شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حياة

حياة "الأحلام المزعجة" في مخيم جنين... من يسمع روايات المقهورين في فلسطين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تحاول الفلسطينية سائدة جردات (40 عاماً)، من مخيم جنين، اللاجئة من زرعين القريبة من مدينة أمّ الفحم المحتلة، أن تجد لها ولعائلتها مكاناً علّهم يتمكنون من النوم فيه، عقب الدمار الذي لحق بمنزلها جرّاء العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين، بعد أن اقتحمت قوات الاحتلال المخيم فجر الإثنين الماضي، بنحو 200 آلية عسكرية وجرافة وغطاء جوي بواسطة الطائرات المسيّرة.

يقع مخيم جنين الذي أُنشئ في العام 1953، إلى الغرب من مدينة جنين، على مساحة تُقدَّر بنصف كيلومتر مربع، ويقطنه نحو 12 ألف فلسطيني تتحدر غالبيتهم من منطقة الكرمل وجبالها التابعة لقضاء حيفا، ويُعدّ ثاني أكبر المخيمات بعد مخيم بلاطة في نابلس في الضفة الغربية.

في نهاية الأمر، قررت عائلة جردات العودة إلى مستشفى جنين الحكومي للبقاء فيه والنوم، حتى إصلاح ما يمكن إصلاحه في المنزل الذي استولى عليه جنود الاحتلال لنحو 48 ساعةً، أي حتى نهاية العملية العسكرية.

مشاهد الدمار في مخيم جنين بعد العدوان الإسرائيلي

تقول سائدة: "قرابة الواحدة من فجر الإثنين الماضي، سمعنا صوت انفجار وكنت أساعد طفلَيّ على النوم، ثم بدأت الانفجارات تتوالى، ما أدى إلى تكسير نوافذ المنزل. حاولت اللجوء إلى غرفة أخرى، لكن الدمار كان سيد الموقف، ثم توجهت إلى آخر غرفة في المنزل، وقتها فجّروا باب المنزل واقتحموه، وسط هلع الأطفال وصعوبة المشهد".

وتتابع: "فجّروا حائط الغرفة الملاصقة لمنزل الجيران، وأنا موجودة بالغرفة نفسها. عشت عشر دقائق من الرعب الحقيقي. لم تحدث لي حتى في الأحلام المزعجة". وتصف الفلسطينية جرادات مشهد نزوح العائلة على أنه فصل آخر من فصول النكبة التي عاشها الفلسطينيون في العام 1948، بعد خروج الأطفال والنساء وهم يرفعون أيديهم وسط إطلاق الرصاص، ونزع الملابس عن بعض الشبان.

فجّروا حائط الغرفة الملاصقة لمنزل الجيران، وأنا موجودة بالغرفة نفسها. عشت عشر دقائق من الرعب الحقيقي. لم تحدث لي حتى في الأحلام المزعجة

تتساءل سائدة: "كيف يمكن للأطفال نسيان ما حدث معهم، فهم عاشوا حالةً من الرعب وسط استخدام الطائرات والصواريخ، والعديد من الأسلحة المتطورة؟".

كذلك، كان الاحتلال قد اعتقل نجل العائلة قبل عيد الفطر بيومين، وكان مقرراً أن يتزوج في الثامن والعشرين من الشهر الحالي: "حتى هذه الفرحة، يحرمنا إياها الاحتلال"، تختم حديثها.

لا شيء سوى الدمار

من يمشي في مخيم جنين بعد انتهاء قوات الاحتلال من تدمير ما يُمكن تدميره منه ثم الانسحاب، يستطيع أن يرى الكارثة التي حلّت هناك. انسحب المعتدون، وبدأ الأهالي يتفقدون ما بقي من حياتهم وما صار منها للذكرى؛ بنية تحتية مدمَّرة، طرق كاملة تم جرفها وأصبحت عبارةً عن ممر غائر في الأرض نحو نصف متر بفعل عدد المجنزرات الثقيلة التي جُلبت خصيصاً للحفر. وعلى جانبي الطرق، تناثرت بقايا مركبات المواطنين، وبضاعة المحال التجارية داخل المخيم لم تسلم هي الأخرى من أعمال التدمير، وأصبحت ركاماً وخردة.

حارة الدمج التي استهدفتها قوات الاحتلال لوقت أطول، ودمّرت مسجداً فيها، كانت تشهد صباح يوم أمس الأربعاء توافداً للفلسطينيين عامةً، لمعاينة آثار الدمار الذي لحق بها. يقف أحمد زوايدة (20 عاماً)، أمام منزله الواقع بجانب مسجد الأنصار الذي تم استهدافه في حارة الدمج، ليروي تفاصيل استهداف منزله بالصواريخ برغم وجود العائلة في داخله، ويقول: "لم نشهد سوى الجنون. إنهم يقصفون كل الأماكن. لقد دمّروا كل شيء".

زوايدة وُلد في العام 2003، أي عقب اجتياح مخيم جنين الكبير بعام، لكنه سمع تفاصيل كثيرةً من عائلته، عن تلك المعركة التي لا زالت في أذهان الأهالي. يضيف: "برغم كل ما حدث، لم نعد نخاف من الاحتلال، وأهم شيء بالنسبة لنا سلامة المقاتلين. المنازل والأموال والأرزاق يمكن تعويضها".

داخل منزل زوايده الذي يقطنه مع أعمامه، تجلس جدّته التي لا تقوى على النهوض وقد أصابها المرض، وتحاول إحدى النسوة إطعامها، وسط الدمار الذي لحق بالمنزل. يلتقي أحمد مع زوجات أعمامه اللواتي عايشن عدداً من الاقتحامات للمخيم جنين، وتقول إحداهن: "يومان كانا أصعب من 13 يوماً عشناها في العدوان عام 2002. كانوا يقصفون بشكل عشوائي. إنه القصف الأشد منذ سنوات".

مشاهد الدمار في مخيم جنين بعد العدوان الإسرائيلي

يروي الشاب العشريني أنه منذ اللحظة الأولى للاقتحام، قامت قوات الاحتلال باستخدام عدد من أبناء عائلة البالي في حارة الغبز كدروع بشرية، من أجل توفير الحماية لهم من رصاص المقاومين الفلسطينيين. يقول: "يعيش المخيم ظروفاً صعبةً، من خدمات صحية وتعليمية وغيرها، ونحن لا نريد المأكل والمشرب، نريد من يقف فقط إلى جانبنا وليس من يتركنا نقاتل وحدنا".

المشاهد المتكررة

يتراكم التراب في الشوارع. بعضها يغرق في المياه بفعل تخريب الشبكات المزوِّدة. يحاول المواطنون الذين عادوا إلى منازلهم بعد 48 ساعةً من النزوح أن يصلوا ليتفقدوا ممتلكاتهم. يتلاقى عدد من الأطفال في أحد أزقة المخيم، ويسألون بعضهم عن وضع منازلهم وحاراتهم، فيقول أحدهم: "الوضع مش كثير عنا، الحارة كلها اقتحموها وخرّبوها".

باشرت آليات ثقيلة فلسطينية منذ ساعات فجر الأربعاء، إزالة الركام وإعادة تأهيل الطرق، وهرعت طواقم شركة الكهرباء لإصلاح محوّلات الكهرباء وإعادة تمديد نحو 4،000 متر من خطوط الضغط العالي التي تم تدميرها، ما أدى إلى قطع الكهرباء عن كامل المخيم خلال العدوان.

العائلات التي لم تنَم مذ نزحت من المخيم تحت تهديد قوات الاحتلال بقصف المنازل على رؤوس ساكنيها، عادت قبل بزوغ فجر يوم أمس الأربعاء، لتتفقد بيوتها فوجدت دماراً هائلاً، إلى درجة أنها أصبحت آيلةً للسقوط ولا تصلح للسكن. تقول المسنّة مريم الدمج إن "طيران الاحتلال بدأ بالقصف من دون سابق إنذار، وخرجنا من منازلنا بصعوبة كبيرة تفادياً لأي أخطار أو أذى قد يلحق بنا".

ما حصل اليوم يبدو وكأنه المشهد نفسه الذي جرى في مجزرة المخيم عام 2002. الذاكرة لا تموت، وكأن رحلة اللجوء ستلاحقنا من الجدّ إلى الابن إلى الحفيد

وتضيف بينما تتفقد منزلها الذي لحقه دمار متوسط في النوافذ وبعض الجدران: "ما حصل اليوم يبدو وكأنه المشهد نفسه الذي جرى في مجزرة المخيم عام 2002، عندما شنّ الاحتلال حرباً على مخيم جنين ومسح بيوتاً بأكملها من الوجود. الصورة نفسها تتكرر اليوم، والذاكرة لا تموت. المشاهد تتكرر مع لاجئي المخيم وكأن رحلة اللجوء ستلاحقنا من الجدّ إلى الابن إلى الحفيد".

تشير الدمج بيدها وهي بالكاد تلتقط أنفاسها بعد رحلة العودة وتفقّد المنزل، وتقول: "كل هذا القصف والقوّة والعدوان، يأتي لاستهداف شبّان صغار في السنّ بحجة تدمير المقاومة في المخيم".

في شارع قريب، تجلس إحدى النساء أمام باب منزلها وعليه إشارة الصمّ. ربما حالفها الحظ في عدم سماع ما يجري من حولها من أصوات التفجيرات والصواريخ والرصاص الذي يمكن أن تجده في كل جدار، بالإضافة إلى تلك الفتحات التي صنعها الاحتلال من أجل استخدامها للقنص.

وهناك من يرفض الخروج

على بعد أمتار عدة من الحاجّة الدمج، جلست الحاجة فاطمة الرزه على طوبة أمام منزلها، بعد أن عادت إليه إثر قصفه من قِبل طيران الاحتلال. تقول: "نكبة كبيرة تعرضنا لها بفعل العدوان الإسرائيلي. وكأنهم يعيدوننا إلى نكبة عام 1948 وعدوان عام 2002".

تتابع وهي تشير بيدها إلى حجم الدمار والتجريف اللذين لم يبقيا شيئاً من سيارات المواطنين والبيوت والطرق، وتسرد معاناتها في أثناء خروجها من منزلها وما واجهته من صعوبات كونها تعاني من آلام في رجليها، ولا تستطيع المشي، ولولا تدخل الإسعاف والأهالي لما تمكّنت من الخروج.

أما المسنّة أم قصي طوالبة، والدة أحد شهداء المخيم سابقاً، فقد رفضت الخروج من منزلها على أطراف المخيم وبقيت مع عائلتها حتى لا تعيش رحلة لجوء أخرى بعد ما عايشته في عدوان عام 2002. ملامح الحزن تبدو جليةً على وجهها وهي تمسح دموعها تارةً، وتارةً أخرى ترفع يدها بالدعاء لابنها الشهيد خليل، وتروي أن حجم العدوان هذه المرة كان كبيراً في المخيم، حتى أنه يفوق عدوان ومجزرة عام 2002، وبرغم ذلك فضّلت البقاء في المنزل.

تشير طوالبة إلى والد زوجها المسنّ الذي يبلغ قرابة 93 عاماً، والذي لا يمكن تركه في منزله وحيداً لأنه بحاجة إلى من يساعده ولا يستطيع الحركة، ولذلك استضافته في منزلها لتقوم برعايته وزوجته بدلاً من إخراجه من المخيم.


مشاهد الدمار في مخيم جنين بعد العدوان الإسرائيلي

بين يوم وليلة، كُلّ شيء تبدّل. تقول أم قصي إن "الحياة تحولت إلى جحيم خلال لحظات وتحولت المعيشة إلى حياة صعبة للغاية، وبرغم ذلك لسنا أفضل من الشبان الذين يستشهدون دفاعاً عن المخيم وسنبقى في منزلنا".

في العام 2002، اقتحم الاحتلال الإسرائيلي مخيم جنين لنحو 10 أيام، وفرض حصاراً قوياً عليه وعلى مدينة جنين بشكل عام، ضمن عملية أطلق عليها "السور الواقي"، الأمر الذي أدى إلى استشهاد نحو 52 فلسطينياً وجرح المئات وقتها، بالإضافة إلى تدمير 150 بنايةً سكنيةً، وترك أخرى غير صالحة للسكن وآيلة إلى السقوط بفعل استهدافها بالصواريخ، الأمر الذي جعل نحو 435 عائلةً بلا مأوى.

ويشار إلى أن العملية الأخيرة التي أطلق عليها جيش الاحتلال اسم "البيت والحديقة"، أدت إلى استشهاد 12 فلسطينياً، وجرح نحو 120 منهم 20 في حالة خطرة، داخل مخيم جنين وفي محيطه ما شكّل حالةً استثنائيةً بالنسبة لكثيرين من الذين هبّوا من أرجاء الضفة الغربية كافة لتقديم العون لكل من فيه، فهو المخيم الذي تغنّى به شاعر فلسطين محمود درويش، حين قال: "بداية التحرير من جنين".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image