انتشر مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي في الصومال، ظهر فيه عمدة مدينة مقديشو، يوسف حسين جمعالي، يضرب بالعصا مجموعةً من الشباب من الجنسَين، بدعوى أنّهم ضُبطوا يمارسون أعمالاً منافيةً للأخلاق والآداب. أثار سلوك العمدة استياءً كبيراً بين الصوماليين؛ ففي وقت تكافح فيه البلاد للتخلص من الإرهاب، يفعل جمعالي العكس، بتطبيق ممارسات هذا الإرهاب الذي لطالما عانى منه سكان العاصمة.
سلوك عمدة مقديشو ومحافظ إقليم بنادر في الوقت نفسه، طرح أسئلةً عديدةً حول مفهوم القانون في البلاد، وحول النموذج الذي يقدّمه المسؤولون التنفيذيون للشعب في بلد في مرحلة إعادة التأسيس والبناء، بعد عقود من الفوضى وغياب الدولة المركزية والقانون.
العمدة المحتسب
في نيسان/ أبريل 2023، أصدرت بلدية مقديشو قرارات عدة من بينها إغلاق مقاهي الشيشة ومتاجر بيع التبغ في العاصمة، بناءً على أوامر عمدة المدنية الذي وصف هذه الأشياء بـ"المحرمات والممنوعات". يصف سكان العاصمة عمدة المدينة ومحافظ إقليم بنادر، بأنه رجل متشدد في أوامره، يُقحم نفسه في خلافات دائمة مع السكان، كما حصل مرات عدة وفي أماكن مختلفة. أثار العمدة موجةً كبيرةً من الغضب حين أقدم على ضرب مجموعة من شباب العاصمة من الجنسين، بعد القبض عليهم في أحد المقاهي، بحجة أنهم يمارسون الفاحشة ويرتكبون أفعالاً مخلّةً بالآداب العامة، ويتعاطون المخدرات. ثمة مقطع مُصوّر انتشر لهذه الواقعة، في شهر نيسان/ إبريل الماضي. وفي مجتمع العاصمة الذي يكافح فيه السكان بعد 30 عاماً من الفوضى لتغيير الصور النمطية التي أُلصقت بهم، يأتي سلوك العمدة ليرسل رسالةً إلى الخارج مفادها أنّ مقديشو مدينة غير آمنة للحياة.
أمر عمدة مقديشو، يوسف حسين جمعالي، بإغلاق سبل الترفيه القليلة في المدينة من مقاهٍ وملاهٍ ليلية، زاعماً أنّها أوكار للفاحشة. كما أصدر قرارات بحظر التجوال في العاصمة ابتداءً من منتصف الليل برغم أنّ هكذا قرار من اختصاص رئاسة الجمهورية
تعليقاً على سلوك العمدة، قال مبعوث الرئيس للإغاثة من الجفاف والنائب البرلماني عبد الرحمن عبد الشكور ورسمي: "ليس مناسباً أن يكون المسؤول حاكماً وقاضياً في الوقت نفسه، وينفّذ الأحكام بيده". وفي دولة تحتل مراتب دنيا في تصنيفات النزاهة والشفافية، يصبح النفوذ اللا محدود بيد مسؤول نافذ، خطراً يهدد حياة الملايين.
سلوك الرجل الذي عُيّن في المنصب للمرة الثانية، بث الخوف في نفوس سكان العاصمة والإقليم. شغل يوسف حسين جمعالي منصب عمدة مقديشو ومحافظ بنادر للمرة الأولى، بين 2015 و2017، إبان الفترة الرئاسية الأولى لحسن شيخ محمود، وعاد إلى المنصب للمرة الثانية بعد فوز حسين شيخ بفترة رئاسية ثانية في 2022. من سيئ إلى أسوأ؛ هكذا هي حال سكان العاصمة، إذ سبق العمدة جمعالي في المنصب أمير حرب سابق، سيئ السمعة هو الآخر، يُدعى عمر فنش. أما جمعالي فهو حاكم "الحديد والنار"، كما يصفه سكان العاصمة.
في 2015، وفي أثناء وجوده في منصبه في الفترة الأولى، حذّر العمدة جمعالي سكان العاصمة من إقامة احتفالات بمناسبة أعياد الكريسماس ورأس السنة الميلادية، مؤكداً أن المخالفين سيتعرضون لعقوبات صارمة. جمعالي برّر قراره بقوله: "نحن مسلمون وأعياد الإسلام الرسمية والتقليدية معروفة، ولن نسمح باحتفالات أو مظاهر ابتهاج بمناسبة أعياد لا علاقة لها بالأعراف والتقاليد والشريعة الإسلامية". سلوك جمعالي كان سابقةً في منع احتفالات شعبية ورسمية بمناسبات معينة.
