديدات أمنيةً لها
ويضيف: "الصين حاولت في العقد الأخير أن تنخرط بشكل أكبر مع الاقتصادات العربية، لتصبح شريكاً أساسياً وإستراتيجياً، في مواجهة الولايات المتحدة، سواء في الاقتصاد أو في تسليح بعض الدول ومن بينها السعودية، وهذا ما دفع الولايات المتحدة منذ عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، إلى عدّ أن الصين تشكل التهديد الأكبر لمكانة الولايات المتحدة، وهو ما لا يزال مستمراً مع الإدارة الحالية".
تهديد إستراتيجي!
الولايات المتحدة، وعلى لسان نائب وزير الدفاع فيها كولن كال، أكدت أن تعاون شركاء واشنطن في الشرق الأوسط الوثيق مع بكين، لا سيما في القضايا الأمنية، ستكون نتيجته الإضرار بالتعاون مع واشنطن.
وأوضح كال، في فعالية نظمها "المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية"، في حوار المنامة في البحرين، في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أن "هناك مخاوف حقيقيةً لدى الإدارة الأمريكية بشأن النفوذ الصيني المتزايد في الخليج والشرق الأوسط الأوسع، ولكن إدارة بايدن لا تطالب دول المنطقة بعدم إقامة علاقات مع الصين، لكنها تحذر من أنه إذا تجاوز التعاون الأمني مع الصين العتبة فسيخلق تهديدات أمنيةً لها".
ويضيف: "المخاوف تنبع من أن المشاركة الصينية في شبكات الاتصالات يمكن أن تخلق نقاط ضعف إلكترونيةً للولايات المتحدة، في حين أن المشاركة الصينية في بعض مشاريع البنية التحتية يمكن أن تولّد مخاطر استخباراتيةً، كما أن وجود الصين في دول معيّنة في المنطقة يمكن أن يسمح لها بإجراء مراقبة على القوات الأمريكية".
في هذا السياق، تقول ستكني: "تعمد بكين إلى تقديم حلول قصيرة الأجل، بدلاً من الفرص المستدامة طويلة الأجل التي تخلق ازدهاراً ونمواً حقيقيين، وقد كنا صريحين مع شركائنا وحلفائنا بشأن مخاوفنا. لقد رأينا أمثلةً لا حصر لها في جميع أنحاء العالم لسرقة الملكية الفكرية في جمهورية الصين الشعبية، ونقل التكنولوجيا القسري وجمع البيانات. وقد حذرنا شركاءنا من المخاطر الكامنة في قبول مثل هذا الاستثمار".
وتضيف: "لا يتعلق الأمر بإجبار الدول على الاختيار بين الولايات المتحدة أو جمهورية الصين الشعبية، لكن هدفنا هو أن تبقى الولايات المتحدة الخيار الأكثر جاذبيةً لحلفائنا وشركائنا".
من جهته، يرى تركي، أنّ "توجه الصين نحو تعزيز الشراكة مع المنطقة العربية في ظل توتر العلاقات خاصةً مع السعودية، يُعدّ تهديداً مباشراً لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي وتواجدها في المنطقة، ونتيجةً للقرارات والتوجهات العربية وخاصةً السعودية المخالفة للولايات المتحدة، فإن هذه المرحلة ستتسم بتنافس كبير، بمعنى أن الصين كلما تقدمت خطوةً، فإن على الولايات المتحدة أن تتقدم خطوات، وإذا قدّمت الصين مساعدةً فيجب على الولايات المتحدة أن تقدّم مساعدات مضاعفةً، لذلك على الأخيرة بذل جهود مضاعفة لاستعادة ثقة دول المنطقة".
تعاون شركاء واشنطن في الشرق الأوسط الوثيق مع بكين، لا سيما في القضايا الأمنية، ستكون نتيجته الإضرار بالتعاون مع واشنطن
الصين بين إيران والعرب
بعد انتهاء زيارة الرئيس الصيني للسعودية، تصاعد الحديث عن إمكانية قيام بكين بجهود لتخفيف حدة التوتر في المنطقة وذلك بتقريب وجهات النظر بين دول الخليج من جهة، وإيران من جهة أخرى، إذ شهدت العلاقات الصينية-الإيرانية تطوراً كبيراً، كما أن بكين تدعم مواقف طهران في ما يتعلق بالملف النووي، ويرتبط الجانبان بمصالح اقتصادية وعلاقات عسكرية مهمة ما يخوّلها لعب دور في تقريب وجهات النظر مع دول الخليج.
الرئيس الصيني، وخلال زيارته للرياض، وافق على بيان مشترك يطالب إيران بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، كما يُدرج فيه موضوع الجزر الثلاث المتنازع عليها مع الإمارات، ومفاوضات الاتفاق النووي، وهو ما استدعى رداً صارماً من إيران، إذ قال وزير خارجيتها أمير عبد اللهيان في تغريدة على موقع تويتر، في 10 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، إن "جزر أبو موسى وطنب الصغرى والكبرى أراضٍ إيرانية وستبقى كذلك للأبد"، وأشار إلى أن بلاده لن تتسامح مع أي طرف حول ضرورة احترام وحدة أراضيها.
في اليوم الثاني لتصريح عبد اللهيان، أرسلت الصين هو تشون هوا، وهو نائب رئيس الحكومة الصينية، إلى الإمارات وإيران، وقال من طهران إن "بلاده تدعم استقلال إيران وسيادتها وتصديها للتدخل الأجنبي في شؤونها".
