الجميل في هذا العالم الذي نعيش فيه أنه بسيط وواضح، وبصفته عالماً بسيطاً، فهو يتمرّد بطبيعته على محاولات التأصيل وخلق الثبات، وإرساء قواعد المثالية والصواب والخطأ، فهو منساب بخفّة، ولا يتوقف عن كونه مدهشاً، حتى وإن أنكرنا دهشتنا به في بعض مواضع السخط أو الملل، فحتى مشهد الملل الساخط هو أمر مدهش!
إذاً، بهذه الكلمات الخفيفة، نستطيع أن نتقدم نحو هجاء التأصيلية بخطى متزنة. ولما كان عالمنا هذا واضحاً، فقد ترك لنا تاريخاً واضحاً أيضاً، لا يحتمل كثرة التأويل، فكما هو الصراع الأزلي بين الخير والشر وفلسفة ما بينهما، هناك أيضاً الصراع القديم بين التأصيلي والمتمرد، أو المحافظ والثوري، كلّها أوصاف تعبّر عن صراع أرهقته أقلام الفلاسفة رغم بساطته الشديدة، كما يعبر عنه نيتشه بقوله في كتاب "غسق الأوثان": "إنه لمن الأهمية بمكان بالنسبة لمصير الشعوب، ولمصير الإنسانية أن تبدأ التربية الثقافية من الموضع الصحيح، أي من الجسد، لا من الروح، كما ورد في المعتقد الخرافي". ومن قبل نيتشه كان باروخ سبينوزا الذي قدّم الجسد على الروح، مع تأكيده على استحالة الوصول إلى الروحانية دون انصهار تام مع الجسد، ولكن ما يهمّنا أكثر في طرحنا هذا، هو الطرح النيتشوي وإسقاطه على الواقع المعيش في المنطقة العربية، وتحديداً فلسطين، خاصة في ما يتعلق بجزئية "المعتقد الخرافي".
النشأة المعاصرة لتأصيلية الإسلام السياسي في فلسطين
بينما تحارب شعوب العالم في سبيل القضاء على أشكال التأصيلية بوصفها حالة من الرجعية، نجد أن شعوب العالم الثالث التي ترتع تحت سطوة الأفكار الدينية الخرافية، لا تزال تبحث عن كل من ينادي بالتأصيلية الإسلامية وتضعه في الصدارة، في محاولة بريئة من تلك الشعوب لاختيار الأصلح، أو من فرض نفسه على أنّه الأصلح، وذلك بعدما شوّه جميع الخيارات الأخرى، بوصفها فاسدة ودخيلة تهدد "القيم العربية" و"العادات والتقاليد"، باعتبار أنّ الشعوب لا تبحث عن سوى النجاة، فهذا هو المدخل الرئيسي للإسلام السياسي الذي يحل رافعاً شعار "الإسلام هو الحل، في الإسلام النجاة".
مع ضرورة التأكيد على الفرق الجوهري بين الإسلام بوصفه ديناً روحانياً خالصاً، وبين وصفه أداة حكم سياسية، فلكل إنسان الحق في اختيار الديانة التي يجد فيها خلاصه الروحي، كما له الحق في عدم الاختيار بالمطلق، إن كان يعرف كيف يدرك الروحانية دون حاجة إلى ديانة، أو دليل للخير والشر.
في البداية، وقبل الانطلاق إلى حالة محاكاة التأصيلية وتقييفها على قدر حاجة الإسلام السياسي في فلسطين، تجب الإشارة إلى أن التأصيلية الحقيقية هي حالة فلسفية لطالما كانت محل جدل وصراع، أي ما بين الثبات والاستجابة للفطرة الراكدة للإنسان، وما بين الثورة والتمرد، هذه هي حالة الصراع بين التأصيلية والتقدمية، فكيف يمكن أن تتحول التأصيلية إلى حالة مطلقة من الرجعية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تمكن رؤيتها واقعاً عند النظر إلى ممارسات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وفلسطين تحديداً كما ذكرنا سابقاً.