مسؤول فوق القانون
جمعالي الصديق المقرب لرئيس الدولة الحالي حسن شيخ محمود، ورفيق دربه، يحكم العاصمة مقديشو دون التزام بالقانون. أمر الرجل بإغلاق سبل الترفيه القليلة في المدينة من مقاهٍ وملاهٍ ليلية، زاعماً أنّها أوكار للفاحشة. كما أصدر قرارات بحظر التجوال في العاصمة ابتداءً من منتصف الليل، وكأنّ العاصمة في حالة طوارئ، برغم أنّ مثل هذا القرار من اختصاص رئاسة الجمهورية، ولا يُطبّق إلا بعد عرضه على البرلمان.
مخالفاً للقانون، فرض جمعالي غرامةً تُقدّر بنحو 10 ملايين شلن صومالي، على من يخالف القرارات التي أصدرها، على الرغم من أنّ فرض الغرامات بهذا الشكل من اختصاص البرلمان. ومنذ توليه منصبه في أيلول/ سبتمبر 2022، قام بتقييد حركة السكان في العاصمة، بعد إغلاق الطرق والشوارع بالحواجز الخرسانية، مبرراً ذلك بضبط الأمن، برغم أنّ قراراته تسببت في حالة من الشلل المروري في العديد من مناطق المدينة.
والعجيب أنّ جمعالي دعا إلى إزالة الحواجز الإسمنتية في بعض شوارع العاصمة مقديشو في عام 2016، بعد عام من توليه منصبه لأول مرة، مصرّحاً بأنّ "إغلاق الطرق والشوارع لأسباب أمنية لن يدفع التفجيرات ولن يحقق الاستقرار، وأن المجتمع يتضرر باختناق المرور في الشوارع في ظل إغلاق بعض الطرق الرئيسية".
أحمد مؤمن، شاب يسكن في مقديشو، وصف لرصيف22، قرارات العمدة وسلوكه بأنّها "تشبه تلك الأوامر التي تصدر عن حركة الشباب المجاهدين المتطرفة". كانت الحركة تمنع كل مظاهر الفرح والحياة في العاصمة، من حفلات الأعراس والرقص والأغاني والاجتماعات الثقافية والأدبية، بدعوى أنّ ذلك محرّم في الدين. وما يثير الخوف لدى سكان العاصمة أنّ مبررات عمدة المدينة تشبه تلك التي تتبناها حركة الشباب، المصنّفة إرهابيةً.
ذرائع مكافحة الإرهاب
لعقود عانى الصومال ولا يزال يعاني من خطر الإرهاب، المتمثل في حركة الشباب المجاهدين التي تسيطر على مناطق شاسعة في البلاد، ولها نفوذ كبير داخل العاصمة، مع وجود محدود لتنظيم داعش. فور تعيين جمعالي المعروف بـ"مدالى"، في منصب عمدة العاصمة ومحافظ إقليم بنادر، تعهد بمحاربة عناصر جماعة الشباب وملاحقتهم. إعلان الرجل حرباً بلا هوادة على حركة الشباب، يتّسق مع سلطاته كمسؤول للأمن في العاصمة، إلا أنّه بدعوى مكافحة الإرهاب قام باستهداف العشرات ومصادرة الممتلكات. اتّهامات كثيرة طالت العمدة منها الزج بأبرياء في السجن دون إجراءات قانونية ودون تقديمهم إلى العدالة.
نائب في البرلمان يُدعى عبد الرحمن، سجّل مقطعاً مصوراً، بُثّ عبر "يوتيوب"، شنّ فيه هجوماً لاذعاً على عمدة مقديشو، ووجه إليه اتّهامات بمداهمة بيوت المواطنين مخالفاً القانون، وبتهديدهم بالسلاح. وحذّر من استغلال المنصب لتحقيق مصالح شخصية.
الخلفية الأيديولوجية للعمدة
يتحدر يوسف حسين جمعالي من عشيرة "هوية"، التي ينتمي إليها رئيس البلاد، وتلقّى تعليماً دينياً منذ الصغر، ثم تابع تعليمه بعد انهيار الدولة المركزية عام 1991 في القاهرة. يُطلَق عليه لقب "الشيخ"، لعمله مدرّساً للعلوم الإسلامية قبل دخوله معترك السياسة الصومالية. انتمى جمعالي إلى حركة الإصلاح التي تتبنى فكر جماعة الإخوان المسلمين، ومعروف عنه التشدد الديني.
برفقة مجموعة من رموز حركة الإصلاح في الصومال، انشقّ جمعالي وحسن شيخ محمود، وكوّنا تنظيماً آخر، أكثر تشدداً، عُرف باسم "الدم الجديد". خروج تنظيمات جديدة أكثر تشدداً من الأفكار العامة للتيارات التي تنتمي إليها أيديولوجياً، يُعدّ سمةً عامةً في الصومال، إذ خرجت من الاتحاد الإسلامي السلفي تنظيمات جهادية أكثر تطرفاً مثل حزب الإسلام والاعتصام وجماعة الشباب المجاهدين.
ويعدّ كثرٌ من المحللين الصوماليين، تنظيم "الدم الجديد" الذي ينتمي إليه عمدة العاصمة والرئيس حسن شيخ محمود، تنظيماً سرّياً يتميز بالتطرف.
ناشط من مقديشو قال لرصيف22: "من الغريب في السياسة الصومالية انفراد تنظيم متعصب ومتشدد بجميع مناصب الحكومة". السلوك المتشدد من عمدة العاصمة، التي يعيش فيها نحو 2.1 مليون نسمة، له انعكاسات على فرص العمل المحدودة أمام الشباب، إذ يُعدّ قطاع الترفيه المتمثل في المقاهي والخدمات المرتبطة بها أحد أوجه التوظيف المتاحة في دولة لم يتجاوز حجم ناتجها السنوي الإجمالي نحو 7.6 مليارات دولار في عام 2021، بحسب تقديرات البنك الدولي، وبمجموع سكان يبلغ نحو 17 مليون نسمة.
محمد علي، مواطن صومالي من مقديشو، قال لرصيف22: "لقد فقدنا الأمل في كل شيء؛ ليست لدينا وظائف، ولا اهتمام من الحكومة، وبرغم كل هذه المعاناة لم نسلم من اعتداءات عمدة مقديشو". وأضاف: "من الغريب أننا لا نستطيع ممارسة حياتنا العادية، وهذا عيب على البلدية وعلى الحكومة".
أما فاطمة، فقالت لرصيف22: "بدلاً من المشاركة في صنع القرار وبناء مستقبلنا وعيش حياة أكثر حريةً وعدالةً، ها نحن نتعرض للضرب من مسؤول حكومي".
من زاوية أخرى، هناك من يشيد بجهود العمدة جمعالي في أثناء إدارته مقديشو وإقليم بنادر في الفترة الأولى، ويذكرون العديد من الإنجازات في عهده في ما يتعلق بالعمران ومحاربة الفساد. لكن تلك الإشادات لا تخلو من انتماء أيديولوجي أو حسابات معيّنة. أحد الأمثلة على ذلك، والذي يُعدّ مصدر قلق على مستقبل مقديشو في ظل وجود مسؤولين بخلفيات أيديولوجية متطرفة، هو بروز التيارات المتطرفة ودعمها لأمثال عمدة العاصمة في التضييق على الحريات باسم الدين.
"من أهم مسؤوليات محافظ إقليم بنادر وعمدة مقديشو، إصلاح دين الخلق، وحماية الأخلاق الفاضلة، وحراسة الشؤون العامة للمواطنين، ولهذا هو المسؤول عن إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، علماً بأن مناط أعماله يدور حول حراسة الدين، وسياسة شؤون المواطنين"
في مقال منشور في موقع "قراءات صومالية"، بمناسبة تعيين جمعالي في منصبه للمرة الثانية، باسم "فريق التحرير"، جاء ما يلي: "من أهم الواجبات والمسؤوليات لمحافظ إقليم بنادر وعمدة مقديشو، إصلاح دين الخلق، وحماية الأخلاق الفاضلة، وحراسة الشؤون العامة للمواطنين، ولهذا هو المسؤول عن إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق الضوابط الشرعية، علماً بأن مناط أعماله يدور حول حراسة الدين، وسياسة شؤون المواطنين".
تلك الدعوة لمصادرة الحريات والتحكم في حياة المواطنين/ ات، بمخالفة الدستور والقوانين ليست فريدةً، بل تجد صدى واسعاً منذ فوز حسن شيخ محمود برئاسة البلاد في أيار/ مايو الماضي، وهو الأمر الذي يتخوف منه العديد من المواطنين/ ات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 5 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت