في خطوة محبطة للقوى الليبرالية وقيادات الجيش الإسرائيلي، صدّق الكنيست يوم الثلاثاء الماضي (بأغلبية 63 صوتاً مقابل 47 صوتاً)، على القراءة الأولى لمشروع قانون "إصلاحات القضاء" الذي تقدّمت به حكومة نتنياهو، والذي نجمت عنه تظاهرات احتجاجية عنيفة في آذار/ مارس الماضي.
وفور إعلان التصديق على مشروع القانون، اندلعت المظاهرات العارمة مرةً أخرى في إسرائيل، وحثّ قادة أحزاب المعارضة المتظاهرين على الصمود في وجه ما وصفوه بالانقلاب القضائي، كما طالبوا الشرطة بالانحياز إلى الشعب.
ما هي تلك الإصلاحات؟ وهل يمكن أن تقود حقاً إلى حرب أهلية كما حذّر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ؟ وما علاقة العرب وواشنطن بما يحدث في تل أبيب اليوم؟
الإصلاحات القضائية محل الاعتراض
تهدف التعديلات الأخيرة التي صّدق عليها البرلمان، وتسببت في تفجر الوضع في إسرائيل، إلى تغيير شكل العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية وطبيعتها. ويمكن إيجاز تلك القوانين في النقاط التالية:
1- تقليص صلاحيات المحكمة العليا في ما يتعلق بمراجعة القوانين، مع منح الكنيست الحق في إلغاء قرارات المحكمة العليا.
2- زيادة تمثيل الحكومة في لجنة "اختيار القضاة"، وعليه تصبح سلطة تعيين القضاة في يد الحكومة، بما في ذلك قضاة المحكمة العليا.
3- تُلغى المادة التي تلزم الوزراء بالامتثال لتوصيات المستشارين القانونيين التابعين للمدعي العام.
4- إلغاء صلاحية المدعي العام في إصدار قرار بعدم أهلية رئيس الوزراء.
أثارت مجموعة القوانين تلك التي تضع الحكومة فوق القضاء، جدلاً واسعاً بين من يرى أن الحكومة كسلطة "منتخبة"، لا ينبغي أن تنصاع إلى سلطة القضاء "المعيّنة"، ومن يؤمن بأن القضاء هو حائط الصد الأول ضد تغول السلطة التنفيذية، وأن السيطرة عليه تعني ببساطة فقدان السلطة القضائية قدراً كبيراً من استقلاليتها، والتحول من دولة ديمقراطية إلى أخرى شمولية.
سرعان ما انتقل الجدل من صفحات التواصل الاجتماعي إلى الشارع الذي عمّته المظاهرات الرافضة للتعديلات، والتي قوبلت بمظاهرات مضادة من المتديّنين اليهود داعمة لموقف حكومة نتنياهو المتبني لما أسماه "إصلاح القضاء".
وبظهور الجيش في الصورة تعقّد الموقف أكثر، خاصةً حين قرر ضباط الاحتياط الدخول في إضراب اعتراضاً على تلك القوانين، وسرعان ما تصاعد الموقف حتى وصل إلى إقالة وزير الجيش الإسرائيلي يوآف غالانت، بعد انحيازه إلى المعارضة ودعوته إلى تجميد مشروع القانون.
ما تشهده إسرائيل اليوم، هو صراع هوية، لم تخلقه أزمة القوانين الأخيرة، وإنما دفعته إلى السطح فقط.
إسرائيل وأزمة الهوية
ظاهرياً، نحن أمام رئيس وزراء يواجه اتهامات بالفساد تتعلق بتلقّي رشاوى واحتيال وخيانة أمانة، وقد حاصرته التكهنات بأن المدعي العام يتأهب لعزله من منصبه، استناداً إلى مبدأ تضارب المصالح بين صلاحياته كرئيس حكومة ووضعه القانوني كمتهم بقضايا فساد.
ولذلك لجأ إلى المطالبة بإصلاح القضاء ودفع الإصلاحات إلى الأمام مع الانحراف بها بما يؤمّن منصبه، ويعتقه من سيف المدعي العام المسلّط على رقبته.
لكن في عمق الصورة، القصة أكبر من نتنياهو واتهاماته، فنحن إزاء صراع هوية لم تخلقه أزمة القوانين الأخيرة، وإنما فقط دفعته إلى السطح.
إسرائيل: النشأة والمسارات
حين قيام دولة إسرائيل في 1948، كان السؤال الأبرز الذي يشغل عقل مؤسسي تلك الدولة الحديثة هو "هويتها"، وأي مسار ستتخذ، وأي انحياز سيحكمها، وبطبيعة الحال انقسم الوافدون الجدد إلى ثلاثة تيارات تتباين أيديولوجياً وإن اتفقت وطنياً.