ربما تكون التأصيلية الجوهرية، والاتساق مع الفطرة الإنسانية الصرف، أمراً جيداً في حالات الاستقرار النسبي للشعوب، ولكن كيف يمكن أن تستقر الشعوب على حالة واحدة في ظل دوران الزمن إلى الأمام! هذا هو السؤال الذي يدفعنا دوماً إلى البحث عن البديل التقدمي، المحارب للرجعية.
لكل إنسان الحق في اختيار الديانة التي يجد فيها خلاصه الروحي، كما له الحق في عدم الاختيار بالمطلق، إن كان يعرف كيف يدرك الروحانية دون حاجة إلى ديانة، أو دليل للخير والشر
في الواقع الفلسطيني المعاصر، بدأت الحركات الإسلامية بالظهور في فلسطين كمنطقة صراع في أواخر السبعينيات، إذ تفضّل تلك الحركات دائماً الوجود حيث الفوضى، إذ يسهل عليها أن تقيم خيامها فيها، وتوافدت من مصر حيث مركزية الإخوان المسلمين، وبعض الدول العربية، وتمركزت في المساجد ومراكز تحفيظ القرآن، وفي مرافق إسلامية أخرى، ولم يكن لها أي دور فاعل في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بل إنها كانت تحصل على التصريحات بالعمل كـ"جمعيات دعوية" من الحاكم العسكري الإسرائيلي نفسه، وهنا لم تكن تدرك تلك الحركات الإسلامية أنها ستكون حركات إسلام سياسي لاحقاً، فهي حركات عشوائية كانت ولا تزال تدار من الخارج، أما القرار الداخلي فهو قرار تنظيمي فقط.
وبالفعل كانت بداية تلك الحركات الإسلامية بداية دعويّة، إذ رسّخت التطرف الإسلامي ورسخت الأفكار الوهابية، واضطهدت النساء الفلسطينيات من خلال إجبارهنّ على نمط حياة محدد، وأحرقت كل ملامح الفن والجمال، وكان التغول الإسلامي في فلسطين ينضج على مهل تمهيداً لمرحلة الإسلام السياسي التي كانت بدايتها من قطاع غزة، عقب الحروب المتتالية التي عاصرتها المدينة المحاصرة على فترات متقاربة.
قطاع غزة والبداية الفعلية لانتشار الإسلام السياسي
إن الأحداث المتسارعة التي حصلت في قطاع غزة منذ العام 2003 بدءاً من الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من قطاع غزة، والذي شكّل نقطة القوة الأولى لانطلاق الإسلام السياسي من الثكنات العسكرية لحركات المقاومة الإسلامية في قطاع غزة، والتي كانت تخلق نفسها شيئاً فشيئاً. ومما هو جدير بالذكر، أن ذلك الانسحاب الأحادي الجانب كان قد ساهم بشكل مباشر في إنجاح الانقلاب العسكري على الشرعية الفلسطينية في قطاع غزة، وأظهر بعض الحركات كبطل خارق طرد الاحتلال من غزة، ومن ثم تقلد الحكم من أجل إكمال مسيرة تحرير فلسطين. هذا الأمر أكسب حماس خاصةً الكثير من الشعبية داخل الوعي الفلسطيني الجمعي، وكان ذلك هو البداية الحقيقية للإسلام السياسي، خاصة بعد أن خاضت حركات المقاومة الإسلامية والوطنية في غزة أربع حروب، أنهت من خلالها حالة النضال الشعبي، وتمّ احتكار المقاومة على "من يصلح للمقاومة" من وجهة نظرها الإسلامية!
