زرت تركيا أخيراً زيارة خاطفة بعد سنوات من الغياب، وكان انطباعي مختلفاً تماماً عن الزيارات السابقة، فقد وجدتها هذه المرة وقد أرهق ناسها الوضع الاقتصادي المتأزم، وارتفع سعر كل شيء فيها، وأصبح الضغط الذي يعيشه الجميع حاضراً وملموساً في كل التفاصيل، وخف حضور السوريين الذين كان المرء يلقاهم أينما التفت. تسيّر الانتخابات المرتقبة إيقاع الحياة في البلاد وينتظر الجميع انقضاءها لمعرفة ما سيكون شكل مستقبلهم القريب.
اختلف وضع السوريين الذين كانوا يؤكدون أن تركيا أفضل مستقر للسوريين، فهم على قلق دائم، يبحث معظمهم عن بدائل وطرق للرحيل، ويشعرون جميعاً أنهم غير مرغوب بهم، ويحاولون بشتى الطرق تفادي الاحتكاك بالآخرين خوفاً من التعرض لموقف مزعج مع تصاعد العنصرية ضدهم، ويتناقلون قصص الترحيل والمواقف العنيفة التي تنتقل من شخص إلى آخر همساً.
اختلف وضع السوريين الذين كانوا يؤكدون أن تركيا أفضل مستقر للسوريين، فهم على قلق دائم، يبحث معظمهم عن بدائل وطرق للرحيل
تتفاوت درجة القلق بين السوريين الذين قابلتهم، ولكن العنصر الذي يجمع شهاداتهم هو أن الاختلاف بالرأي العام واضح وملموس. وفيما يؤكد البعض أن الحوادث العنصرية محصورة ويعاقب عليها القانون، يحذر البعض الآخر من انتشارها الواسع حتى أن صديقاً نصحني بعدم تحدث العربية في الشارع، والانتباه إلى عدم التصريح بجنسيتي الأم لأي كان.
دفعني الفضول إلى محاولة استكشاف الواقع بعيون السوريين الذين قابلتهم، لكنهم لم يرغبوا بالحديث تفصيلاً. كان الاستنتاج الأول الذي يمكن أن يصل إليه المراقب هو أن القلق الأساسي الذي يجتاح الجميع هو قلق إداري، متعلق بموضوع الإقامات والأوراق.
يلتقي السوريون فيتحدثون عن كيفية إدارة أعمالهم الإدارية وتجديد إقاماتهم والحصول على تصاريح عمل، ويكاد الحديث الذي يجمع الجميع أن يكون موضوع الحصول على الجنسية التركية، الذي لا يبدو أن له قانوناً واضحاً، إذ لا يمكن للسوري أن يتقدم بطلب للحصول على الجنسية إلا في حالات نادرة، فيما تختار الحكومة الأشخاص الذين يتم التواصل معهم للحصول على حق الجنسية، يتداول الجميع أخبار الحاصلين الجدد على الجنسية، ويحاولون استنتاج الأسباب المؤدية للقرار، ويأملون أن يكونوا على نفس القائمة التي لا يعلمون كيف تم اختيارها.
يلتقي السوريون فيتحدثون عن كيفية إدارة أعمالهم الإدارية وتجديد إقاماتهم والحصول على تصاريح عمل، ويجمعهم موضوع الحصول على الجنسية التركية.
في ظل كل هذا التوتر والقلق، قابلت صديقين متزوجين عادا مؤخراً من أوروبا بعد الحصول على جنسية دولة أجنبية للاستقرار في تركيا، بدا لي خيارهما غريباً في إطار الصورة العامة، فقابلتهما في سبيل فهم خيارهما أكثر، فشرحا لي رغبتهما بالعودة، وبما أن العودة إلى سوريا غير متاحة فإن أقرب "عودة" ممكنة كانت بالنسبة لهما تركيا للهرب من بلاد الشمال الباردة.
