إن المطّلع على جملة ما كتِب حول غسان كنفاني وأعماله؛ يدرك إجماع الكل على حضور هذه الفكرة الجدلية حول الوطن والمنفى، وهذان النقيضان يجمعهما فكرة واحدة هي فكرة العودة التي تمثّل جوهر قضية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتجسّد في معناها حالة الانتقال بين طرفي النقيض -الوطن والمنفى- بما تحمله من كوامن عاطفية ومضامين سياسية وتجليات ثقافية اجتماعية.
قدّم غسان كنفاني فكرة العودة بسياقات متعدّدة تؤكد على اتساع جوهر المفهوم ومرونته.
في روايته "عائد إلى حيفا" يقدّم غسان ملحمة فكرية تستدعي الدهشة وتأخذ القارئ إلى ثقب أسود يبتلعه ويتركه متورطاً في إشكالية زمنية، تتسلل إلى الماضي وتسائل الحاضر وتتبع هواجس المستقبل، وهو ما عبّر عنه الكاتب الفلسطيني عبد الرحمن بسيسو في مقاله "صراع نقائض وجودية وتحولات أزمنة وأنساق"، المنشور في مجلة الهدف في آب/ أغسطس 2022، قائلاً: " بَدتْ هذه المدينَة محكومةً بزمنين يفصلهما زمن ثالثٌ ذاهبٌ إلى نفي وجودِهِمَا واجتثاث ما أنتجاه من مآس: زمن الاقتلاع؛ زمن ارتِسَام صورة الوطَنِ الأخيرة؛ وزمن الاحتلالْ".
إن فكرة العودة في جوهرها هي ذات بعد زمني بالدرجة الأولى؛ فهي تجسّد مروراً زمنياً خطياً إلى الوراء، وتجسّد أيضاً غوصاً في الذاكرة ومضامينها من ناحية، واستفزازاً متوارياً للذات وكينونتها من ناحية أخرى. لاحقاً؛ قد يحفّز ذلك سؤال الأنا ويسمح بالولوج إلى سجالات تتعلق بالهوية وجذورها.
أن يطرح غسان هذه الفكرة في هذا السياق الأدبي القوي هو بمثابة تفعيل لتأثير هذه الفكرة في وعي القارئ، وتحديداً القارئ الفلسطيني، الذي هو في انتظار دائم للعودة على اختلاف ماهيتها حتى بعد أن يواري جسده التراب، إذ يستمر النضال لأجل حق عودة الجسد ذي الروح المغيّبة عنه إلى أرضه، حيث مثواه الأبدي.
مات الكثير من الأجداد في انتظار العودة، معذّبين بين ذاكرة مرابطة وروح هائمة وجسد يحتضر غريباً، يطلبون أن تحمل نعوشهم وتعود. تلوح هنا حتى الروحانيات وما يصاحبها من أفكار عقائدية؛ فالحساب مع الخالق لا بد وأن يغلق على أرض واحدة هي أرض العودة.
هل حقاً سنعود يوماً؟ إنه السؤال المرهق، كشوكة في الحلق لا يزفرها أي جواب؛ بل يتتابع مع اختناقات لا تنتهي من الأسئلة المتتالية التي تسلسلها الذاكرة وشذراتها. العودة إلى أين؟
ما دغدغ أقلامنا في هذا العمل هو التجربة الشخصية وهذا الاغتراب الذي نعيش. في كل مرحلة كان هناك حلم عودة في الانتظار؛ بدأت بقصة يرويها الجد عن بلاد لا نعرفها؛ قصة كتبت على جدران أزقة المخيم الذي عاصرناه لعقود من الزمن، عشنا فيه لاجئين نحمل مفتاح بيت الجد وكرت لاجئ أزرق، وقصّة من فصل آخر بدأ بحال الاغتراب الجديد الذي أفرزه الحصار وضنك العيش وظرف الحياة في غزة؛ لتصبح العودة هي حلم الرجوع للمخيم... كم عودة تراكمت للآن يا الله ولا نعود؟
هل حقاً سنعود يوماً؟ إنه السؤال المرهق، كشوكة في الحلق لا يزفرها أي جواب؛ بل يتتابع مع اختناقات لا تنتهي من الأسئلة المتتالية التي تسلسلها الذاكرة وشذراتها. العودة إلى أين؟ غزة ومخيمات اللجوء التي احتضنت أجدادي المهجّرين، أم بلدتي الأصلية التي تركها أجدادي مجبرين؟
تساؤلات مرعبة تثير الريبة حول إشكالية الهوية: من أنا؟ ذلك الفلسطيني العالق في كل سفر وكل مطار وله في كل بلد حكاية... ابن الشتات أو ابن المخيم، أو اللاجئ الذي لا ينفك يعد بطاقات اللجوء في كل بلد؟ من أين نحن ولمن ننتمي وإلى أين سنعود؟
إذا كانت كل هذه الهواجس تدور في مخيلتنا ونحن نتساءل حول العودة إلى غزة المتأصلة في الذاكرة؛ فما شكل الهواجس والسيناريوهات التي ستقتحم مخيلتنا لو فكرنا في العودة إلى بلدتنا الأصلية التي لا ذاكرة ولا ذكرى تعرفها؛ فقط محض سرديات مغبرة من روايات أجدادنا وآبائنا، جُبلت بمفهوم الحق الذي كان دائماً حاضراً في إيماننا؟ وهل في حال كانت العودة خياراً متاحاً، سنبادر إليها؟ هل ستكون العودة كما صوِرت دائماً، حلماً جميلاً أم ستصبح لعنة لا نعرف منها تداوي؟ وهل سيمتنع شعور الاغتراب عن الاقتراب منا حينها أم سيتكالب علينا؟
هنا تتجلّى، إلى حد ما، مظاهر التعرية والترسيب التي طالت هذا المفهوم على مدار أكثر من 70 عاماً بفعل التغيرات السياسية وتبعاتها التي طرأت ومازالت تتناوب على المشهد الفلسطيني، وفي هذا الإطار تطرح رواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني، نفسها كنموذج يناقش معنى العودة، لتسلّط الضوء على مخاض الفكرة، وتقدم سيناريوهات مهمة واقعة في الظل. هذه السيناريوهات تؤكد في نهاية المطاف على أن فكرة العودة في جوهرها مرتبطة بالكثير من القضايا الشائكة التي قد تعيد في لحظة صياغة ما يعنيه "أن نعود". وبالرغم من أن غسان يقدّم فكرة العودة كفكرة مشروطة ومؤقتة، إلا أن ذلك يثير في صلبه الكثير من التساؤلات، ويسمح بالولوج عاطفياً وفكرياً في سيناريوهات جدلية سياسية واجتماعية مهمة.
سنعود وسنحمل على أكتافنا ثقل هذا الحق بكل وزنه، فالعودة كفكرة تجاوزت مادية المكان وأصبحت أكثر تعقيداً وأكثر عمقاً؛ فهي تجسّد اليوم الذاكرة والهوية والقضية.
قدّم غسان فكرة العودة بسياقات متعدّدة تؤكد على اتساع جوهر المفهوم ومرونته؛ فالأم "صفية" ترى في العودة "رجوع الابن" وهي حاجة تغذّيها غريزة الأمومة، أما الزوج "سعيد"، فالعودة بالنسبة له فكرة مذلة ومهينة كونها مشروطة ومؤقتة، وسمح بها الاحتلال ولم تأتِ من خلال التحرير، أما "أبو بدر" الفلسطيني الذي لم يغادر أرضه، فتمثّل العودة بالنسبة له فكرة الخلاص من العيش مع المحتل. من ناحية أخرى، هناك "مريم" اليهودية القادمة من بولونيا، التي تشكل العودة لها هاجساً يستحضر فكرة الذنب الدائم، والذي لا يغادرها لإدراكها تماماً بأنها المعتدي دون وجه حق.
وهنا يلفتنا غسان في روايته إلى حالة مرحلية مهمة تفرزها قضية العودة؛ وهي تلك الهواجس المرتبطة بسيناريو ما بعد العودة. وهي حالة مغيّبة تماماً عن الأذهان في الوقت الحالي، لكن تعيدها إلى المشهد حال الشباب الفلسطيني المغترب الذي أُجبر على مغادرة غزة اليوم بفعل الممارسات السياسية والظروف الاقتصادية الراهنة. وبالرغم من كونه يمتلك خيار العودة إلا أنه يعيش هواجس كثيرة، فحواها؛ كيف ستبدو العودة؟ هل ستعيد العودة كتابة الذاكرة من جديد؟ هل تبدو العودة صائبة؟ هل تنهي العودة حالة الاغتراب أو تعززها؟
وهنا نتدارك للحظة أن فكرة العودة يختلف مضمونها باختلاف الشخص وكينونته المرتبطة بالذاكرة وجذور الهوية، ففكرة العودة يعيشها اليوم ثلاثة أجيال؛ الجد المهجّر الذي يرى في العودة الحلم الذي طال انتظاره، والأب الصامد الذي يتوارث الإيمان بهذا الحقّ، ويحاول التمسّك به والصمود عليه، ويغذّي ذلك قصص السرد وفكرة الحق المتوارث، وأخيراً جيل الأبناء الذين يعيش الاغتراب؛ سواء كمغتربين عن الوطن يعيشون هاجس الفكرة أو غريبين عن فكرة العودة ذاتها التي لا يربطهم بها ذاكرة أو تاريخ.
هذا المضمون الذي تعاد فيه صياغة مفهوم العودة من منظور الجد المهجر، الأب الصامد، الابن المغترب والكيانات السياسية، يعبّر عن نوعية هذه التجربة الإنسانية الفريدة التي أفرزتها القضية الفلسطينية، والتي تعيد بشكل ما صياغة قاموسها الخاص والذي يعيد تعريف الكثير من المفاهيم، كالاغتراب، الحرب، اللجوء، الوطن، الذاكرة وغيرها.
حتى على المستوى السياسي؛ لقد كانت فكرة العودة حاضره دوماً كقضية هامة في الخطاب السياسي، واختلف الأمر باختلاف الأيديولوجيا التي تتبناها الكيانات السياسية وما تتخذ من المواقف، وقد كان الأمر جلياً -على سبيل المثال- في رواية غسان على لسان شخصية "سعيد"، الذي كان يرى بأن الطريق الوحيد الذي تكون فيه العودة فكرة مباركة ومرضية هي بالتحرير؛ ليعكس بذلك مواقف غسان السياسية التي تتبنى الفكر اليساري الراديكالي القائم على العنف الثوري.
علينا أن ندرك أن مسألة العودة ليس حلماً؛ بل قضية سياسية اجتماعية إنسانية وثقافية جوهرية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومشاطرتنا لغسان ليست مصادفة أدبية، بل منطوق الوعي الجمعي الحاضر والذي تفرزه التجربة، وإن كان غسان قد سبقنا إليها
على صعيد آخر؛ هناك المجتمع الدولي الذي يقرّ بحق العودة والتعويض من خلال قرار 194 الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة بعد نكبة 1948، والذي ينصّ على "وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقرّرون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب وفقاً لمبادئ القانون أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة".
أما على المستوى السياسي الفلسطيني؛ فقد رفضت منظمة التحرير، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وإلى جانبها الفصائل السياسية الأخرى كل مشاريع التوطين. وبالنسبة للتيارات الإسلامية فيمكن قراءة توجهاتها من خلال "مؤتمر وعد الآخرة" الذي عقدته حركة حماس في سبتمبر عام 2021 في مدينة غزة، والذي يتناول واقع فلسطين بعد عملية التحرير. حيث تحول المؤتمر المنعقد إلى موضوع ساخر لجموع الشعب الفلسطيني، إذ لم يفصح المؤتمر عن أكثر من محض رؤى مستقبليه هشة، ووعود ذات سياق عاطفي عقائدي، لا تستند إلى أي مرجعيه منطقية، ربما هي نابعة من إيمان ديني، ولكن هذا غير كافٍ على الصعيد العملي، وغير منصف بحق تضحيات الشعب وصموده.
إنه لمن المهم تناول سيناريوهات العودة وكل التساؤلات ذات الصلة بالنقاش؛ هذا من شأنه تعزيز الوعي بهذا الحق وإشكاليات طرحه والنضال لأجله، وهذا العمل الأدبي الذي قدمه غسان أفصح فيه بصوت جهوري عن خلاصة هامة، فحواها أن الإنسان في نهاية الأمر قضية، وأن فلسطين ليست استعادة ذكريات بل صناعة مستقبل.
وعلينا هنا أن ندرك أن مسألة العودة ليس حلماً؛ بل قضية سياسية اجتماعية إنسانية وثقافية جوهرية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومشاطرتنا لغسان ليست مصادفة أدبية، بل منطوق الوعي الجمعي الحاضر والذي تفرزه التجربة، وإن كان غسان قد سبقنا إليها.
سنعود وسنحمل على أكتافنا ثقل هذا الحق بكل وزنه، فالعودة كفكرة تجاوزت مادية المكان وأصبحت أكثر تعقيداً وأكثر عمقاً؛ فهي تجسّد اليوم الذاكرة والهوية والقضية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.