في المقابل، ترى الولايات المتحدة، أن الصين هي أبرز الداعمين لإيران، سواء من خلال التقنيات العسكرية، أو من خلال الاتفاقية التي وُقّعت بين الطرفين لمدة تزيد عن 25 عاماً، والتي توصف بالاتفاقية الإستراتيجية، وقد تم الاتفاق بموجبها على أن تستثمر الصين نحو 400 مليار دولار في الاقتصاد الإيراني خلال الفترة الزمنية للاتفاقية، مقابل أن تقوم إيران بتقديم النفط للصين بإمدادات ثابتة وبأسعار مخفّضة.
تقول سكتني: "في بعض الحالات المهمة، عملت بكين بجهد ضد أمن المنطقة ومصالح شركائنا، سواء في علاقاتها المتنامية مع إيران أو من خلال بيع مكونات مستخدمة في تصنيع أسلحة متطورة. ففي العام الماضي، وضعت الصين اللمسات الأخيرة على اتفاقية شراكة إستراتيجية مع إيران تمتد لـ25 عاماً بمليارات الدولارات من الاستثمارات المستقبلية المحتملة. كذلك، تضم قوائم عقوباتنا أكثر من 70 من مواطني الصين لضلوعهم في دعم النظام الإيراني، كما أنها الوجهة الأولى للنفط الإيراني، سواء من خلال الصادرات المشروعة أو عبر التحايل على العقوبات".
مستقبل العلاقات المتشعبة
تسعى الصين إلى الاستثمار في الأزمات والتوترات التي تمر بها المنطقة، لتعزيز العلاقات مع دول الخليج، وعينها على استثمارات بمئات المليارات من الدولارات كما تسعى إلى استغلال التوتر بين الرياض وواشنطن، بسبب قرار تخفيض إنتاج النفط ضمن "أوبك+" على وقع الحرب الروسية في أوكرانيا، للعب دور مهم وربما تعويض النفوذ الأمريكي.
وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، بتاريخ 9 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، قال: "سنواصل العمل مع جميع شركائنا ولا نؤمن بالاستقطاب"، في إشارة منه إلى أن السعودية ليست في موقف تقوم فيه بالاختيار بين الولايات المتحدة والصين، وأضاف أن "المنافسة شيء جيد"، مؤكداً أن بلاده ستواصل الحفاظ على علاقات قوية مع الولايات المتحدة "في جميع المجالات".
لقد رأينا أمثلةً لا حصر لها في جميع أنحاء العالم لسرقة الملكية الفكرية في الصين، ونقل التكنولوجيا القسري وجمع البيانات... فكيف حذرت واشنطن حلفاءها من عواقب هكذا تعاون؟
تقول إليزابيث ستكني: "علاقتنا وشراكتنا الإستراتيجية مع السعودية هي ثمرة ثمانية عقود من العمل. ولدينا مصالح متعددة معاً. ونحن ملتزمون بقوة بأمن الشرق الأوسط ونتمتع بمزايا لا تتوفر في أي دولة أخرى، في مجال بناء التحالفات والشراكات وأنظمة الدفاع المتكاملة. وحقيقةً، لا يوجد وجه للمقارنة بالقيمة المضافة التي نقدّمها، سواء كان ذلك في مجال مكافحة الإرهاب أو في مجال حماية حرية الملاحة، وصولاً إلى مواجهة التهديدات الإيرانية".
وتضيف: "يمثّل التعاون الإستراتيجي العميق للولايات المتحدة على مدى عقود طويلة مع الشركاء الإقليميين، قيمةً كبيرةً لمواجهة تحديات المنطقة. وهي قيمة لا يمكن لأي دولة، بما في ذلك الصين، أن تحلم بمضاهاتها. العلاقات الأمنية الأمريكية مع المنطقة حيوية ولا مثيل لها بما في ذلك شبكات الدفاع الجوي والبحري المتكاملة لمواجهة التهديد الإيراني".
بحسب الناطقة الإقليمية باسم الخارجية الأمريكية، فإن سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين في المنطقة، "قائمة على المنافسة، لكن ما لا نريده هو أن تتحول هذه المنافسة إلى صراع، لذا نعمل على إبقاء خطوط اتصال مفتوحة مع بكين، ويجب على الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية العمل معاً لمواجهة التحديات الدولية، مثل تغيّر المناخ والأمن الغذائي وغيرهما".
في المقابل، يرى تركي أن "حدّة التنافس الدولي في المنطقة العربية جذبت الصين للعب دور سياسي إلى جانب الاقتصاد، وهو ما سيؤجج الصراع بين القوى المهيمنة والصاعدة عالمياً وفي المنطقة، ولكن أكثر ما يثير قلق الغرب وخاصةً الولايات المتحدة، هو قيام الصين بعسكرة نفوذها في المستقبل، أي اتّباعها سياسةً متعددة الأوجه من أجل قلب موازين المعادلة والحضور الغربي في المنطقة".
ويشير إلى أن "الولايات المتحدة ستبذل ما يلزم لإعاقة التقدم الصيني في المنطقة، بالرغم من أن الصين ستبذل قصارى جهدها لإثبات وجودها فيها، وستواجه اختباراً صعباً في التوفيق وموازنة الصراع مع القوى الكبرى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...