نسير معاً على شاطئ البوسفور ونتحدث، تنظر صديقتي إلى البحر المتلاطم الأمواج، تبتسم وتقول: "كنت قد عاهدت نفسي بعد رحلة البحر للوصول إلى أوروبا، ألا أركب البحر مجدداً، ولكنني اليوم أسكن في القسم الآسيوي من اسطنبول وأدرس في القسم الأوروبي، وأراني مضطرة لركوب البحر يومياً كي أغادر آسيا وأصل إلى أوروبا، يا لسخرية القدر!". تضحك صديقتي وتسرح عيناها في البحر غير الممتد أمامنا.
رغم قصر المسافة، تبدو رحلتها اليومية شهادة حية على شجاعة منقطعة النظير، ولكنها لا تفكر بذلك، إنها تفكر بأنها عادت كي تبقى على صلة، كي تزور النساء في المخيمات وتسمع قصصهن، وتخبرني أنها لا تعتبر معاناتها ذات بال بالمقارنة بتلك القصص.
أفكر بهذه الفكرة القاسية التي تحكم حياتنا منذ سنوات، معاناتنا صغيرة لأنها بالمقارنة مع الآخرين غير مهمة، ولكنها في الواقع تفوق احتمال أي شخص عادي.
خلال سنوات دراستي في الجامعة، كان يحدث أن أروي جانباً من معاناتي في المنفى، التي أؤكد في كل مرة أنها معاناة لا تستحق أن تذكر وأبتسم، فأجد زملائي في الجامعة وهم ينظرون إلي بعيون استدارت من الدهشة أو تهدلت من الحزن أو حتى الشفقة، وكان أكثر ما يفاجئني أن ينفجر أحد زملائي في البكاء معتذراً عن قسوة ما أعيشه، فأرتبك وأكرر العبارة التي حفظناها دون أن نفكر بها: "لا تحزن، فقصتي لا تقارن بما مر به الآخرون."
لا يرى السوريون مستقبلاً لحياتهم التي بنوها على مر سنوات عشر في تركيا. ولا يعرفون إن كان وطنهم الثاني سيلفظهم بقسوة كما لفظهم وطنهم الأم
عدت من تركيا مثقلة القلب، قلقة، أشعر بالمسؤولية تجاه رفاق خائفين وحيدين، لا يعرفون مصيرهم يوم غد، لا يرون مستقبلاً لحياتهم التي بنوها على مر سنوات عشر، لا يعرفون إن كانت بيوتهم التي أعادوا تأثيثها من الصفر ستبقى أم سيخلفونها وراءهم كبيوتهم الأولى. ولا يعرفون إن كان وطنهم الثاني سيلفظهم بقسوة كما لفظهم وطنهم الأم.
أجمع كل من قابلته على حب عميق لتركيا، وأكدوا أنهم لا يرغبون بالمغادرة لو أن الظروف تسمح ببقائهم، تكررت جملة أعادها على مسامعي من قابلتهم أن "تركيا جنة".
أجمع كل من قابلته على حب عميق لتركيا، وأكدوا أنهم لا يرغبون بالمغادرة لو أن الظروف تسمح ببقائهم، تكررت جملة أعادها على مسامعي من قابلتهم أن "تركيا جنة"، وأنهم يجدونها وطناً جميلاً.
أفكر، هل ثمة قدر ما يقود السوريين إلى ما هم فيه؟ يحبون أوطاناً فتطردهم أم أنه قدر الثائرين؟ يبدو وكأن العالم لا يرغب بهؤلاء الذين انتفضوا لكرامتهم، وكأنهم إشكال يثقل كاهله، يحار كيف يتعامل معهم، فيصبح وجودهم في كل مكان مسألة تحتاج التدقيق، يغرقون في الأعمال الإدارية ويشعرون بأنهم يثقلون كاهل البلاد التي يعيشون فيها. أفكر بالعدالة، وبماهيتها، يبدو لي العالم ظالماً وقليل الرأفة، ولكن ابتسامة الأصدقاء تطمئنني، يروون معاناتهم، ثم يسألون: "أي أكلة سورية يشتهي قلبك؟ ما الذي ترغبين برؤيته من تركيا؟ هل نحضر لك حلوى من محل كان موجوداً في مشق أم في حلب؟". تمتد الموائد الكريمة أمامي، أتناول أطايب الطعام وأحاول ألا أغص باللقمة في حلقي الجاف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...