التيار الأول
انحاز إلى اليسار، وتكون من تحالف أحزاب وحركات يسارية عدة انضوت تحت لواء ما عُرف حينها بـ"حزب عمال أرض إسرائيل" بقيادة بن غوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل)، والذي مرّ بانقسامات، وتحالفات عدة عبر الزمان، حتى وصل إلى الصيغة الحالية: "حزب العمل".
التيار الثاني
اعتنق الأفكار اليمينية والقومية، وتزعمه حينها حزب "حيروت"، الذي اندمج لاحقاً مع "الحزب الليبرالي"، ليكوّنا تكتل "الليكود" الذي ظل في المركز الثاني حتى عام 1977، حين فاز مناحم بيغين على شمعون بيريز في الانتخابات محققاً أول نصر لليكود. ومن بعدها اعتلى اليمين القمة طويلاً.
التيار الثالث
وهو المتمثل في الجماعات والأحزاب الدينية المتشددة، والتي انقسمت إلى أحزاب وشيع عدة، ظلت في ذيل القائمة الانتخابية دوماً، وارتبطت نجاحاتها بالتحالفات الانتخابية التي يتم تشكيلها بين الحين والآخر.
الخلاف الحقيقي بين التيارات الثلاث، لم يكن فقط على الرؤية الاقتصادية والاجتماعية وتباينها بين اليسار واليمين، وإنما كان في فلسفة الحكم ورؤية كل منهم لشكل الدولة وهويتها. وهو التباين الذي نشهد آثاره اليوم في تظاهرات تل أبيب.
فبرغم أن الكتلتين الأكبر اتفقتا "نظرياً" منذ التأسيس على أن الدولة اليهودية ستكون علمانيةً لا دينية، يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، إلا أن تصوراتهم عن ماهية تلك الدولة تباينت تماماً، بين "يمين قومي" يناصب الفلسطينيين العداء، ويتبنى فكرة إسرائيل الكبرى، و"يسار عمالي" يدعم نسبياً فكرة التجاور السلمي مع الفلسطينيين، والأرض مقابل السلام.
وبقي التيار الديني مهموماً بالنشاط الديني والاجتماعي للمتدينين، مع تبنّي مواقف شديدة التطرف حيال قضايا السلام والتعايش مع الفلسطينيين.
لماذا تغيّر الواقع الانتخابي في إسرائيل، وبدأت الصناديق تميل أكثر صوب الأحزاب الدينية المتشددة؟
تغيّر المشهد الانتخابي الإسرائيلي
لعقود عدة بقيت الأمور ثابتةً داخل دوائر الحكم الثلاث، وظل التنافس بينها قيد المعقول. لكن في السنوات الأخيرة تغير الواقع الانتخابي في إسرائيل، وبدأت الصناديق تميل صوب الأحزاب اليمينية الدينية المتشددة أكثر فأكثر.
يعزو البعض ذلك التحول في الميزان الانتخابي إلى تزايد أعداد المهاجرين القادمين من الاتحاد السوفياتي بما حملوه معهم من أفكار شديدة التطرف ناجمة عن القمع الشيوعي الذي عاشوه.
لكن أياً كان سبب التحول، فالثابت أن تلك الأحزاب صارت رقماً مهماً في تكوين الائتلافات الحاكمة، بعد أن أصبحت تتحكم في بعض الأحيان في ثُلث الكنيست. وهكذا أصبحوا شركاء نتنياهو في الحكم بعد أن كوّن منهم الرجل ائتلافه الحاكم.
خطوة نحو الحكم الديني
تغيّر التركيبة السياسة الإسرائيلية وميل المزاج الانتخابي أكثر محو التحول إلى دولة دينية، هو الخطر الحقيقي الذي قوبل بالرفض القاطع والدفاع المستميت من أنصار مدنية الدولة وحرية مواطنيها. وهذا بالضبط هو ما نشهده اليوم. فنحن أمام رئيس حكومة تلاقت مصالحه الشخصية مع توجهات شركائه الدينية ليتفق الطرفان على إخضاع القضاء والسيطرة عليه، وإن تباينت الدوافع.
ففي حين يرى نتنياهو ذلك القانون فرصةً للابتعاد عن قبضة المدعي العام، يرى المتشددون أن السيطرة على القضاء والتخلص من العلمانيين فيه، خطوة مهمة في مسارهم صوب الانفراد بالحكم وتطبيق أجندتهم العقائدية و"تديين" البلاد والمؤسسات.
ولهذا حدث الانفجار، ليس رفضاً لنتنياهو وقضاياه، بقدر ما هو خوف من سيطرة المتشددين على البلاد وتغيير هويتها.
كيف توترت العلاقة بين تل أبيب وواشنطن
لعقود طويلة ظلت الولايات المتحدة هي الحليف والداعم الأول لإسرائيل، تتغير الحكومات ويتبدل الرؤساء، وتظل العلاقة دافئةً بين البلدين.
