شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
من الحبّ إلى العقاب... ماذا جرى لإنانا وزوجها حين نزلا إلى العالم السفلي

من الحبّ إلى العقاب... ماذا جرى لإنانا وزوجها حين نزلا إلى العالم السفلي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ نحن والحقيقة

الثلاثاء 11 يوليو 202310:28 ص

عرفت الميثولوجيا القديمة العديد من القصص التي تتحدث عن الآلهة والأبطال العظام. من تلك القصص قصة الإلهين العراقيين إنانا وتموز، وهي القصة التي قُدر لها الانتشار على نطاق واسع في العديد من أنحاء الشرق الأدنى القديم. تُعدّ تلك القصة نموذجاً ممتازاً لفهم الكيفية التي عبّرت من خلالها المجتمعات القديمة عن أفكارها ومعتقداتها. كما وضحت تلك القصة العلاقة الوطيدة بين طريقة تشكيل الأسطورة من جهة، والظروف الطبيعية من جهة أخرى.

العالم السفلي في المُتخيل العراقي القديم

اعتقد العراقيون القدماء أن هناك عالماً سفلياً يذهب له الموتى بعد أن يفارقوا الحياة. يذكر صمويل نوح كريمر في كتابه "من ألواح سومر" أن هذا العالم عُرف باسم "كور" وتعني جبل. وكانت تلك الكلمة تشير للمناطق الجبلية المتاخمة لأرض سومر. ثم تحول معناها في ما بعد ليشير إلى العالم السفلي الذي تعيش فيه أشباح الموتى. وقد وصف هذا العالم في الميثولوجيا العراقية القديمة بأنه "العالم الذي لا رجعة منه" لأنه لا يمكن لأي شخص دخلَه أن يخرج منه مستقبلاً إلا بعد أن يقدم بديلاً ليحل محله.

بحسب التصور العراقي القديم، كان من المُعتقد أن العالم السفلي يقع تحت العالم العلوي الذي يعيش فيه البشر على سطح الأرض. وكانت الإلهة إيرشكيجال هي التي تحكم هذا العالم 

بحسب التصور العراقي القديم، كان من المُعتقد أن العالم السفلي يقع تحت العالم العلوي الذي يعيش فيه البشر على سطح الأرض. وكانت الإلهة إيرشكيجال هي التي تحكم هذا العالم من معبدها المُشيد من حجر اللازورد، ويساعدها في تلك المهمة الأنوناكي، وهم القضاة السبعة الخاصون بهذا العالم.

بشكل عام، آمن سكان بلاد الرافدين بأن أرواح جميع الموتى ستنتقل إلى العالم السفلي، وأنه لا يوجد مفر من تجاوز هذا المصير المحتوم. في هذا السياق أنشغل العقل العراقي القديم بالبحث في فلسفة الموت والحياة، وظهر ذلك بشكل واضح في ملحمة جلجامش، وهي الملحمة التي تحكي قصة البطل جلجامش الذي خاض رحلة طويلة باحثاً عن سر الخلود، ولكنه عجز في النهاية عن الوصول لهدفه المنشود.

من الملاحظات الجديرة بالذكر أن صورة العالم السفلي في المُتخيل العراقي القديم لم ترتبط بفكرة الحساب والعقاب والثواب بعد الموت. يقول الدكتور نائل حنون في كتابه "عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد وادي الرافدين": "لا يوجد في الواقع أي دليل في النصوص المسمارية يثبت وجود الاعتقاد بقيامة البشر وبعثهم من الموت. وليس هناك ما يثبت إمكانية عودة روح الميت إلى جسده. وحين تتحدث النصوص المسمارية القديمة عن عودتها إلى عالم الأحياء فإنها تقصد عودتها على هيئة أشباح مستقلة عن الجسد.".

من هنا لم يكن العمل الصالح في الدنيا هو السبيل الأمثل للحياة الهادئة المستقرة في العالم السفلي، وساد الاعتقاد بأن الشعائر والطقوس الجنائزية التي تُقام للميت هي العامل الأهم في تحديد حالة الأرواح في العالم السفلي.

إنانا وتموز

عرفت الميثولوجيا العراقية القديمة تيمة نزول الآلهة للعالم السفلي في الكثير من الأحيان. على سبيل المثال تحكي النصوص السومرية عن الإله إنليل الذي قررت الآلهة طرده إلى العالم السفلي بسبب اغتصابه للإلهة ننليل. كما تحكي تلك النصوص قصصاً عن نزول سين إله القمر، وأوتو إله الشمس للعالم نفسه.

يقول نائل حنون في كتابه:  "يبدو أن نزول الإله القمر إلى العالم الأسفل كان بمثابة مناسبة شهرية تجتمع فيها الأرواح... كما أنه كان مناسبة تتم فيها اجتماعات شهرية مشتركة بين آلهة السماء والعالم السفلي، حيث يرد في إحدى التعاويذ: في اليوم التاسع والعشرين تكون الرؤية الأخيرة للقمر، في ذلك اليوم يجتمع آلهة السماء والعالم الأسفل، إنه يوم رحمة".

كان الإلهان إنانا وتموز من أشهر الآلهة العراقية التي نزلت إلى العالم السفلي على الإطلاق. بحسب الميثولوجيا الرافدينية القديمة فإن إنانا ابنة الإله سين والإلهة ننكال، أما أخوها فهو الإله أوتو، وأختها هي الإلهة إيرشكيجال. وكان مركز عبادة إنانا يقع في مدينة الوركاء. وقد عُرفت في الثقافة البابلية باسم عشتار. أما تموز فهو إله الرعي والخصوبة. وهو زوج إنانا الذي وافقت عليه من بين الكثير من الخطّاب الذين تقدموا للزواج منها.

تعود أقدم النسخ التي وصلتنا عن قصة نزول إنانا وتموز للعالم السفلي للنصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. وهي مكتوبة بالسومرية. وعُثر عليها في مدينة أور. أما النسخة الثانية لتلك القصة -والتي تحل فيها عشتار محل إنانا- فتعود لأواخر الألف الثاني قبل الميلاد. وهي مدونة باللغة الأشورية. وقد عُثر عليها في مكتبة أشور بانيبال في نينوى.

تذكر تلك النسخ أن إنانا تركت زوجها تموز، ونزلت إلى العالم السفلي للمشاركة في الطقوس الجنائزية التي ستُقام لروح زوج أختها "من السماء العظمى اتخذت قرارها للتوجه نحو العالم الأسفل، هجرت السماء وهجرت الأرض، ونزلت إلى العالم الأسفل، جمعت النواميس ووضعتها في يدها، وضعت تاج السهل على رأسها، أمسكت عصا القياس وشريط اللازورد بيدها، عقدت أحجار اللازورد الصغيرة على جيدها، وثبتت الأحجار المتلألئة على صدرها".

لمّا وصلت إنانا لبوابة العالم السفلي طُلب منها أن تنزع بعضاً من ثيابها وزينتها عند كل باب من أبواب هذا العالم السبعة. وتذكر القصة أن إيرشكيجال غارت من جمال أختها، وربما ظنت أن إنانا نزلت إلى العالم السفلي لتستولي على العرش. ومن هنا فإن إيرشكيجال تقدم إنانا للمحاكمة "استوت إيرشكيجال المطهرة على عرشها، ولفظ الأنوناكي بحكمهم في حضرتها، فصوبت عينيها عليها، ثبتت فيها نظرة الموت، وقالت الكلمة ضدها، كلمة الغضب والسخط، فاهت بالصرخة ضدها، صرخة التجريم، فتحولت المرأة العليلة إلى جثة هامدة، وعُلقت الجثة على مسمار".

احتفظت الذاكرة العراقية بذكرى نزول تموز للعالم السفلي في فصل الصيف، وبالتحديد في شهر يوليو الذي عُرف بشهر تموز. في هذا الشهر كان الحزن يطغى على الشعب، وينشد الشعراء المراثي.

هنا، يسرع رسول إنانا للذهاب للعالم العلوي ليطلب نجدة الآلهة "رسولها ننشوبر، رسولها للكلمات الطيبة، الذي يحفظ لها الكلمات الصادقة، ملأ السماء بالشكوى لأجلها، وناح في المجمع عليها. طاف في بيت الآلهة لأجلها، لطم عينيه من أجلها، لطم فمه من أجلها، واكتسى كالمتسول بثوب واحد لأجلها... أخذ يندب أمام إنليل: أيها الأب إنليل لا تدع ابنتك تموت في العالم الأسفل، لا تدع معدنك الثمين يُغطى بغبار العالم الأسفل، لا تدع لازوردك النفيس يكسر إلى حجر الحجار... لا تدع إنانا الطاهرة تموت في العالم الأسفل...".

أمام تلك التوسلات يصدر الآلهة حكمهم؛ تعود إنانا للحياة مرة أخرى، وتوافق إيرشكيجال على أن تطلق سراحها لتصعد إلى عالم الأحياء شريطة أن توفر بديلاً لها. وبالفعل تصعد إنانا ومعها مجموعة من الشياطين. ويمرون على بيت إنانا فيجدون تموز يجلس في سعادة وهدوء. تغضب إنانا من زوجها الذي لم يحزن على فقدها فتأمر الشياطين بأن يأخذوه بدلًا منها. ويتمكن تموز من الهرب منهم بعد أن استجاب الإله أوتو لدعواته فحوله إلى حية. ولكن الشياطين تقبض عليه وتنزل به إلى العالم السفلي. ويستسلم الراعي عندها لمصيره التعس "امتلأ قلب دوموزي حزناً ودموعاً، فمضى إلى السهول الواسعة. علَّق نايه حول عنقه وراح يبكي وينوح: ردِّدي بكائي، رددي بكائي، أيتها السهول ألَا فلتبكِ معي، أيتها السهول ألَا فابكِ معي ونوحي عليَّ. أسمعي بكائي سراطين النهر، وأسمعي نُواحي ضفادع الساقية، دعي أمي تندب فقدي".

بعد فترة، تجدب الأرض لغياب تموز عنها، وتندم إنانا على قرارها بحق زوجها. تجتمع الآلهة وتقرر أن يقضي تموز ستة شهور في العالم السفلي ثم يصعد إلى الأرض وتحل محله أخته غشتينانا، إلهة الزراعة والخصوبة.

رموز للطبيعة، وطقوس ممتدة على مر القرون: كيف نفهم القصة؟

عمل الباحثون منذ فترة بعيدة على تقديم تفسير موضوعي لقصة نزول إنانا وتموز إلى العالم السفلي. يحاول الدكتور فاضل عبد الواحد علي في كتابه "عشتار ومأساة تموز" أن يوضح العلاقة بين ذلك النوع من القصص الأسطوري والطبيعة التي أحاطت بالإنسان القديم فيقول: كان الإنسان يتصور أن الكون بما يحتويه من مظاهر طبيعية إنما تسيطر عليها قوى خفية هائلة، وأن تقلب وتغير مظاهر الطبيعة إنما يُعزى إلى تلك القوى نفسها. وعندما جسد الإنسان القوى المهيمنة في آلهة تصورها قياساً على البشر في جنسين مذكر ومؤنث، فقد كان منطقياً أن يعزو كل مظاهر الخصب والتكاثر في الطبيعة بما في ذلك تكاثر الإنسان والحيوان والنبات إلى قوى الخصب الإلهية المتمثلة بالإلهة الأم -التي عُرفت باسم إنانا أو عشتار- وبإله الخصب دموزي أو تموز.

بحسب المصادر التاريخية، كان من المعتاد أن يُقام الاحتفال السنوي بذكرى الزواج المقدس بين الإلهين إنانا وتموز. في وقت محدد كل سنة، كان الكهنة يجتمعون ويقومون بتأدية بعض الطقوس التي تعبر عن الإخصاب. كان الملك أو الكاهن الأعظم يتقمص شخصية الإله تموز، بينما تتقمص الكاهنة شخصية الإلهة إنانا.

يذكر عبد الواحد في كتابه أن الملك كان يأتي من مركز حكمه في مدينة أور إلى المعبد الكبير المكرس لعبادة إنانا في مدينة الوركاء. وكان من المعتاد أن يحمل معه الكثير من القرابين المُهداة إلى إنانا. يرتدي الملك بعدها ملابس خاصة ويدخل إلى أحد الأجنحة الخاصة في المعبد. وتنتظره الكاهنة في هذا الجناح وقد ارتدت الثياب الفاخرة. يتلو الطرفان بعض الصلوات التي يستحضرا من خلالها رمزيتي تموز وإنانا، وكأنهما يتواصلان بشكل مباشر مع الطبيعة وقوى الإخصاب والتكاثر. وبعدها تقع المضاجعة، ويفرح الشعب وتُقام الولائم ابتهاجاً بالخير الكثير الذي ينتظر البلاد. في الألف الأول قبل الميلاد، تداخلت طقوس الزواج المقدس مع عدد من الاحتفالات الدينية الأخرى التي عرفتها بلاد الرافدين. وصار الزواج يُقام في يوم أكيتو، وهو عيد رأس السنة عند البابليين والأشوريين. ولا يزال الكثير من العراقيين يحتفلون بهذا العيد حتى اليوم.

كان مركز عبادة إنانا يقع في مدينة الوركاء. وقد عُرفت في الثقافة البابلية باسم عشتار. أما تموز فهو إله الرعي والخصوبة. وهو زوج إنانا الذي وافقت عليه من بين الكثير من الخطّاب الذين تقدموا للزواج منها

من جهة أخرى، احتفظت الذاكرة العراقية بذكرى نزول تموز للعالم السفلي في فصل الصيف، وبالتحديد في شهر يوليو الذي عُرف بشهر تموز. في هذا الشهر كان الحزن يطغى على الشعب، وينشد الشعراء المراثي التي تحكي عن مأساة الراعي الشاب. وكانت الطقوس المبكية تُمارس على نطاق واسع في أيام بعينها في هذا الشهر. ومنها على سبيل المثال اليوم الثاني، واليوم التاسع، واليوم السادس عشر، واليوم السابع عشر. فضلاً عن الأيام الثلاثة الأخيرة من الشهر.

انتشرت طقوس الحزن على تموز في شتى أنحاء الشرق الأدنى القديم. وأثرت في العديد من الشعوب على اختلاف معتقداتها وشرائعها. على سبيل المثال أشار العهد القديم لتلك الطقوس فجاء في الإصحاح الثامن من سفر حزقيال "... فجاء بي إلى مدخل باب بيت الرب الذي من جهة الشمال وإذا هناك نسوة جالسات يبكين على تموز...".

عمل الباحث السوري فراس السواح في كتابه "لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة" على دراسة الحمولة الرمزية لقصة نزول تموز للعالم السفلي. يقول السواح رابطاً بين تلك القصة واكتشاف الزراعة: "... اكتشاف الزراعة بالنسبة لإنسان العصر الحجري، لم يكن نتيجة فعل بشري، بل نتيجة عون سماوي. وسنبلة القمح الأولى التي زرعها، لم تكن إلا جسد الإله الابن القتيل الذي أرسلت به الأم الكبرى إلى العالم الأسفل، من أجل ابتداء دورة الزراعة والحفاظ على استمرارها؛ فهو الإله الحي؛ الميت الحي الذي يهبط إلى باطن الأرض في الخريف، ثم يعود ساحباً وراءه خضرة الربيع، مكملاً دورة حياته السنوية التي تركزت حولها حياة المستوطنات الأولى ودياناتها وطقوسها...". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image