شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ربما لا يعرف الكثيرون هذه الأغاني

ربما لا يعرف الكثيرون هذه الأغاني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 10 يوليو 202310:19 ص

ربما كلماتها عادية جداً لا تُثير خيال كاتبٍ عظيم، وربما ألحانها تبدو مألوفة بالنسبة لموسيقي عتيق يبحث عن نغمةٍ جديدة، ومن المُحتمل أن أصوات من يغنونها ليست مبهرة تماماً؛ ولكنها تمنحني حالة وجدانية يَصعب عليّ شرحها، وقد لا تكفي كلماتي أبداً للتعبير عَن فرحتي إذا أخطأت خوارزمية يوتيوب ووضعت أغنية منها أمام أذنيّ في جلسةِ أصدقاء.

إنها أربع أغانٍ ليست كالأغاني، أشعر دائماً أنها تفتح شبابيك روحي وتقول لي: هذه هي الكلمات التي انتظرتها، هذا هو التوزيع الموسيقي الذي يفتفت ذكرياتك، هذه هي الأصوات التي تُذكّركَ بالحُب والبلاد والشوارع الضيّقة في المخيم. وأنا كما في كلّ مرة، أستمعُ بجوارحي وأردد الكلمات كتلميذٍ في الثانية ابتدائي، يخاف ألا يردد فيُعاقَب.

خذوا قهوتي

ليس فقط قهوتي، بل قميصي وسروالي وحذاء الحكايات وعطر الخبز ولون النعناع وشجر اللوز، وامنحوني الحرية، فقط الحرية. بدأت أجمّع هذه الكلمات كلّها، بل طوّرت عليها وبدأت أقدّم وأؤخر كأنني ألعب الروبيك. لم أربح، ولكنني بالطبع لم أخسر. كل ذلك حدث، عندما بدأ الفنان محمد أبو سمرة بالعزف على العود، في يومٍ صيفيٍّ حار من أيام خانيونس، وعلى الرغم من عدم انحيازي إلى الأغاني المحلية، إلا أن صوت محمد وكلمات الشاعر حسام شحادة، سحباني من يدي في نزهةٍ إلى مَعلمٍ جديد من معالم المدينة المخفية.

أربع أغانٍ ليست كالأغاني، أشعر دائماً أنها تفتح شبابيك روحي وتقول: هذه هي الكلمات التي انتظرتها، هذا هو التوزيع الموسيقي الذي يفتفت ذكرياتك، هذه هي الأصوات التي تُذكّركَ بالحُب والبلاد والشوارع الضيّقة في المخيم

يقول مطلع الأغنية: "خذوا قهوتي، قميصي، سروالي، وحذاء الحكايات... خذوا ما شئتم من بقاياي، واتركوا الباب موارباً، فألق النور يبهر الاشتياق للحرية". ثمّ بعد كلمات عديدة تتسع الفكرة ويضيق الأفق، فيقول المغنّي: "خذوا قهوتي، لون النعناع، شجر اللوز، نضج المعنى" ولا يتوقف الأمر هنا، بل يمتد ليشمل في مقطعٍ آخر "الأزقة، البيوت، الشوارع، ميادين عاريات، وكأس النبيذ المدوّر". كلّ هذا يتنازل عنه الشاعر، مقابل ورق الصفصاف وبعض ملح الحياة. ولأني كنتُ مُستعداً للتنازل عن أيّ شيءٍ لأجل حياةٍ عليها رشّة ملحٍ تصنع لها نكهة، حفظتُ الكلمات ورددتها كثيراً، حتى أنني كلما شعرتُ بالسّجن، حرّرتُ نفسي بها وكأن النفس تتحرّر أحياناً بالكلمات وبالغناء.

"استناكي ولا"

قَد لا يكون صوت أحمد القريناوي فاتناً، ولكن كلمات أغانيه كذلك. قد لا تُحرّك أغنيته "استناكي ولا" مشاعر الكثيرين، ولكنها طالما عَرّت مشاعري. قد تمرّ كلماتها أمام المُستمعين مرور العابر، ولكنّ دالية العنب أعلى سطح البيت حتماً لها رأيٌ آخر. هذه الأغنية التي اصطدمت بكلماتها قبل سنتين، وأغرقتني في حالةٍ من الحيرة، فما عدتُ أعرف هل أنتظرُ التي أحببتها أم أغلق صفحة الكتاب كأنّ شيئاً لم يكن؟ وما عدتُ أعرف لماذا "ولا مرة تقابلنا تحت الشتا"، وإن كانت "رح تفرق لو ما فكرتي إني ممكن انساكي" أم لا؟ ورغم مرور سنواتٍ طويلة على البُعد والجفاء وقلّة الكلمات، لم أدرِ بَعد "استناكي ولا ما استناكي".

وعلى الرغم من مدّة الأغنية التي لا تتجاوز سبع دقائق ونِصف، إلا أن حيرتي في كل مرةٍ أسمعها فيها تصل إلى سبع ساعاتٍ وأكثر، أدرّب قلبي فيها على "اللوم" وأغرق في مفهومٍ جديدٍ للحُب، مبني على الفُرقة أكثر من الاجتماع، وعلى الخيال أكثر من الواقع، وعلى الشوق أكثر من القُبَل. ويكاد يكون صعبٌ علي ألا أعيد تشغيل الأغنية في كلّ مرة تنتهي فيها، حتى أنني لم أسمعها لمرة واحدة فقط منذ صادفتها، ففي كلّ مرة يكون التكرار دليل الحيرة والحُبّ والاشتياق، كأن أحمد ويمنى يفتحان بصوتيهما شباكاً على حارةٍ بعيدة تسكن فيها حبيبتي، وأظل "أظن إنها رح تفرق، لو شباكك كان جار شباكي".

صباح الخير

في صباحات الوطن البعيدة، كانت هذه الأغنية تُعينني على تجاوز بعض الأيام. كنتُ أستيقظ حينها في السادسة صباحاً وأنا أدندن كلماتها، كرَاعٍ يَرسم طريقَ خِرافه. لعل ما أدهشني في هذه الأغنية ليس كلماتها ولا صوت ليان شحادة التي تغنيها - على الرغم من جمالهما – ولكن ما أدهشني دائماً، كان الحالة التي تصنعها هذه الأغنية، لقد كانت تصنع لي غزة جديدة في حياتي، يمكنني الصعود فيها أعلى جبل والنزول أسفل نهر والركض في شارعٍ طويل لا ينتهي بجدار.

ربما لا يعرف الكثيرون هذه الأغاني، لم يستمعوا إليها في ليلة لا تريد أن تُغادر، ولم يعرّفوا حبيباتهم عليها. ولكنني فعلت. إن هذه الأغاني تفتح شبابيك روحي على الحُب والأمل والحرية، وهذا يكفي لأحبها

لا يقتصر الصباح في الأغنية على الطيبين والعمال والفلاحين، بل يشمل الطفل الذاهب للمدرسة، والطائر الخائف من السّجن، والصياد الذي يرمي شبكته للبحر. وفي تكريس لنظرة الأغنية للحياة اليومية البسيطة، تَعود في مقطعها الثاني لتلقي الصباح على المعلمين والأمهات والجدّات، لتكون الأغنية بذلك يداً طويلة تتجول في المدينة، ناظرةً يميناً ويساراً، متأملةً صباحاً يتكرّر في مشهدٍ سينمائي ولكن هذه المرة دون أن يملّ المشاهدون، فرغم مللي الطويل من صباحات المدينة حينها، إلا أنّ الأغنية قشّرت الملل عن جسدي، وجعلتني أرى أشياء كدتُ أنساها من لوعة القلق والخوف والانتظار.

رام الله زمان

لم أزُر رام الله من قَبل، ولا أظن أنني سأزورها من بَعد، ولكن في كلّ مرة أستمعُ فيها لأغنية "رام الله زمان" أشعر أنني أعرف هذه المدينة بكامل تفاصيلها، شوارعها ومحلاتها ونمط الكتابة على اليافطات والجدران فيها، طريق نُطق أهلها للحروف ورائحة الصباح على شبابيكها، وأشعر أنني سكنتُ فيها طويلاً، ولي فيها أصدقاء وصديقات وشوارع مفضلة ومقاهٍ عزيزة لا يُمكن تجاوزها بالوقت.

يقدّم شادي زقطان بصوته، وزياد خداش بكلماته، لوحة قصصية صغيرة، لا تخلو من الغَرابة والدهشة والخوخ، بموسيقى ترقص بين اليأس والأمل، فلم أستطع أبداً طوال الثلاث سنوات التي مرّت على صدور الأغنية، مِن تحديد حالتي وأنا أستمع إليها، حيث لا أكون حزيناً تماماً، ولا سعيداً تماماً، ولكن ما أشعر به دائماً، هو الحنين الخالص لمدينة اعتقدت أنني أمتلك فيها ذكريات مع محل كعك وامرأة جميلة وطريق طويل ينتهي بليل وشجر، مدينة تعرّفت فيها على حسين البرغوثي ونادية لطفي، ولامستُ فيها الثلج للمرة الأولى في حياتي.

خاتمة

ربما لا يعرف الكثيرون هذه الأغاني، لم يستمعوا إليها في ليلة لا تريد أن تُغادر، ولم يعرّفوا حبيباتهم عليها. ولكنني فعلت ذلك، بل لم يقف الأمر عند هذا الحَد، بل وصل إلى حد أنني صرتُ متطرّفاً في السماع إليها، ولا أتقبّل أيّ انتقاد لا موسيقي ولا سَمعي. وفي كلّ مرّة يعترض فيها أصدقائي على ذوقي في هذه الأغاني، لا أقول سوى جملة واحدة: الفكرة في الحالة، لا في المغني، ولا في الكلمات. إن هذه الأغاني تفتح شبابيك روحي على الحُب والأمل والحرية، وهذا يكفي لأحبها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image