شهدت محافظة صفاقس، ثاني أكبر المحافظات التونسية، مواجهات عنيفةً بين مهاجرين غير نظاميين قادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، وأهالي المدينة بعد مقتل أحد أبنائها على يد بعض المهاجرين.
على مدار أربعة أيام، سادت حالة من الفوضى والتوترات بعد أن شنّت بعض المجموعات "المنفلتة" من السكان، حملة عنف واسعةً ضد المهاجرين في المدينة، بهدف طردهم منها.
توترات كبيرة كشفت بوضوح فشل الدولة التونسية في التعاطي مع ملف الهجرة منذ البداية، واكتفاءها بمتابعة انفلات الوضع تدريجياً وعدم اكتراثها للتحذيرات التي أطلقها أبناء محافظة صفاقس في أكثر من مناسبة ومفادها أن الوضع يتجه نحو الانفجار.
عدالة "الشارع"
منذ بداية السنة، بدأت تظهر حالة من الاحتقان داخل المدينة الساحلية بسبب تدفق المهاجرين بأعداد كبيرة، ونفذ الأهالي وقفات احتجاجية عدة طالبوا فيها الدولة بإخراج المهاجرين من مدينتهم وإيجاد حل لهم وفق الأسس القانونية والدولية.
وظل هذا الاحتقان يتزايد تدريجياً إلى أن أقدمت مجموعة من المهاجرين من دول جنوب الصحراء على قتل مواطن يُدعى نزار العمري، في منطقة "ساقية الداير" في مطلع شهر تموز/ يوليو الجاري، على خلفية مناوشات بين الطرفين.
شكلت هذه الحادثة نقطة تحول جذري في تعامل سكان المدينة مع المهاجرين. فعلى إثر حادثة القتل قامت بعض المجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، بإطلاق دعوات لأهالي المدينة ليقوموا في تلك الليلة بطرد المهاجرين. وسرعان ما انتقل الخطاب إلى أرض الواقع حيث تجمع العشرات في أحياء عدة من المدينة في الشوارع، طوال الليل، مطالبين بمغادرة جميع المهاجرين غير النظاميين فوراً. فيما قامت مجموعات من المواطنين المسلحين بالهراوات باقتحام منازل المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، وقاموا بطردهم بوحشية كبيرة بعد أن اعتدوا عليهم بالعنف الشديد الذي تسبب في كسور وإصابات في صفوف الرجال والنساء، وأحرقوا عدداً من منازلهم التي يقطنونها دون عقود إيجار وأمتعتهم، وسرقوا أموالهم وهواتفهم، وهناك من قام باحتجازهم بالقوة كما تؤكد ذلك شهادات بعض الأهالي الرافضين لهذا الأسلوب "الهمجي" مع المهاجرين.
على مدار أربعة أيام، سادت حالة من الفوضى والتوترات في صفاقس بعد أن شنّت بعض المجموعات "المنفلتة" من السكان، حملة عنف واسعةً ضد المهاجرين
مع تفاقم الوضع في الأحياء التي يسكنها المهاجرون، تدخلت قوات الأمن التي قامت في البداية بإخراج المهاجرين من هذه الأحياء بهدف إبعادهم عن خطر الأهالي. لكن هذا التدخل لم يكن موفّقاً، فبعد خروجهم وجد المهاجرون أنفسهم على قارعة الطريق بلا مأوى أو أكل وشرب وبلا أموال وسط المدينة، وبعضهم نُقلوا إلى المناطق الحدودية مع ليبيا كما أوضح ذلك المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهناك من ركبوا القطارات والحافلات وانطلقوا في اتجاه محافظات أخرى بحثاً عن الأمن.
يقول سمير، أحد سكان صفاقس: "لقد أظهرت بعض المجموعات المنفلتة وجهاً قبيحاً جداً لدى تعاملها بوحشية كبيرة مع المهاجرين. عندما أمرّ بوسط المدينة وتحديداً بالقرب من مسجد اللخمي، وأراهم أطفالاً ونساءً ورجالاً في هذا الحر الشديد يبيتون في الشارع بلا أكل وشرب أشعر بالخجل. وبرغم محاولاتنا تقديم بعض الأكل والمياه، إلا أنها تبقى غير كافية. رأيت بعضهم يأكلون خبزاً يابساً، لقد كان بادياً عليهم الجوع والخوف والإرهاق الشديد بسبب هذا الحر الكبير. على الدولة أن تتدخل بشكل عاجل وتوفر على الأقل فضاءً يحتمون فيه إلى حين تسوية وضعيتهم بطرق قانونية".
لقد أظهرت بعض المجموعات المنفلتة وجهاً قبيحاً جداً لدى تعاملها بوحشية كبيرة مع المهاجرين
أثار وضع المهاجرين انتقادات المنظمات الحقوقية التونسية والدولية على غرار منظمة هيومن رايتس ووتش، التي طالبت السلطات التونسية بإنهاء عمليات الطرد الجماعي للمهاجرين الأفارقة ونقلهم إلى منطقة صحراوية نائية بالقرب من الحدود الليبية. وقالت المنظمة: "ليس فقط من غير المعقول الإساءة إلى الناس والتخلي عنهم في الصحراء، ولكن الطرد الجماعي ينتهك القانون الدولي".
الدولة تتحمل المسؤولية كاملةً
ترى المنظمات الحقوقية أن الدولة التونسية تتحمل حصراً المسؤولية كاملة عن السيناريوهات المروعة الحاصلة اليوم بسبب سوء إدارتها لأزمة الهجرة غير النظامية منذ البداية، وبسبب عدم اكتراثها لنداءات أهالي صفاقس المتتالية والمطالبة بالالتفات جدياً إلى ملف المهاجرين غير الشرعيين في مدينتهم قبل أن تنفلت الأمور.
فمنذ أكثر من سنة، بدأت المدينة تشهد تدفق الآلاف من المهاجرين إليها. تزايدت أعدادهم في كل مرة دون اعتراض من السلطة بل تم الأمر تحت إشرافها، حتى أن رؤية أعداد كبيرة من المهاجرين القادمين من كل المدن، سواء سيراً على الأقدام أو عبر وسائل النقل المختلفة باتجاه مدينة صفاقس، باتت أمراً مألوفاً لدى عموم التونسيين. واللافت أن الوحدات الأمنية التي تعترض سبيل المواطنين التونسيين في كل رحلاتهم بين المدن، لتفقّد هوياتهم والتثبت منها، لا تعترض طريق المهاجرين أبداً، وكأن هناك اتفاقاً مسبقاً لتكون وجهتهم مدينة صفاقس، بل إن خفر السواحل يسهّلون دخولهم المدينة حسب ما أكد لنا فتحي، وهو صياد من محافظة صفاقس.
الدولة التونسية تتحمل حصراً المسؤولية عن السيناريوهات المروعة الحاصلة اليوم في صفاقس بسبب سوء إدارتها لأزمة الهجرة
يقول الرجل الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه كاملاً، لرصيف22: "بمجرد قدومنا إلى مراكبنا صباحاً، نعاين يومياً مرور مجموعات كبيرة من مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء بكل أريحية وبلا أي رقابة ولا تدخل يُذكر من السلطات، باتجاه وسط المدينة أو إلى الأحياء التي تتمركز فيها غالبية المهاجرين بعد أن أخرجهم خفر السواحل من عرض البحر. ويومياً نتساءل: لماذا تتساهل الدولة إلى هذا الحد مع ملف الهجرة غير 'الشرعية'، إلى درجة أن خفر السواحل ينقلون المهاجرين من عرض البحر إلى الميناء، ويطلقون سراحهم وكأنهم يقلّون جماهير لحضور حدث رياضي؟ ولماذا تنقل سيارات الأجرة والحافلات المهاجرين من بقية المدن إلى مدينة صفاقس أمام أنظار وحدات الأمن والشرطة المرورية دون أي مشكلات؟ لماذا هذا الاتفاق على جعل صفاقس وجهة المهاجرين؟ ثم لا نصل إلى إجابة بينما نتأكد يومياً من أن الوضع يمضي نحو الانفجار والدولة تتحمل مسؤولية ذلك".
ومع تتالي عبور المهاجرين إلى الحدود التونسية، وتحديداً إلى مدينة صفاقس، بدأ الأهالي يضجرون من هذا الوضع الجديد لا سيما أن هؤلاء باتوا يسيطرون على بعض الساحات وسط المدينة، وقاموا بتحويلها إلى فضاءات لممارسة أنشطة مختلفة على قارعة الطريق كالحلاقة وغيرها، عدا أن هناك العديد من الأحياء التي أصبحوا يشكلون أغلبيةً فيها. زِد على ذلك الوضع الاقتصادي الصعب الذي جعل الأهالي ينظرون إلى المهاجرين كمنافسين لهم سواء في سوق العمل أو في المواد الأساسية التي تشهد نقصاً كبيراً في تونس منذ أشهر.
وفي كل مرة كان أهالي مدينة صفاقس ينظّمون وقفات احتجاجيةً للمطالبة بإيجاد حلول لوضع المهاجرين غير النظاميين، لكن دون مجيب. وفي الأشهر الأخيرة بدأت تظهر بعض الشكاوى من الخلافات الدامية بين المهاجرين أنفسهم، والتي بثت الرعب في بعض الأحياء التي تشهد تواجداً كبيراً لهم، وبرغم تتالي التحذيرات من طرف السكان لم تبالِ السلطات وتركت الأهالي يواجهون الأمر بمفردهم.
عنف في أوساط مهاجري صفاقس
تروي فادية، وهي من سكان طريق المهدية صفاقس، لرصيف22، تفاصيل حادثة مروعة عاشت وجيرانها على وقعها قبل أشهر قليلة.
وتقول: "كنت بصدد تنظيف منزلي، لهذا تركت الباب الخارجي مفتوحاً، وفجأةً سمعت صوت عراك وصراخ، فذهبت باتجاه الباب لأفهم ماذا يجري في الخارج، وبمجرد أن وطئت قدماي عتبة الباب حتى وجدت شاباً من مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء ملطخاً بالدماء على مستوى صدره يتجه مباشرةً إلى منزلي هرباً من مجموعة أخرى من المهاجرين كانت تلاحقه بسكاكين كبيرة الحجم. أرعبني ما رأيت ولا أدري كيف أغلقت الباب في وجهه بسرعة جنونية. لم يكن في وسعي السماح له بالدخول في تلك الحال وأطفالي في الداخل، وخشيت أكثر من المجموعة المسلحة التي تلاحقه".
بسبب وضعها الهشّ تدخل مجموعات المهاجرين في نزاعات دموية فيما بينها قد تصل إلى حالات قتل
بمجرد أن أغلقت فادية الباب أمامه، اتجه إلى المنزل المجاور ودخله في محاولة للنجاة من مطارديه، لكن ما حدث أن هذه المجموعة اقتحمت المنزل وقامت بطعنه طعنات عدة، ثم غادرت بعد أن تركته غارقاً في دمائه، وفق روايتها.
تضيف فادية: "بعد رحيل المجموعة قررت التوجه إلى بيت جاري لأطمئن عليهم لأنني سمعت صراخاً كثيراً فهالني أن أرى ذلك الشاب ملقى على الأرض داخل منزل جاري ملطخاً بالدماء. كاد يُغمى عليّ من هول ما رأيت، جيراني كانوا في حالة صدمة وهلع لا توصف حتى اليوم. وبعد اتصالات متكررة قدمت الشرطة والحماية المدنية وتم نقل الشاب الذي فارق الحياة بسبب الطعنات الكثيرة التي تلقاها".
أصيب أهل الحي برعب كبير بعد هذه الحادثة، وأصبحوا شديدي الحذر لا سيما في ظل غياب قوات الأمن برغم علمها بتكرر حوادث العنف بين المهاجرين، خاصةً في الآونة الأخيرة.
وتتالت أحداث العنف بين بعض المهاجرين باستعمال الأسلحة البيضاء التي وثّقها بعض ناشطي المدينة، مثيرةً مخاوف كبيرة في صفوف الأهالي، وسط غياب تام للسلطات، ما أدى إلى استياء أهل المدينة الذين قرروا أن يقوموا بأنفسهم بدور الشرطة. وأدى هذا القرار إلى حدوث مناوشات بينهم وبين المهاجرين، انتهت بمقتل المواطن الأربعيني. وهنا تفاقم غضب أبناء صفاقس الذين باتوا يعتقدون جازمين بأن الدولة تركتهم يواجهون مصيرهم بمفردهم بعد أن أغرقتهم، وفق وجهة نظرهم، بآلاف المهاجرين غير النظاميين، ورأوا أن عليهم أن يتولوا مهمة حماية أنفسهم بأنفسهم.
المهاجرون فئة هشة تدفع اليوم ثمناً باهظاً لسياسات عقيمة في معالجة الهجرة في منطقة البحر المتوسط
وفعلاً أقدمت بعض المجموعات على تنفيذ وعيدها بأشكال مروعة فيها الكثير من العنصرية والكراهية التي رفضها عموم أبناء المدينة.
والأكيد أن هذه السيناريوهات كانت منتظرةً، فعندما تختار الدولة أن تلعب دور المتابع للأحداث من بعيد وتتخلف عن القيام بأدوارها المنوطة بعهدتها، حينها تأخذ المجموعات المنفلتة بزمام الأمور فتكون النتائج كارثيةً وهذا ما قامت به السلطات في تونس، لهذا هي تتحمل المسؤولية كاملةً عما حدث.
يقول عضو رابطة حقوق الإنسان في صفاقس، حمّة حمادي، لرصيف22: "إن ما حصل في صفاقس من انتهاكات مروعة ضد المهاجرين هو نتاج مشكلات متراكمة لم تنجح السلطات في حلها، ما أدى إلى انفجار الوضع كما كان متوقعاً. المهاجرون فئة هشة تدفع اليوم ثمناً باهظاً لسياسات عقيمة في معالجة الهجرة في منطقة البحر المتوسط عموماً".
بدورها تتحمل الدول الأوروبية نصيباً كبيراً من المسؤولية عما يجري مع المهاجرين في تونس، بسبب سعيها إلى جعل دول شمال إفريقيا، خاصةً الدول المغاربية، مقراً لاستقرار المهاجرين ومنع وصولهم إلى حدودها.
في هذا الصدد، تتعرض تونس لضغوط كبيرة من شركائها الأوروبيين الذين يسعون إلى استغلال أزمتها المالية من أجل أن تقبل بدور حارس حدودها، خصوصاً من أجل إبقاء المهاجرين على أراضيها إما لتوطينهم أو لإعادتهم إلى بلدانهم، مقابل تقديم مبالغ مالية لإنعاش اقتصادها المنهك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين