شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أحدثكم عن يومِ ختاني، يوم هربت

أحدثكم عن يومِ ختاني، يوم هربت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأحد 9 يوليو 202301:29 م

أحدثكم اليوم عن يوم فارق في حياتي؛  يوم ختاني. في ذلك اليوم هربت.

كنت كبيراً بما يكفي لأعرف ما ينتظرني. تذكَّروني عندما تذكَّروا أن عليهم أن يسجلوني في المدرسة؛ "عم إبراهيم الطهّار" بمشرطه ذي اليد الخشبية السوداء وعمي محمد بمظلة سعف النخيل التي سيضعها على وجهي ويقول لي: انظرْ إلى السقف، هناك حمامة. نفس تلك الحمامة التي أعرفها. أحياناً يغير للتمويه ويقول: انظرْ تلك العصفورة. أنا أكره تلك الحمامة وكل العصافير من ختان أخي الأكبر، ولا يمكن أن أتركه يفعل بي ما فعله بإخوتي من قبلي.

رأيت قبل يوم أمي تطلب من أخي أن يركض وراء الدجاجة "الفولي"؛ الدجاجة الرمادية المنقطة. سمعتهم يتآمرون علي، وسمعت أخي الذي ركض وراء الدجاجة يتحدث لأخي الأكبر منه أنهما سيشبعان غداً  باللحم. كل ذلك من وراء ذبح حمامتي التي ربيتها منذ سنوات وكانت لعبتي المفضلة. من أدراني أن عم ابراهيم لن يقطعها بالكامل وقد صارت يده ترتجف من الشيخوخة؟ لذلك هربت. هربت إلى مكان آمن عندما رأيت حركة غير عادية في البيت.

قبل ذلك اليوم ظللت مستيقظاً، فقد سمعت مؤامرة أخرى تقول إن أمي وأختي ستخضبّان لي كفي بالحناء وأنا نائم. الكل يعرف أنني أكره الحناء ورائحتها، لذلك لم أنم ليلتها

قبل ذلك اليوم ظللت مستيقظاً، فقد سمعت مؤامرة أخرى تقول إن أمي وأختي ستخضبّان لي كفي بالحناء وأنا نائم. الكل يعرف أنني أكره الحناء ورائحتها، لذلك لم أنم ليلتها. كنت أتقرفص في فراشي، أضم أصابعي في شكل القبضتين. لن يفتح أحد كفي. بقيت هكذا وأنا أتابع أختي وأمي حتى ضربهما اليأس وهما يتابعانني قبل أن ينهضا للنوم.

لكن في الصباح عادت الحركة، فعلمت أن المؤامرة مستمرة. لذلك هربت. هربت إلى حيث لا أحد يراني أو هكذا اعتقدت. هناك فوق الزيتونة "زيتونة الفرس"، حيث أتدلى كقرد طوال الوقت. لم أكن بعيداً عن فكرة القرد، فقد سمعت أمي مرات تشير لي بـ"قرد العش"،  أي صغير إخوتي. كانت عبارة دلال؛ هكذا كنت أعتقد. المهم أن فكرة القرد أوحت لي بأن أخلق لنفسي مكاناً آمناً بعيداً عن الفوضى من الطلبات الأوامر العائلية فوق شجرة الزيتون. لم أكن أعلم أن أخي الأكبر الذي كان يأكل أكلي في غفلة من أمي كان يعلم أين أختفي.

وقف تحت الزيتونة وأشار لي أن أنزل. اللعين عرف عش القرد (قرد العش) وعلي أن أنزل ليأكل هو الدجاجة بعد أن يذبح عم إبراهيم حمامتي.

أقنعني أنه سيؤمن لي مكاناً  أفضل للاختباء. أن تثق في لصّ؛ هذا هو الخطأ الكبير الذي ارتكبته. كان أخي لصاً كبيراً ومتحيّلاً ومرعباً لكل الحيوانات المنزلية الأليفة. ومع ذلك قبلت. لا يمكن أن أبقى هناك فوق الشجرة. سيأتون لي من كل فج وأنزل في النهاية. تمنيت لحظتها شيئاً واحداً: أن أطير. أطير في السماء ولا أمكّن إبراهيم الطهّار من حمامتي. كانت هناك في السماء سحابة كبيرة كسرير طائر، لكن لم تكن لي أجنحة تمكنني منها. كانت يد أخي اللعين أقرب. من تحت الشجرة كان يشير إلي: انزل، انزل!

طلبت مهلة قليلة. أنزلت بنطالي، وبلت. بلت بحمامتي كاملة وانتشيت بتطاير بولي من على زيتونة الفرس على العالم. كنت كمن يودع حياة ما. أرجعت حمامتي إلى مكانها بعد أن ودعتها ونزلت.

أمسكني أخي من يدي وقادني إلى البيت كأسير حرب. أخذ يقنعني أن العملية لا تؤلم. وأنه مرّ بها، وأن الطهّار لم يعد يقطع بالسكين، بل بمشرط مخدّر لا يؤلم. خانني وسلّمني لهم. كانت السماء تقبلني مودعة وهن يزغردن وأنا أشتمهن في خيالي؛ لماذا تزغردن يا بنات القحبة؟! تلك الكلمة التي تعلمتها من أخي ولا أجرؤ على قولها إلا بيني وبين نفسي، كما الكلمات النابية الأخرى التي تعلمتها منه. تعالت الزغاريد من جديد. هل ستأكلن الدجاجة أيضاً؟ سمعت أخي الآخر يقول إن أبي ذبح أرنباً، فالزوار لن تكفيهم الدجاجة. غضب أخي الذي اعتقلني،  فالأرنب الذي ذُبح كان أرنبه. شتم وسبّ،  فقلت له في خيالي: إن الله انتقم منك أيها الخائن.

عندما كبرت قرأت في التوراة أن اليهود أيضاً يختنون ليدخلوا إلى الديانة اليهودية وأن سيدنا إبراهيم هو أول من ختن أطفاله في تنفيذ عهد بينه وبين الله.

أدخلوني غرفة من الحوش وكانت غرفة نوم والدي. لا أدري لماذا نسميها غرفة أبي مع أنها غرفته هو وأمي. كانت غرفة كل المناسبات المهمة،  لأنها كانت نظيفة وبابها لا زال جيداً. وجدرانها متينة على عكس بقية البيوت التي تتساقط أحياناً حجارتها. في تلك الغرفة تزوج أبي،  وهناك أنجبتنا أمي جميعاً، وهناك خُتن جميع إخوتي،  وهناك تعقد حفلات "العولة" أو تنقية الصوف،  وهناك كانت أمي تدق "السداية" وتنسج. كانت غرفة جميلة لولا ذلك الصوت بسعف النخيل في السقف. كان يسكن معنا ثعبان في السقف يتنقل بين الأغصان بهدوء. في الصيف يصفر أحياناً من الحر. أقنعنا أبي أنه مسالم مثله مثل القطة والكلب والعنز، فقبلنا.

كان ثلاثة يبتسمون في ركن وأمامهم قصعة مقلوبة. كنت في بنطال قصير وكانوا يصوّبون نظرتهم القبيحة نحو أسفل بطني. شعرت أن حمامتي فرّت  مني واختفت بعد أن تقلصت من الخوف. وتخيّلت وجوههم وهم ينزعون بنطالي القصير ولا يجدون شيئاً. لم أكن محظوظاً بالاختباء، ولم أقو على الطيران إلى السحابة، ولم أكن محظوظاً عندما اختطفوا مني البنطال، فقط تدلّت حمامتي أمام عيني وعيون الطهار وعمي التي لمعت ولمع المشرط من وراء مظلة سعف النخيل التي خبؤوا بها وجهي ورأيت خيانته مرة أخرى ذلك القابيل.

كان صوت عمي حشرجة وهو يردد جملته القديمة: انظرْ تلك الحمامة بالسقف.

كنت أعلم أنه لا شيء بالسقف غير الثعبان، ثعباننا الرائع، وأن سحابة النجاة رحلت بعيداً وتركت مكانها بقعة كبيرة سوداء اسمها غدر أخي.

أول عهدي بالرأسمالية المتوحشة

اكتشفت أن الوجع الحقيقي في الختان ليس في المشرط وقطع تلك الجلدة،  إنما ما يؤلم هو ما قبل تلك الحركة الخاطفة من شدّ بالخيط على تلك الجلدة المسماة "القلفة" حتى تصبح جاهزة للضربة القاضية الخاطفة. كنت أصرخ حتى غطى صوتي على صوت عازف المزود.

كان أخي الذي اعتقلني يقف هناك متظاهراً بالأسف.

بعد أن انتهى الأمر ورشّ على الجرح ذلك الدواء الأحمر (نسميه الآن بيتادين) وفوقه البودرة البيضاء، حُملت من فوق تلك القصعة المقلوبة إلى "الحشية" عند الحائط وتعالت الزغاريد.

وضع بجانبي إناء بلاستيكياً  لاستقبال الضيوف الذين كانوا يتقدمون مني ليقبّلوني ويضعوا قطعاً نقدية في ذلك الإناء، وخلال ساعة انتصف الإناء.

تقدّم مني أخي ذلك الذي اعتقلني وعرض عليّ خدماته. كنت صغيراً وقتها ولا أعرف من قيمة النقود إلا قطعة بخمسة مليمات بيضاء، والأخرى بعشرة مليمات، وأيضاً 20 مليماً. كانت القطع غريبة أراها لأول مرة أو لمحتها في كف والدي أحياناً.

سألني: ما رأيك أتكفلني بجمع أموالك على أن آخذ أنا القطع البيضاء وأعطيك الصفراء الذهبية؟

وهكذا تحيّل علي مرة أخرى واستولى على قطع 500 مليم والدينار، وهي أكبر القطع التي أعطاني إياها الزوار، وترك لي ما دون 100 مليم.

يقول بعد ذلك إنه انتزع حقّه، وهذا ثمن الأرنب الذي ذبحوه.

هكذا تعلمت من أخي مربي الأرانب أول درس في الرأسمالية المتوحشة.

هل دخلت الإسلام؟!

أسبوعان من الألم والعطب وأنا أتحرك في ذلك "الشورت" الكبير لأخي الأكبر الذي وصل الركبة حين ارتديته. كنت حريصاً على ألا المس مكان الختان بين فخذي أو اصطدم بشيء، فكان ذلك مؤلماً.

قالت لي أمي: هكذا دخلتَ الإسلام.

عندما كبرت قرأت في التوراة أن اليهود أيضاً يختنون ليدخلوا إلى الديانة اليهودية وأن سيدنا إبراهيم هو أول من ختن أطفاله في تنفيذ عهد بينه وبين الله.

قال الرب لإبراهيم: هو عهدي الذي بيني وبينك وبين ذُرّيَّتك من بعدك، وعليكم أَن تحفظوه: أَن يختتن كلّ ذكر منكم؛ تختنون رأْس قلفة غرلتكم فتكون علامة العهد الّذي بيني وبينكم؛ تختنون على مدى أجيالكم كل ذكر فيكم ابن ثَمانية أَيام، سواءً كان المولود من ذرّيّتك أَم كان ابناً لغريب مشترى بمالك ممّن ليس من نسلك. فعلى كلّ وليد سواءً وُلد في بيتك أَم اشتُري بمالٍ أَن يُختن، فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً. أَمّا الذّكر الأَغلف الَّذي لم يختن، يستأْصل من بين قومه لأَنّه نكث عهدي.

كانت تأتيني كوابيس بين حين وحين أرى فيها أخي الكبير يقيدني بحبل والناس من حولي على وجوههم بؤس وحزن وشيء من الخرف، قبل أن يظهر الطهّار وبيده الشاقور

عندما نزعت الشاش الأخير، وتيبست أطراف "الجرج"، وأطلقت أول بولة براحة على العالم دون أن أشعر بألم، حاولت رسم صورة أرنب على الأرض، لكن الرسم كان يشبه الثعلب.

سمعت أمي تهددنا أحياناً بالختان الثاني وتقول إنه سيكون بالشاقور بدل الموس. وكانت تأتيني كوابيس بين حين وحين أرى فيها أخي الكبير يقيدني بحبل والناس من حولي على وجوههم بؤس وحزن وشيء من الخرف، قبل أن يظهر الطهّار وبيده الشاقور، ساطور كبير حادّ الشفرة كنا نقطع به الخشب.

كلما نهضت من الكابوس فكرت في قتل أخي. الآن صرت أنام لأراني أقتله في منامي. لم أتخلص من هذا الكابوس أبداً.

منذ سنوات لم أعد أسمع خبراً عن أخي. اختفى تماماً من على ألسنة إخوتي. كلما كتبوا لي رسائل قصيرة في المناسبات، لم أجرؤ على سؤالهم عنه. كانت كوابيسه تعقد لساني. كان الشاقور في يدي وأنا أقطع الأخشاب في أيام الثلج فيطلق صوتاً كضغيب الأرنب.

أخطط من مدة لأحتفل بعيد ميلادي الخمسين بالصعود إلى شجرة القينب، لأطلق سراح حمامتي وأرسم الأرنب.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard