طفلة صغيرة للغاية، تمتلك من الأعوام أربعة على الأكثر، تشهد مناوشة لفظية بين والدتها وجدّتها لوالدها. تتطور المناقشة سريعاً لتصبح عراكاً وتبادلاً للجمل الحادة، انتهت بتدخّل الوالد وإصدار فرمان قاطع: "دول ولادها وتعمل فيهم اللي هي عايزاه…".
وبالطبع لم تكن تلك الطفلة الصغيرة تدري أن هذه المناقشة كانت تخصّها، كانت بالتحديد تخصّ جزءاً من جسدها. لم تكن تدري بالضبط ماذا تعني جملة: "محدش هيختن بنتي إلا على جثتي، واللي هيمد إيده على جسمها هقطعها له" التي ظلّت تردّدها بعنف وصدق. لكنها أدركت فيما بعد. أدركت كَمّ الحروب التي خاضتها أمها، السيدة العزيزة "أ"، حتى لا تذوق المرارة التي ذاقتها، كما أدركت لاحقاً أيضاً الثمن الذي دفعته لقاء ذلك.
كانت أمي بطلة حياتي، ولكن…
كتابة هذه الخواطر الشخصية للغاية كانت ضمن رغبة قديمة لدي في الحديث عن السيدات التي أثّرن في حياتي، اللواتي تعلمت منهن ماذا يعني أن أكون "مرا" في مجتمع يستعيب تلك الكلمة. بالطبع على رأس تلك القائمة تتربّع أمي العزيزة، التي كثيراً ما سألتني عن الطريقة التي أراها بها، تلحّ بسؤال مكرّر في كل مناسبة ومن دونها: "وانتى بقى يا شوشو شايفاني ازاي"، وبقدر ما تهربت من الإجابة، أود الآن أن أجيب، إليك أمي العزيزة الطريقة التي أراك بها:
لم أستسغ يوماً جملة "أمي أحسن أم في الدنيا"، وأراها مزيفة وغير مبنية على أساس منطقي، لذلك لم تكن أمي هي أفضل أم في الدنيا، بل كانت تسعى دوماً لتكون أفضل نسخة من نفسها، حتى تحقق الهدف الذي ارتضته -أو ربما لم يكن هناك هدف آخر- لنفسها؛ وهو إخراج أفضل نسخة مني ومن أخي العزيز، وهو ما جعلها في نظري في النهاية أفضل أم قد أحصل عليها قط.
وعليه، منعت أمي عني كل الأذى الذي تعرّضت له وهي طفلة: تعرضتُ لصدمة نفسية من الختان؟ إذن لن يقص أحد جزءاً من جسد بنيتي إلا وأنا جثة هامدة. حُرمت من حنان أمي وأنا طفلة؟ فليكن حنان الدنيا كله يصبّ مني في ابنتي، حتى لا تحتاج لحنان أي شخص آخر. لم أحصل على حريتي وقراراتي الشخصية حتى في زواجي؟ إليك يا عزيزتي كل الحرية -حتى لو سيصاحب ذلك نوبات قلق لا تحتمل- التي يمكن توفيرها لك، ولن يستطيع أحد، سواء كنت حية أو ميتة، أن يرغمك على شيء. والكثير الكثير من القرارات التي اتخذتها أمي في حياتي، فقط لتحميني مما تعرضت هي له. إذن هي إنسانة جيدة حقاً.
في الواقع الأمر ليس بهذه السهولة، فلا يوجد ما يسمى بأشخاص جيّدين كلياً أو سيئين كلياً، ولا وجود للأبيض والأسود في أبناء آدم، لأنه بالرغم من كل ما قدّمته أمي سابق الذكر، إلا أنها، مع الأسف، شخصية سامة، علاقتي بها كانت سامة للغاية، بالأخص في بدايات نضجي، حيث ظلت أمي تذكّرني دوماً في كل موقف، بسبب وبدون سبب، بكَمّ التضحيات التي قدمتها فقط كيلا أكون مثلها، كيلا أحظى بنفس الحظ العاثر الذي أدى بها للتعاسة الأبدية.
لم تكن تلك الطفلة الصغيرة تدري أن هذه المناقشة تخصّها، تخصّ جزءاً من جسدها. لم تكن تدري بالضبط ماذا تعني جملة: "محدش هيختن بنتي إلا على جثتي، واللي هيمد إيده على جسمها هقطعها له"
تحملت أمي علاقة زواج مرهقة عليها أن تضحّي يومياً بجزء من كرامتها حتى لا نتربى بمعزل عن والدنا، كما أخذت على عاتقها دوماً الدفاع عني وعن جرأتي وقراراتي ونمط حياتي المختلف عن محيطي، وخاصة عندما خلعت الحجاب وما ترتب على ذلك من انتقادات عائلية من الجميع، تركتني أمي أنا وعقلي والعديد من الأسئلة التي مرّت على حياتي.
يا إلهي، كيف أتخلص من حجر التضحية الذي يُثقل كاهلي؟
كم أنتِ بغيضة ناكرة للجميل؟ هل تعلمين كم عانت والدتك بسببك؟ هل تعرفين مقدار التضحية اليومية التي كان يجب عليها أن تقدمها كي تحصلي على أبسط الأشياء؟ لكنني لم أطلب منها أن تضحي من أجلي، لماذا عليّ أن أكون دائماً مكبلة بهذه التضحية؟ هل ضحّت أمي بالفعل؟ حتى لو ضحّت، فما شأني أنا؟ في الوقت الذي كنت أنعم في العدم هي من قررت إحضاري لهذا العالم القبيح دون التأكد من توفر أساسيات الحياة لي ولأخي. لماذا لم تكتفِ بأخي، الطفل المؤدب المثالي الذي طالما قارنتني به، ودائماً ما كنت الطرف الخاسر؟ إلام سأدفع ثمن كل تلك التضحيات بحق الجحيم؟
كل تلك الأسئلة السابقة لازمتني على مدار حياتي، وكانت العنصر الأساسي في معادلة الثنائية الوجدانية تجاه والدتي التي جعلت من علاقتنا العلاقة الأكثر تميزاً في حياتي. فمنذ نعومة أظافري، تخبرني أمي -بشكل واضح أو ضمني- عن كمّ المعاناة التي تلقتها في حياتها، وكيف تكرّس حياتها الآن فقط لهدف سامٍ واحد؛ وهو ألّا أعاني، أنا أو أخي، أياً من معاناتها، حتى لو تطلب منها ذلك أكل كبد أي شخص يفكر في إيذائنا حيّاً، حتى لو كان هذا الشخص هو أبي.
ولكم رأيت في مقتبل عمري أمي لا تختلف كثير عن فتيات القوة الخارقات التي كنت متيمة بهن وأنا طفلة. تلك السيدة القوية التي لا تتردّد لحظة في التضحية بنفسها في سبيل حمايتنا، لقد كانت أمي سيدة خارقة بالفعل، وعليه حملت -أنا وأخي- طوال عمري هذه التضحية، حملتها وأنا لا أعلم السبب، لكنني ظللت طوال عمري أشعر بالذنب الشديد تجاه أمي، الذنب من الاعتراض، الذنب من الخطأ مهما كان بسيطاً، الذنب من الترك والابتعاد، الذنب من التعبير عن نفسي وشخصيتي، الذنب حتى من التمتع بما قدمته هي لي من تضحيات.
مع الوقت، مع النضج، ومع ابتلاعي اليومي لسمّ مغلّف بحلوى، حنان مغلف بابتزاز عاطفي، تضحية مغلفة بـ "معايرة"، انفجرت في وجهها ذات مرة قائلة: "يا ستي محدش طلب منك تضحّي!"، فقد طفح الكيل. مؤسف حقاً ردّ فعل أمي، فبقدر ما جرحتها الجملة وأشعرتها بأن كل ما قدمته لم يُطلب ولم يُقدّر، بقدر ما قرّرت أن تزيد من ضغطها وابتزازها العاطفي، حتى أنهك كلاً منا، ولم نرغب في النقاش وتأزمت العلاقة.
لم استسغ يوماً جملة "أمي أحسن أم في الدنيا"، وأراها مزيفة وغير مبنية على أساس منطقي، لذلك لم تكن أمي هي أفضل أم في الدنيا، بل كانت تسعى دوماً لتكون أفضل نسخة من نفسها
لم تكن أمي سيئة، بالعكس تماماً
وأخيراً، مع إنبات زهرة النرجس، استطاعت الطفلة الصغيرة -بعد حرب طويلة مرهقة حقاً- أن تصل للسلام النفسي التام في علاقتها بوالدتها، حيث استطاعت أن تغفر لها كل ما قدمت من أذى غير مقصود، فقط عندما استطاعت أن تدرك أن والدتها ما هي إلا نتاج للبيئة التي خرجت منها، وأنها مع ذلك تحاول جاهدة أن تكون أفضل في كل موقف.
وهنا بالتحديد تكمن عظمة أمي، أنها تتقبّل، حتى لو كان هذا التقبّل يأتي مع الكثير من المناوشات والسجالات والنقاشات الودية والحب والغضب، إلا أنها في النهاية ترضخ، تنزل من برجها العالي الذي بُني لها بحكم كونها أماً وأنها دوماً على حق. تسمع، تفكر وتحلل وفي النهاية تقتنع وتتغير. فمن شدّة حبها لي ولأخي، كان كل ما تخشاه هو أن تخسرنا بأي شكل، بالتالي كانت تبذل مجهوداً كبير للغاية، بالنسبة لمحيطها والطريقة التي نشأت بها، حتى تصل إلى وجهة نظر في المنتصف ترضي جميع الأطراف. وحتى مع كل السمّ الذي دسته في عسلها، يبقى عسلها هو أطيب ما ذقت أبداً، وسيظل حبها وحنانها الذي أغدقت علي بهما، مصباحي الذي ينير لي عتمة طريقي بدونها.
السيدة العزيزة "أ"، يامن تعني تصغير الأم، لم تكوني أبداً تصغيراً للأمومة، بل كنت الأمومة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. بدون وجودك، بدون عقلك وحكمتك، بدون قوتك وصلابتك لما كنت أنا أنا، أنا "المرا" القوية، الجميلة، العفية، القادرة على كل شيء، فما أنا إلا صورة انعكاس مرآتك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع