تشكّل الأفلام القصيرة فرصةً للمخرجين الشباب، فهي لا تحتاج إلى إمكانات مادية كبيرة كالأفلام الطويلة المكلفة، ولكنها في الوقت نفسه تظلم مواهبهم جماهيرياً، فهي قليلاً ما تُعرَض في صالات السينما، وغالباً ما تقتصر على المهرجانات.
نستطيع القول إنها تشبه القصة القصيرة بالنسبة إلى الرواية الأكثر إقبالاً ومتابعةً، من ناحية جماهيريتها.
يشكّل الفيلم-البورتريه لوحةً سينمائيةً غنيةً للمشاهد، حيث يراقب المدينة من بعدٍ كافٍ لاكتشاف جماليات المشهد ونسج اللوحة لها، وهو أسلوب مختلف وحديث ومن الجرأة الدخول إليه. هذا ما يسجَّل لسينما الشباب وللمخرج الزواهري
حقق المخرج السوري -من أصل فلسطيني- الشاب أنس زواهري، حضوراً يُشهَد له، ليس على الصعيد المحلي فقط، بل العربي والعالمي، إذ قدّم فيلمَين قصيرَين الأول بعنوان: "يوم عادي جداً"، وأُنتِج عام 2019، والثاني بعنوان "صيف، مدينة، وكاميرا" وأُنتِج عام 2022. وقد شارك بهما في عشرات المهرجانات العالمية والعربية، وحصد الكثير من الجوائز الذهبية والفضية وجائزة أفضل إخراج وأفضل ممثل، وكانت آخرها الجائزة الكبرى في "مهرجان الأمم وحقوق الإنسان"، في موريتانيا هذا العام، وجائزة أفضل إخراج في مهرجان السينما الإيطالي 2023، وجائزة اختيار الجمهور لأفضل فيلم وثائقي دولي في النسخة الرابعة من مهرجان ديوراما السينمائي الدولي وغيرها.
فيلم "يوم عادي جداً"... معاناة يومية تدور على لسان سائق التاكسي
هو فيلم روائي قصير، تدور أحداثه في يوم واحد في شوارع مدينة دمشق، حيث يتجوّل بطله همام رضا، وهو سائق تاكسي، ناقلاً زبائنه إلى الأماكن التي يقصدونها، سارداً عليهم قصصاً مختلفةً، عن آلام الناس المرهَقين بعد سنوات الحرب وهمومهم، التي تتشابك في إطار معاناة عامة. قصص لم تحدث له، لكنه يتقمّصها على أنها قصة حياته، كما لو كان يريد أن يبدو شاهداً عليها، أو أنه لسان حال المدينة التي ينتمي إلى شوارعها وحكاياتها التي تدور هناك، ولهذا يجدّ في محاولات التعرف على قصص الزبائن الواحد تلو الآخر، فرصةً لإعادة صياغتها وسردها على آخرين، لاستعطافهم تارةً وكسب نقود أكثر، ولإرضاء رغبته في الحكي والتأليف خلال يومه الممل تارةً أخرى، وربما لينسى مشكلته الحقيقية، التي يفاجئنا بها في لحظة تصاعد تشكّل ذروة الفيلم عندما يتلقى اتصالاً يطالبه بدفع مبلغ من المال تحت طائلة فقدانه عمله.
والسائق الذي رأيناه منذ بداية الفيلم شخصيةً متلونةً تحاول الكسب، نرى في النهاية أنه يحمل معاناته داخله وفي لحظة انهيار يقف جانباً ويبكي بسبب حاجته، وقصر يد الحال. لكنه يتابع بعد لحظات مسيرته اليومية مستخدماً في النهاية قصته الحقيقية، لاستعطاف الزبائن.
الصمت هو اللسان الناطق، حين يصبح الكلام بلا طائل، وربما مجرد ضوضاء.
تبقى الكاميرا في السيارة في الجزء الأول من الفيلم، متنقلةً بين الزبون والسائق الذي يبدو ماسكاً خيوط الحبكة، إلى أن يضطر إلى النزول إلى الشارع، حيث يتلقى صفعةً من أحدهم، لتتغير زاوية التصوير حيث يقوم المخرج بجعل التصوير من خارج السيارة، وكأنه يعيد البطل إلى حجمه الحقيقي كواحد من النماذج التي يسرد قصصها، وكجزء من المهمشين أصحاب القصص. وفي لعبة فنية ذكية على مدار 28 دقيقةً هي مدة الفيلم، يظهر عدّاد تنازلي للزمن مع تبدل الزبائن والقصص التي يسردها السائق، لكن العداد لا ينتهي إلى الصفر أبداً، إذ يكمل السائق رحلته سارداً قصته الحقيقية ضمن سياق حكاياته المستمرة للزبائن، في إشارة إلى استمرار ذلك الجري المكوكي للناس في معاناتهم، لينتهي الفيلم بعبارة تستمر خلال الأيام العادية جداً.
كان أداء الممثلين وقد اختارهم المخرج من الأشخاص البعيدين عن الشهرة، أداءً عفوياً، يسحبنا إلى عمق المشهد، وكأننا نرى في تلك المشاهد الواقع وأحداث حياة يتشاركها مع الممثلين وتدور حوله في الواقع مع قالب فكاهي أحياناً في أداء همام رضا، وما يمكن أن نسمّيه الكوميديا السوداء.
"صيف، مدينة، وكاميرا"... بورتريه لمدينة دمشق
يتابع أنس زواهري، في فيلمه الثاني، رصد الواقع، ولكن بأسلوب مختلف. فالفيلم وهو بعنوان "صيف، مدينة، وكاميرا"، فيلم وثائقي عن مدينة دمشق، يرصد فيه حياة المدينة في أيام مختلفة، مقدّماً بورتريه للمدينة المنهكة من حرب طويلة، دون أي حوار أو ممثلين، إذ قام الزواهري بالتنقل بين شوارع المدينة الضيقة والمتشابكة والمهترئة وعلى أرصفتها ومقاهيها ومقاعدها حيث يتوزع الناس مرهقي الملامح كأنهم في رحلة انتظار طويل يترقبون الحياة، مسجلاً صورة المدينة وحركتها في الليل والنهار.
البساطة والصمت سيدا المشهد، وضحكات الأطفال والأغاني المرتبطة باليوميات كذلك. برع الزواهري في انتقاء زوايا التصوير وأماكن تثبيت الكاميرا لالتقاط مشاهد عفوية تعطي "بورتريه" المدينة وجهاً قابلاً لقراءات متعددة وبعداً فنياً عالياً. ظهر ذلك على طول الفيلم وفي لقطات عديدة، كصورة النوافذ المتجاورة المفتوحة مع المغلقة، ولقطة الظلال بلا أجساد على الجسر، والأجساد بلا ظلال تحته، ولقطة الغسيل الناصع البياض المنشور في حي شعبي، وغيرها من اللقطات الذكية والملتقطة بمهارة، بالإضافة إلى الظل الطويل للفتاة التي تناوبت مع المخرج على التصوير، فكانت تحمل كاميراها لتقوم بالتصوير في أماكن حركية، بينما قام هو بتصويرها في أثناء ذلك، وتصوير المدينة بتثبيت الكاميرا في زوايا مختلفة.
"الصعوبات كثيرة، بدايةً من أن سوريا ليست بلداً فيه صناعة سينمائية، ولا بيئة داعمة للسينما، والمحاولات الفردية جداً نادرة وقليلة لدعم السينما... خصوصاً أن الفن السينمائي، هو فنّ مكلف مادياً، ويصعب الحصول على تمويل"
جلوس الناس لا يوحي بالعطالة، بل بانسياب الزمن من خلالهم، لأنهم تفصيل حقيقي ضمن لوحة "بورتريه" المدينة التي تشاركهم إرهاقهم وانتظارهم، والعبث اليومي الذي يمتهن حياتهم.
الصمت هو اللسان الناطق، حين يصبح الكلام بلا طائل، وربما مجرد ضوضاء.
يشكّل الفيلم-البورتريه لوحةً سينمائيةً غنيةً للمشاهد، حيث يراقب المدينة من بعدٍ كافٍ لاكتشاف جماليات المشهد ونسج اللوحة لها، وهو أسلوب مختلف وحديث ومن الجرأة الدخول إليه. هذا ما يسجَّل لسينما الشباب وللمخرج الزواهري.
سينما الشباب توثّق صورة الحاضر في بورتريه المدينة العجوز المتعبة
تجربة أنس زواهري، تستحق الاهتمام، فبرغم الصعوبات التي تعانيها السينما في سوريا والمخرجون الشباب، قدّم فيلمين ما زالا يحصدان الجوائز في المهرجانات العالمية بثقة وفي فترة قصيرة نسبياً، محاولاً الخروج من صورة الحرب المستمرة لسنوات طويلة، إلى ما تركته في حياة الناس اليومية وحياة المدينة المرهقة منها.
هذه الصعوبات الكثيرة التي يلاقيها المخرجون الشباب، والتي يقول عنها أنس في معرض حديث له: "الصعوبات كثيرة، بدايةً من أن سوريا ليست بلداً فيه صناعة سينمائية، ولا بيئة داعمة للسينما، والمحاولات الفردية جداً نادرة وقليلة لدعم السينما، وبعد الحرب تعقّدت الأمور أكثر فأكثر، بسبب سوء الظروف الاقتصادية، خصوصاً أن الفن السينمائي، هو فنّ مكلف مادياً، ويصعب الحصول على تمويل، بالإضافة إلى ندرة الأماكن التي تعلّم الصناعة السينمائية أكاديمياً لتحصل على المعلومة الصحيحة والتجربة الجيدة، نستطيع أن نقول توجد محاولات ولكن ينقصها الكثير لتقف على قدميها. لهذا فإن أي تجربة ناجحة هي جهد ذاتي من الأشخاص وهي قليلة جداً، ويبقى طبعاً الحديث الطويل عن الرقابة الفكرية وصعوبة الحصول على موافقات للتصوير وما يتبعها من أمور".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 7 ساعاتحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com