كانت بداية تلك الحركات الإسلامية بداية دعويّة، إذ رسّخت التطرف الإسلامي ورسخت الأفكار الوهابية، واضطهدت النساء الفلسطينيات من خلال إجبارهنّ على نمط حياة محدد
لسنا بصدد الحديث عن تبعات إنهاء حالة النضال الفلسطيني الشعبي ضد الاحتلال الإسرائيلي، واستبدالها بمعادلة قوى متوازنة بين طرفين، ولكن لا بد من الإشارة إلى حالة اليأس والتعب لدى سكان قطاع غزة بعد أن اكتشفوا أنهم كانوا في مسرحية طويلة ذات نهاية مفتوحة، فباتوا يشيرون لبقيّة سكان فلسطين في الضفة والداخل المحتل، بأنّ الإسلام السياسي يضحك عليكم، ولكن من لم يعاصروا الأحداث داخل غزة، لن يستطيعوا أن يتخيلوا حركات المقاومة الإسلامية في مشهد غير مشهد البطل الخارق، والأمل الوحيد لتحرير الأرض، حتى إن دفعوا حريتهم الفكرية ثمناً لذلك، وهذا سيحدث إن لم يواجه الفلسطينيون احتكار الإسلاميين لقضيتهم الوطنية، واستعادة النضال الشعبي، ورفض تحديد شكل المقاومة في قالب واحد فقط.
احتكار الإسلاميين للمقاومة، ووضع شروط صارمة للقبول بنضال الفلسطيني ضد المحتلّ!
إن ما يسعى إليه الإسلاميون هو نزع الروح من الجسد، وهذه وظيفة متطرفي الأديان بشكل عام، نزع الروح ووعدها بالخرافة، وترك الجسد ذابلاً ضعيفاً يتضور جوعاً لأي فكرة من شأنها أن تساعده في الصبر على القهر وانعدام الرؤية.
إن حركات الإسلام السياسي تحارب بشكل منهجي ومدروس أي حراك إنساني صرف، من شأنه إحياء الجسد، كالفن والجمال والأدب، فالجسد الحي وحده هو القادر على خلق الحرية، وتخريب المشروع المتطرف المتفق عليه من يمين الأسياد في إسرائيل، ويمين العبيد في المنطقة العربية، من أجل إبقاء حالة الصراع مستعرة، وبقاء حالة الاسترزاق من هذا الصراع العربي الإسرائيلي. ولعل آخر صيحات محاربة الجسد الحي، هي محاربة الحب بوضوح، ومحاربة التفاعل الإنساني الجنسي الحر، بالحكم عليه كفعل لا يليق بالمناضل ضد الاحتلال، مع وضع شرط الاستقامة الجنسية لقبول نضال الفلسطيني، وهدم الإيمان بالرغبة الجنسية الحرة، من أجل نضال صحيح!
هذه هي منهجية الإسلام السياسي الواضحة في قتل الجسد، ونفي الروح بعيداً، وطمس العقل، من خلال تقييده بقالب واحد، وإشعار الخارج عنه بالخجل من نفسه والعار في كثير من الأحيان، ولكن الحقيقة غير ذلك، فالحرية التي لا تبدأ من جسد حر، هي حرية خاسرة، ليس بإمكانها أن تحقق أي تقدم في الدخول إلى سيرة الشعوب الحرة.
ليس من المنطق تحديد صورة النضال الواحدة، فكل إنسان له مطلق الحرية في التعبير عن نفسه، وجسده، ورغباته الجنسية، دون أن يتعارض ذلك مع مبادئه في ما يتعلق بمواقفه الرافضة لوجود الاحتلال الاسرئيلي، بل إن تحجيم الفلسطيني في قالب مقيد هو مشاركة في احتلاله، ومساهمة واضحة في تعزيز وجود المحتل في عقل الفلسطيني. فالحرية دائماً وأبداً ستظل تسطع من الجسد الحر، والعقل المتنور، أما كل الأصوات التي تنادي بالتأصيلية الرجعية فهي إلى زوال حتمي، ما دام الشعب الفلسطيني ينبض بالحياة، ويطمح إلى حياة تحقق ذاته وكيانه المستقل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...