لكن في الآونة الأخيرة حدثت تغيّرات دراماتيكية في تلك العلاقة، بحيث (وربما لأول مرة) هاجم الرئيس الأمريكي حكومة تل أبيب، وذلك حين صرّح بايدن قائلاً: إن الحكومة الإسرائيلية لا يمكنها مواصلة هذا المسار، وأعتقد أنني عبّرت عن رأيي بوضوح".
ردّ عليه نتنياهو بأن بلاده دولة مستقلة لا تخضع للإملاءات، فيما كان وزير ثقافته عميحاي شيكلي، أكثر حدةً إذ اتهم إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بتأجيج الاحتجاجات التي وصفها بالفوضى.
التوتر الحادث الآن بين الحليفين الإستراتيجيين، لم يكن وليد اللحظة، وإنما هو نتاج محطات عدة من التباعد بينهما، بدأت مع تصدّي إسرائيل لبايدن في مقتبل حكمه معلنةً أنها ترفض مساعيه لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، ومهددةً إياه صراحةً بأنها ستتصرف بمفردها لكبح نفوذ إيران المتنامي في الشرق الأوسط.
ثم أتت الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد الجفاء بينهما، إذ تلكأت إسرائيل في إمداد أوكرانيا بالسلاح، كما رفضت استقبال اللاجئين الأوكرانيين، مفضلةً أن تقف في المنتصف بين الغرب وموسكو، فضلاً عن سعيها إلى توطيد العلاقات مع الصين، خصم الولايات المتحدة الجديد، لتتعقد الأمور أكثر بين البلدين.
لذا يرى البعض أن موقف إدارة بايدن من المظاهرات التي تعمّ إسرائيل لم يأتِ انحيازاً إلى الديمقراطية بقدر ما كان نوعاً من العقاب لإدارة نتنياهو.
كيف ستؤثر الاضطرابات التي تشهدها إسرائيل اليوم على بلدان العالم العربي؟
تداعيات الاحتجاجات على المنطقة العربية
انعكس الموقف الرسمي للعواصم العربية، على إعلامها الذي اكتفى بالرصد "المحايد" قدر الإمكان وتجنّب اتخاذ مواقف منحازة، حتى يرى كيف تسير الرياح، وهو ما ظهر جلياً في تغطية القناتين الأبرز في العالم العربي، "الجزيرة" القطرية و"العربية" السعودية، اللتين كان منهجهما في التغطية نقل الصورة بروح المحايد، عكس موقفهم مثلاً من الربيع العربي أو إضرابات إيران، التي بدا جلياً انحيازهم فيها إلى جانب على حساب آخر.
وعلى عكس الموقف "الإعلامي" العربي المتحفظ، كانت صفحات التواصل الاجتماعي -بطبيعة الحال- أكثر انفتاحاً وجرأةً في التعبير عن انحيازات المغرّدين، والتي طغى عليها شعور عام بالارتياح الأقرب إلى الشماتة، مما يحدث في إسرائيل، وهو ما يشي بأن المزاج العام في الشارع العربي، برغم الخطوات الرسمية المتسارعة صوب التطبيع، ما زال يناصب إسرائيل العداء، ولو بهدوء وصمت.
لكن على صعيد آخر، الموقف العربي "الرسمي" المتحفظ لا يعني أبداً عدم اكتراث العواصم الفاعلة بما يحدث في شوارع إسرائيل، وهي تدرك جيداً أن انفجار الوضع في تل أبيب سوف تتناثر شظاياه لتطال الإقليم بأسره. ويدلل البعض على ذلك بالتقارب السعودي-الإيراني الذين يرون أنه جاء نتيجةً لما يحدث في إسرائيل، ويتزامن مع جفاء واضح بين واشنطن والرياض لأسباب عدة. وهو ما جعل المملكة وحلفاءها يدركون أن الرهان على الحماية الأمريكية المطلقة، والتقارب مع إسرائيل، لن يجديا نفعاً في مواجهة الهلال الشيعي، وأن احتواء إيران أفضل من الصدام معها، خصوصاً بعد استهداف منشآت حيوية في الرياض وجدة على يد جماعة الحوثي المدعومة من إيران، وسط تجاهل واضح من الولايات المتحدة لما يحدث، وهو ما دفع الرياض للرد بقوة في الحرب الأوكرانية، حين رفضت طلب بايدن، الذي حمله شخصياً إلى الرياض مناشداً إياها بزيادة ضخ النفط السعودي لتعويض النقص الروسي.
يواجه الإسرائيليون اليوم سؤال المستقبل والهوية الصعب، السؤال الذي ستحدد إجابته مسارات شتى قد يسير فيها اللاعبون الأهم في الإقليم.
فماذا ستجلب لهم الأقدار في الأيام المقبلة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 5 ساعاتHi
Apple User -
منذ 5 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا