شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"ساروجة" أو "إسطنبول الصغرى" صار ركاماً... لم يحترق المكان بل الذاكرة

حياة نحن والتاريخ

الأربعاء 19 يوليو 202304:31 م

غالبية الدمشقيين، وكثير من السوريين، من قلب العاصمة وخارجها، مشوا أو تسكعوا بين ردهات ذلك المكان العتيق وأزقّته وممراته الفرعية التي قد لا تتسع أحياناً لأكثر من شخص واحد. مَن مِن هؤلاء لم يتخذ كرسياً لالتقاط أنفاسه، على كتف أحد مقاهيه، طلباً لكأس شايٍ ساخن أو فنجان قهوة تفوح منه رائحة دمشق؟ مَن منهم لم يَعبُر "السوق أو السويقة" لا فرق، بين شارع الثورة والبحصة في قلب العاصمة؟ مَن منهم لم يشعر بأنه ركب آلة الزمن التي أعادته ببضع خطوات دهراً كاملاً إلى الوراء؟ ومَن لم يتذوق وجبات مطاعمه الشعبية بنكهاتها الدمشقية المميزة، داخلاً بـ"الخمسة والكف"، ومغمّساً بخبزه الطازج، متأملاً ياسمينةً أرخت ظلالها بغنج على جدرانه؟

كل تلك التفاصيل التي كانت بالنسبة للساكن في دمشق "يوميةً واعتياديةً"، غدت جزءاً من الذاكرة، وكأن النار المشتعلة في سوريا منذ عام 2011، لم تشبع من أرواح ناسها، وقلوب حجارتها، لتأتي على ذاكرتهم. ففي فجر الأحد في 16 تموز/ يوليو 2023، وتحديداً عند الساعة الثالثة فجراً، استيقظ سكان العاصمة السورية على خبر اندلاع النيران في حي ساروجة الأثري، في أحد المنازل القديمة المصنوعة من اللبن والقش، بالقرب من منزل عبد الرحمن باشا اليوسف (1920-1873)، أمير الحج الشامي في أثناء الحكم العثماني، والمعروف بـ"بيت اليوسف".

امتد الحريق إلى المنازل المجاورة، والتهمت أعمدة النار عدداً من الأبنية وعلى رأسها بيت الوزير الأسبق خالد بك العظم

التاريخ "ضحية جديدة"

بيت اليوسف المُصنّف ضمن لائحة التراث الوطني السوري، والذي بُني سنة 1890، والمميز بزخارفه ومشغولاته الخشبية وطابعه التراثي، والذي أعلنت مديرية الآثار في دمشق استملاكه منذ العام 2017، التهمته النيران بالكامل بمساحته التي تتجاوز الألفي متر مربع. كان مهجوراً، ولم يبقَ منه سوى بعض الجدران المتهالكة وساحة مليئة بالردم والتراب في وسطها نافورة مياه.

امتد الحريق إلى المنازل المجاورة، والتهمت أعمدة النار عدداً من الأبنية في الحي الشهير، وعلى رأسها بيت الوزير الأسبق خالد بك العظم (1965-1903)، الذي يُسمى اليوم "بيت التراث الدمشقي"، متسبباً في أضرار جسيمة في قسم "الحرملك" المخصص للوثائق التاريخية، والذي يحتوي على ما يُقارب الـ5 ملايين وثيقة، تحتل مساحةً كبيرةً من التاريخ السوري الحديث، كما أورد الرئيس السابق للائتلاف السوري المعارض أحمد معاذ الخطيب، في تغريدة له على موقع تويتر، واصفاً الحريق بأنه "تدمير ممنهج لسوريا ومحو لهويتها".

ولكن مدير الآثار والمتاحف نذير عوض، نفى في تصريح لتلفزيون ذلك قائلاً: "هذا القسم تشغله مديرية الوثائق التاريخية في المديرية العامة للآثار والمتاحف، وهي لم تتأثر بأي ضرر لأنها نُقلت سابقاً، والأضرار مادية، وأدى الحريق إلى انهيار أجزاء من القسم الجنوبي لبيت خالد العظم".

وبدأت على أثر الحريق، أسقف الأبنية بالانهيار تحت لظى السماء الحمراء والدخان الكثيف وأصوات الاستغاثات والصراخ الخارجة من أكثر من15 منزلاً من البيوت السكنية والورش الحرفية.

كل شيءٍ أصبح ركاماً

أثارت أخبار الحريق ونتائجه الكارثية، والتي لم تنجح فرق الإطفاء إلا بعد جهود كبيرة في السيطرة عليه، حتى ساعة متأخرة من صباح الإثنين، غضباً وتفاعلاً كبيرين بين ناشطي التواصل الاجتماعي، الذين انقسموا ما بين مُندد وقائلٍ إن الحادث "مفتعل"، و"مُدبّر" وفقاً لما قاله خليل المقداد، الذي دوّن عبر صفحته الشخصية على فيسبوك: "يبدو أننا أمام حالة جديدة من حرق المنازل التي رفض أصحابها بيعها للمحتل الصفوي".

بينما دلل الناشط مأمون سيد عيسى، عبر مدوّنة على صفحته الشخصية على فيسبوك، على أن ما يحصل هو "نوع آخر من التغيير الديموغرافي وهو افتعال حرائق في منطقة ومن ثم الاستيلاء عليها، خاصةً في دمشق القديمة"، مذكّراً بحرائق سابقة منذ نيسان/ أبريل 2016، في سوق العصرونية، مروراً بحريق سوق الحميدية الهائل في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه، وحريق منطقة الجابية في تموز/ يوليو 2017، وحي العمارة 2019، والتي كانت جميع أسبابها وفقاً للرواية الرسمية ناتجةً عن "ماس كهربائي"، وهو ما يستنكره عيسى.

أما عن الرواية الرسمية، فقد نقلت إذاعة شام إف إم، في تقرير بعنوان "حريق ساروجة... النيران تأكل التاريخ الدمشقي"، عن لسان مدير الآثار والمتاحف نظير عوض، قوله لبرنامج "البلد اليوم" الذي يبث على أثيرها، عن أسباب الحريق إنه "نتج بسبب وجود ورش صناعية في المنطقة الأثرية والتي تستخدم مواد قابلةً للاشتعال، وقد تكون هي إحدى أسباب اندلاع الحريق"، مؤكداً أن "دور المديرية صعب جداً، خصوصاً أن عمليات الترميم تحتاج إلى مبالغ طائلة في ظل الحصار والعقوبات المفروضة حالياً. أما الخسارة التي لا يمكن تعويضها فهي فقدان أصالة القصور".

مَن من الدمشقيين لم يَعبُر "السوق أو السويقة" لا فرق، بين شارع الثورة والبحصة في قلب العاصمة؟ مَن منهم لم يشعر بأنه ركب آلة الزمن التي أعادته ببضع خطوات دهراً كاملاً إلى الوراء؟

بينما تحدث مدير الدفاع المدني في دمشق، عن أن "السبب قد يعود إلى ارتفاع درجات الحرارة في مثل هذا الوقت من العام، رابطاً ذلك بطبيعة المنطقة الشعبية المزدحمة ذات الأزقة الضيقة التي صعّبت مهمة فرق الإنقاذ في الوصول سريعاً وأعاقت حركتها"، وأن الأضرار اقتصرت على الماديات دون وقوع أي إصابة بشرية.

في حين عبّر آخرون بحزن عن الواقعة المأساوية، فقال أحدهم: "كل شيء أصبح حطاماً وركاماً حتى ذاكرتنا، حريق كبير رافقه ألم كبير على تجدد الكوارث وتراكمها في دمشق"، وعلّق آخر: "بيت عبد الرحمن باشا في ذمة التاريخ جراء الحريق يوم أمس".

أهمية ساروجة

يحتل حيّ ساروجة مركز قلب دمشق مع التمدد العمراني الحديث والمؤلف في محوره الرئيسي من السوق أو السويقة، متفرعاً إلى حارات عدة؛ العقيبة والبحصة والعمارة ومنطقة سوق الهال القديم، وله مدخلان من جهة الجنوب عبر محلة البحصة، أو مروراً بـ"جوزة الحدباء"، أو من الجهة الجنوبية الشرقية عبر باب الآغا في محلة عين علي مروراً بزقاق القرماني، ليتحول إلى عقدة مواصلات رئيسية مع إنشاء شارع الثورة في سبعينيات القرن الماضي.

يتميز الحي بسوقه الشهير ومحاله المخصص بعضها لصيانة الأجهزة الإلكترونية، وتجارة الخضروات والفواكه، ومطاعمه ومخابزه ومقاهيه، التي يرتادها أهل دمشق يومياً، ويشهد ازدحاماً كبيراً حتى ساعات متأخرة من الليل، بالإضافة إلى حماماته الشهيرة؛ الورد، الجوزة، الخانجي، وحمام القرماني، ومساجده الخمسة عشر وأشهرها جامع الورد أو برسباي نسبةً إلى برسباي الناصري (ت 1437)، وكان نائب حلب وطرابلس في العهد المملوكي، وجامع الوزير الذي لم تبقَ منه سوى كتابة بالخط الكوفي تشير إلى بانيه ظاهر الدين طغتكين (ت 1128)، مؤسس حكومة البوريين الذين حكموا دمشق إبان فترة الدولة السلجوقية، إلى العديد من الترب والأضرحة والسبل. كذلك، تقع في حي الورد المدرسة المرادية البرانية التي أنشئت في دارة الشيخ مراد علي البخاري، عام 1696 م.

مع الوقت، تحولت معظم بيوت الشارع إلى فنادق صغيرة يؤمّها الطلاب الأجانب بالدرجة الأولى لقربه من المركز الثقافي الفرنسي في محلة البحصة المجاورة، وإلى مشاغل فنية أهمها مرسم الفنان يوسف عبدلكي، ومشغل النحت الذي أسسه الفنان مهند ديب.

أكثر من اسم لمكان واحد

يُعدّ حي ساروجة أوّل منطقة بُنيت خارج سور دمشق، وذلك في القرن الرابع عشر خلال الحكم المملوكي في عهد الأمير سيف الدين تنكز (ت 1340)، وإليه ترجع معظم الآثار المعمارية في الحي، تحديداً المدرسة البرانية التي تُعدّ الأساس لإنشاء الحي في الجهة الشمالية الغربية لدمشق القديمة، خارج باب الفراديس في ما يُسمى بـ"العمارة البرانية" وأُطلق عليه أول الأمر "حي الفراديس".

خلال الحقبة المملوكية، كان التجار المماليك يقيمون في هذا الحي الجديد، وكان مقراً لأعمالهم التجارية ومستودعاتهم

اسم آخر، يرد ذكره في القرن الرابع عشر، هو "عمارة الأخنائي" التي أنشأها شمس الدين محمد الأخنائي خارج الباب آنف الذكر. لكن الخلاف بين هذه المصادر يقع على أصل التسمية، فمنها ما ينسبه إلى أحد قادة تنكز، صارم الدين صاروج المظفري (ت 1342)، بسبب العمائر التي أنشأها الأخير في السويقة، كما يورد ابن عساكر الدمشقي في "تاريخ مدينة دمشق"، وتذكر المصادر أن الصاد خُففت مع مرور الزمن على اللسان الدمشقي ليصبح اسم المنطقة "ساروجة"، بدلاً من "صاروجة" نسبةً إلى صارم الدين.

أما الرواية الشعبية الشفوية المتداولة عن التسمية، فتتحدث عن ولي صالح ذي قدرات خارقة تسمح له بالتنقل من مكان إلى آخر في فترة وجيزة، لتتواتر على الألسنة حكاياته على أنه "سار" و"إجا"، لتصبح مع الزمن "ساروجا"، وقد سبق وكتبنا عن الحي التاريخي، وروايات ناسه. 

"إسطنبول الصغرى"

خلال الحقبة المملوكية، كان التجار المماليك يقيمون في هذا الحي الجديد، وكان مقراً لأعمالهم التجارية ومستودعاتهم، كمنافس مباشر لحي الميدان، ومجال تنافس بين الأمراء المماليك الذين شيّدوا المدارس والجوامع والحمامات، لكنه سرعان ما تعرّض للتخريب نتيجة الصراعات التي قامت بين "المماليك البرجية"، ما أدى إلى دمار المدرسة البرانية بالكامل. وازدادت أوضاع الحي المستحدث سوءاً في أثناء غزو تيمورلنك لدمشق، الذي حوّل الحي إلى قاعدة لنصب منجنيقاته التي كانت تقصف القلعة في كانون الثاني/ يناير 1401.

مع دخول العثمانيين إلى دمشق، قاموا بطرد المماليك منه، محاولين محو ذكر الأمير صاروج، بالترويج لاسم آخر "SARCA" بالتركية، وتعني اللون الأصفر، وهذا غير صحيح وفقاً لما يورده محمد أحمد دهمان في كتابه "معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي".

بعد ذلك أخذت معالم الحي بالتبدل، نتيجة اندفاع رجال الدولة العثمانية وعائلاتهم للسكن فيه، إثر إجلاء العائلات المملوكية، ليشهد نهضةً عمرانيةً كبيرةً، ويتحول الحي بسوقه إلى قلب تجاري للمدينة، ومنازله الكبيرة وحماماته ومساجده، إلى ما أطلقوا عليه في تلك الفترة بـ"إسطنبول الصغرى". 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard